كتب - صابر رمضان «الأرابيسك» فن يشبه فى تناغمه وتناسقه معزوفة قديمة، تشعر وأنت تلمس أجزاءه وكأنك تسمع لحنا قادما إليك من عصور الحضارات الأولى، يأخذك للوراء أكثر من ألف عام، ويعيدك فجأة لتكتشف أنك تعيش فى الألفية الثالثة.. وليبرهن أنه فن لكل العصور، وفن أشكال «الأرابيسك» أحد الفنون اليدوية ذات الطابع الإسلامى العربى وهو فن يقوم على الزخارف بأشكال نباتية وهندسية فى شكل وحدات متكررة ليس فيها أى تعبير حركى، وإنما تعتمد فقط على التكرار بإيقاع منتظم يؤثر جماليا بتغير النور والظل، وبتدرج الكثافة فى الزخرفة، وترسم الزخارف النباتية المتشابكة من أوراق نبات «الأكانب» أو من سعف النخيل، ولقد عمم المستشرقون هذا المصطلح ليدل على الخط العربى فى الزخرفة بصفة عامة. وشهد بروعته العديد من الفنانين العالميين ومنهم بيكاسو الذى قال: «لو كنت قد عرفت بأن شيئا كفن الأرابيسك موجود لما كنت قد بدأت التصوير الزيتى»، وكذلك «مايتس» الذى قال: لوحاتى قائمة على مركب من بقع اللون والأرابيسك. الأرابيسك فى الصدارة شاع فن «الأرابيسك» مع العهود الأولى للإسلام خاصة فى العصر العباسى الذى يعد العصر الذهبى لكل ألوان الفن والعلوم الإسلامية بشكل عام، كما شهد هذا العصر نهضة علمية فى ترجمات مؤلفات «إقليدس» عن الأشكال الهندسية وحساب المثلثات التى اعتمد عليها كركيزة أساسية فن الأرابيسك، ومع توسع الفتوحات الإسلامية ولدت العديد من المدارس الفنية الإسلامية فى مناطق مختلفة، وبالرغم من تنوعها وتعددها إلا أن هناك قاسما مشتركا جمع بينها من حيث الهدف والمضمون وهو الإسلام، وبانتقال الخلافة الإسلامية إلى دمشق فى العصر الأموى ازداد الاهتمام بهذا الفن، وأصبح ذلك نقطة بداية فى تثبيت خصائص الفنون الإسلامية التى استفادت دون شك من الحضارات السابقة وأخذت من فنونها ما يتلاءم مع تعاليم الإسلام، ومن هنا ظهر فن الأرابيسك الذى اهتم بمفهوم واحد وهو ملء السطح والفراغ بشكل محكم وابتعد عن التشبيه، واستعاض عن التجسيد بالخط والظل والحركة الحلزونية المستوحاة من الفن البابلى، وبالتالى كان ضعف الرسم التشخيصى المجسم لا يعود لعدم إتقان الفنان المسلم تقنية الفن الكلاسيكى، حيث استعاض عنه الفنان بالتركيز على الأشكال النباتية، وقد اتخذ فن الأرابيسك الصدارة فى الأماكن المقدسة مثل قبة الصخرة فى القدس وجامع ابن طولون، والجامع الأزهر وقبة مسجد السلطان حسن كما تجدها فى الموصل فى جامع النبى يونس. حقبة مزدهرة ويعود ازدهار صناعة «الأرابيسك» إلى القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؛ حيث زينت أعمال الأرابيسك القصور والبيوت، فقد كان ازدهاره عائدا إلى انتشار الأثرياء والسلاطين ورغبتهم فى إضفاء نوع من التميز على قصورهم ومنازلهم وأمكنتهم وقد امتازت أشغال الأرابيسك بدقة الصنعة وبراعة التنفيذ وتخصصت فى إنجازها مدن وأحياء كاملة شكلت ما يشبه ورش العمل الفنى أو المدارس التعليمية لهذا الفن، ولم يقتصر فن الأرابيسك على الأثاث بطرزه المختلفة بل اتصل أيضا بالمعمار الخاص بالمسجد والقصور، فقد أنشأ فنان الأرابيسك جدرانا كاملة من الأرابيسك فى بعض القصور، بالإضافة إلى إنجازه تحفا مدهشة للأعمدة وتيجانها والمنابر المساجد؛ ولعل هذه التحف كانت سببا فى نقل العثمانيين لحرفيى وفنانى الأرابيسك العرب من مصر والشام إلى اسطنبول بشكل قسرى وذلك لتزيين قصورهم، ما أدى لتدهور هذا الفن فى العصر العثمانى نتيجة هجرة العمالة المدربة إلى تركيا والذين لم يعد معظمهم إلى بلادهم. من الفن إلى الصناعة أول خطوة فى إنتاج قطعة من الأرابيسك تتمثل فى وضع التصميمات والرسومات الهندسية، ثم اختيار أنواع وأحجام الأخشاب الملائمة ثم نقل هذه الرسومات إلى الخشب من خلال طبعها بورق الكربون، وفى الخطوة التالية يتم الحفر إما يدويا أو من خلال ماكينة للحفر على الخشب، وفى المعتاد يتم الحفر الآن من خلال الماكينة، فالفارق أن القوس كان يقوم بتدوير الخشب باليد، أما الماكينة فتعطى سهولة وسرعة فى الدوران فقط، لكن الحفر هو كما كان منذ 100 عام يتم باليد، أما الخطوة الأخيرة فتتلخص فى تجميع قطع الخشب المشكلة لتكوين قطعة فنية من الأرابيسك، ويتم ذلك من خلال فتح عدة ثقوب فى كل قطعة ثم تعشيق بروزات الخشب فى هذه الثقوب وربطها بخيوط، وأخيراً وضعها فى حزام خشبى أو تركيبها فى المنضدة أو المكان المخصص لها، ليتم بعدها فك الخيوط دون استخدام أى مواد لاصقة أو صمغية، وعن مدى الإقبال على مشغولات الأرابيسك يقول صاحب محل بخان الخليلى بالقاهرة: معظم زبائننا من طبقات اجتماعية مرتفعة، فالسوق ممتلئ بقطع أثاث حديثة ولكن سعرها مرتفع أكثر من أسعار الأرابيسك، ولكن الباحثين عن الجمال والتميز يأتون إلينا، فقد قمت بفرش شقق وفيلات كاملة من الأرابيسك دون أن تصل التكلفة لسعر الأثاث الحديث، فسعر المتر مسطح يتراوح بين 1000 و1800 جنيه، ولكن السعر يختلف فى حالة المنابر والشغل المطعم بالصدف لأن طاقم الصالون فى هذه الحالة يتراوح سعره من 10000 إلى 20000 جنيه. تحديات مختلفة ويروى (محمد صبرى) أنه يعمل فى هذه الصناعة منذ أن كان طفلاً عمره سبع سنوات وقد ورثها عن أبيه ومنذ ذلك الحين أخذ عهدا على نفسه بأن يعلمها لأولاده من بعده، ولكن الظروف الاقتصادية الحالية جعلت من المستحيل توريث هذه المهنة، فقد هجرتها العمالة المتخصصة للخارج وإلى مهن أخرى أكثر ربحية، وهذه أولى مشكلات صناعة الأرابيسك ومنها مشكلة الخشب فقد ارتفعت أسعار الخشب خاصة المستورد، فنحن لا نستخدم أخشاباً محلية، بالإضافة إلى الصدف الذى يطعم به شغل الأرابيسك؛ حيث نستورده من عمان، واليابان، ويعتبر محمية طبيعية، لذلك لا يتوافر كثيرا ويضيف: والسر فى استمرار فن الأرابيسك برغم مرور قرون عدة إلى أن هناك من يقدرون هذا الفن الإسلامى ويتذوقونه ويقدرون قيمته، فرغم ارتفاع سعر الأرابيسك إلا أن هناك نوعية من الزبائن لديهم حاسة فنية ولديهم القدرة على دفع قيمة قطع الأرابيسك ويقبلون على شرائه، كذلك يفضل أصحاب القرى السياحية والفنادق مشغولات الأرابيسك وهؤلاء رغم محدودية عددهم ينعشون المهنة قليلا، وبالرغم من الثورة التى حدثت الآن فى عالم الديكور والأثاث، بما فيه الأساليب الحديثة والعصرية أو الكلاسيكية، يظل الديكور العربى محافظا على مكانته شأنه شأن الطراز الهندى والانجليزى والفرنسى، حيث يفرض نفسه فى أى ركن من أركان المنزل حتى لو تم وضعه بين أثاث حديث فمن الممكن المزج بين الطراز الحديث وبعض قطع الأرابيسك. استخدامات معاصرة وعن الاستخدامات الحديثة للأرابيسك فى الأثاث يحكى (هشام خلف عبدالجابر) أحد مهندسى الأثاث أن المشربية أو النافذة بشكلها القديم أحد الاستخدامات الحديثة للأرابيسك، فبالإضافة إلى استمتاعنا بجمال تصميم الأرابيسك الذى يظهر من الداخل والخارج، تستطيع أيضاً التغلب من خلال الأرابيسك على بعض المشكلات كالتهوية أو الاطلاع من الخارج أو تخفيف حدة الضوء وحجب أشعة الشمس عن دخول المكان، كما يمكننا استخدام الوحدات نفسها فى عمل سقف ساقط فى وسط التراث ليخفض الضوء ويضفى شاعرية على المكان، كذلك هناك كونسول الأرابيسك الذين يزين مدخل البيت بمرأته ذات البرواز الخشبى المطعم بالصدف والعاج ويتخذ شكلا إسلاميا يوضع أسفله خزانة مصنوعة من الطراز نفسه، وعلى الجانبين كرسيان من الأثاث الإسلامى، أو ذلك الصندوق الخشبى الذى كان يستخدم فى الماضى كخزانة ملابس تحمل جهاز العروس فى مسيرة زفافها إلى بيت الزوجية، هذا الصندوق يمكننا وضعه فى حجرة الصالون بصورته الأثرية أو يستعمل كمنضدة فى وسط الغرفة أو ينجد أعلاه ليستخدم للجلوس عليه، وهناك أيضا المصابيح المصنوعة من الخشب والمشغولة بفنون الأرابيسك لتضيء أجناب حجرة الاستقبال مما يضفى على أى مكان توجد فيه جماليات الزخرفة وبراعة رسومها، سحراً خاصاً يحملنا إلى زمن جميل بكل بساطة وحميمية.