تحقيق - رحمة محمود / إشراف: نادية صبحي الثقافة هى المعرفة الممزوجة بالكرامة، التى لها إشعاعها الخاص، تلمحه فى بريق العيون ووضاءة الجبهة وجلال العقل ونصاعة الموقف.. إشعاع يكشف الزيف ويصارع التلفيق ويضرب المخاتلة، بهذه الكلمات عبر يوسف إدريس عن رؤيته للثقافة، وتأثيرها على حياتنا. ورغم هذا، تحمل التقارير العالمية عن القراءة فى العالم العربى أرقاماً متدنية جداً؛ إذ يفيد بعضها بأن العرب بمن فيهم المصريون يقرأون ما يعادل 6 دقائق سنوياً فى مقابل 200 ساعة للأوروبى مثلاً. عزوف الناس عن القراءة، خلق نوعاً مختلفاً من المثقفين، أصبح يطلق عليهم «مثقفو الشوارع»، مجموعة من الباعة يسكنون فى المكتبات القديمة، يؤنسون وحدتهم بقراة الكتب الموجودة على الأرفف. حى الدرب الأحمر من الأحياء القديمة التى تذكرنا بتراث تركه لنا أجدادنا من آلاف السنين، فيذهب إليه الناس لمشاهدة ما يقرب من 200 أثر مسجل أغلبها لدى وزارة الآثار وغيرها غير مسجل، منها الكثير من المساجد والزوايا والبيوت والقصور التاريخية والأضرحة والسبل. هناك نوع آخر من التراث، أصبح يتميز به الحى القديم، وهو المكتبات القديمة من التى عفا عليها الزمن حسب تعبير العديد من الأشخاص، حيث باتت ينظر إليها الناس ويختلسون نظرة على الكتب التى عفا عليها الزمن، ثم يرحلون لشراء مستلزماتهم اليومية. الواقع الذى أصبح ينفر من القراءة مكتفياً بمشاهدة الكتب على أرفف المكتبات، جسده تصريح سابق لعادل المصرى، رئيس اتحاد الناشرين المصريين، حيث قال: «المصريين هيفضلوا الأكل والشرب واللبس عن شراء الكتاب». فى زاوية لا يراها الكثير من المارة، يجلس عم عبدالحليم رجل تجاوز الثمانين عاماً، داخل مكتبته القديمة المليئة بكتب التاريخ والسياسية والأدب والفن، لا يخرج من العزلة التى فرضها عليه المجتمع، خاصةً أنه لم يرزقه الله بأطفال تؤنس وحدته، فأصبحت الكتب هى خير جليس وأنيس لتجعله يتحمل شقاء الحياة وعبث الناس. لا يهون عليه مرارة الأيام حسب وصفه، غير قراءة كتب التاريخ، مؤكداً أن التاريخ مدرسة يتعلم منها الناس، لكى يستطيعوا البقاء، مشيراً إلى أن "التاريخ يعج بالكثير من التجارب التى لابد أن نسفيد منها فى حياتنا، ولو الناس بتقرأ التاريخ ماكانش ده بقى حالنا دلوقتي". ولفت إلى أن الناس وخاصةً الشباب تعتبر الكتب مجرد أنتيكات، وليس كنزاً يستفيدون منه، مؤكداً أن المطاعم ومحلات الألعاب أصبحت الأكثر قيمة فى هذا الزمن عن القراءة والثقافة، وقال: «لو خيرتى أى شاب أو فتاة بين الأكل واللعب والثقافة، ستميل الكفة الأولى، والثقافة ستسقط أرضاً». وأكد أن مكتبته سعر الكتاب فيها لا يتجاوز 2 و3 جنيهات، يعنى مبلغ لا يشترى "سندويتش" فى هذا الزمن، ومع ذلك لا أحد يكلف نفسه، ويشترى الكتب للاستفادة، مؤكداً أن لديه الكثير من الكتب التى أصبح لا وجود لها فى المكتبات الكبري. فى زاوية أخرى للبحث عن مثقفى الشوارع، الذين فرض عليهم الواقع قراءة ما تحويه مكتباتهم، ذهبنا لسور الأزبكية أحد المناطق القديمة التى اشتهرت ببيع الكتب القديمة بأسعار زهيدة، حيث كان بداية السور مع بدايات القرن العشرين حينما كان باعة الكتب المستعملة يتجولون ببضاعتهم فى وسط القاهرة على المقاهى لبيعها للمهتمين، ومن ثم كانوا يتوجهون إلى منطقة الأزبكية بوسط القاهرة للتجمع والراحة وتبادل الكتب بينهم، وعاماً بعد آخر تحول المكان إلى أشهر سوق للكتب، وانتشرت به المكتبات. داخل هذه المكتبات، العديد من الباعة، يجلسون وسط روايات ومجلات قديمة وبعض الإصدارات الحديثة، بالإضافة إلى كتب مترجمة وغيرها باللغات الأجنبية، بعضهم يكتفى بالجلوس وقراءة القرآن الكريم، والدعاء أن تكثر مبيعاتهم، وأخرون يرفعون شعار «ما لا يقرأه الناس سنقرأه». وفى أحد أكشاك الكتب، يجلس رجل خمسينى يتصفح الجرائد، فور سؤالى عن أحد كتب التاريخ القديمة، ابتسم لى، وقال: «ياااه بقالى فترة طويلة أوى محدش سألنى السؤال ده». وحكى عم صبحى: «زبون الكتب القديمة أصبح قليلاً جداً، معظم شباب اليوم يفضلون الروايات المنتشرة فى السور، والتى عادةً تكون مزورة من النسخ الصادرة حديثاً، وسعرها يناسب أغلب قراء الرواية»، مشيراً إلى أنه لو هتتباع الرواية بثمنها الأصلى لن يقبل عليها أحد. واستطرد قائلاً: «المكتبة بتاعتى تعج بالعديد من الكتب القديمة، التى لا زبون لها، فأصبحت أصبر نفسى وأحاول أقلد ما يفعله الباعة الآخرون، حيث اشتريت بعض الكتب التعليمية والثقافية وروايات وكتب لغات وغيرها، حتى تظل الحركة مستمرة فى المحل». وأشار إلى أنه قرأ معظم الكتب الموجود فى مكتبته، فدائماً كان يسلى نفسه بالكتب عن جمال عبدالناصر ومحمد نجيب والسادات، مشيراً إلى أنه مهتم بهذه الفترة لأنه عاصرها وشاهد ما حدث فيها، لذلك يحرص على قراءة الكتب التى تتحدث عنها لمعرفة الحقيقة. قاطع حديثه، رجل ستينى، يمسك بأحد الكتب السياسية، قائلاً: «الأزمة الاقتصادية، التى تمر بها البلاد حالياً، أثرت بشكل كبير على نسبة مبيعات الكتب، ما أدى إلى أن بعض المكتبات غيرت نوعية الكتب، استجابة لحركة البيع»، مشيراً إلى أن بيع الكتب الثقافية تراجع، واضطر إلى جمع الكتب المدرسية القديمة الخاصة بطلبة المدارس لبيعها بأقل من أسعار الكتب الجديدة. ولفت إلى أن الكثير من المكتبات الموجودة فى السور، قامت باستبدال الكتب القديمة بلعب الأطفال، وكتب التلوين وكتب الحكايات الملونة، وآخرون فضلوا تجارة الملابس النسائية مرجعًا ذلك إلى أن الناس تريد الملبس والمأكل ولا تملك نقوداً للقراءة. ورغم كل تلك التغيرات، لكن لا تزال مكتبات السور تعج بآلاف الكتب القيمة القديمة والحديثة والمراجع العلمية، بل أن بعضها يتخصص فى مجالات بعينها، منها ما يهتم بالشأن القانونى والأدب والثقافة وأخرى للكتب الدينية، وبعضها بالروايات الأجنبية، وهذا النوع من الكتب يقبل عليه الدارسون فى الكليات العلمية أو طلاب أقسام اللغات. وقال أحمد توفيق، أحد شباب باعة الكتب فى سور الأزبكية: إن الشباب يفضل الروايات كثيراً، وهو من هذا النوع الذى يفضل قراءة الروايات، مشيراً إلى أنه أحياناً يستغل جلوسه فى المكتبة ويقرأ روايات أجاثا كريستى ونجيب محفوظ. وأشار إلى أن الكتب التى تباع فى الأسواق القديمة ليست النسخ الأصلية، أكثرها تطبعه مطابع يملكها أصحاب المكتبات أنفسهم، حيث تشترى نسخة أصلية من أحد الكتب الحديثة أو القديمة وتقوم بطبع مئات النسخ المزورة وغير الأصلية، وتقوم ببيعها فى السور، بنصف ثمنها أو أقل. واستطرد حديثه، قائلاً: «ما يفعله التجار غير قانونى ويكبد الكاتب ودار النشر الأصلية خسائر كبيرة»، مشيراً إلى أن الكثير من دور النشر والمؤلفين حاولوا العمل على وقف هذه الظاهرة، كما تحركت قوات الأمن عدة مرات وداهمت المكتبات وضبطت النسخ وألقت القبض على أصحابها وحررت محاضر، ولكن القوانين دائماً لا تسطيع إيقاف هذا البيزنس. ولفت إلى أن العديد من المكتبات أغلقت بعد أن رحل أصحابها، مشيراً إلى أن ورثتهم لا يهتمون بالثقافة كآبائهم، أو لديهم مصادر أخرى لثقافتهم وأصبحت تلك المكتبات الكبيرة عبئًا عليهم. ويوضح أن بعض الورثة يتبرع بها لإحدى الجهات الحكومية، والبعض الآخر يقرر أن يستفيد منها ماديًا ويعرضها على تجار السور، وتعتبر تلك الصفقات الأكثر ربحاً لتجار الكتب. وفى السياق ذاته، تحدث رجل ستينى يدعى «صبحى» عن حال المكتبات الكبيرة، ذات الأسعار المرتفعة، التى يكون لديها كتب بها عيوب فى الطباعة أو التجليد أو بعض الأوراق الممزقة، تمنح تجار السور تلك الكتب ويقومون بإصلاحها أو بيعها على حالتها بأسعار أقل. وأشار إلى أن غالبية من يعملون فى سور الأزبكية حاصلون على مؤهلات عليا ويعملون فى المهنة حبًا فيها وعرض عليهم الكثير من الوظائف، ولكن عشقهم للكتب والحياة وسطها غلبهم فى النهاية وأخذوها مهنة لهم. ورغم أن القراءة سبيل بعض الباعة لكى ينسوا همومهم، إلا أن هذا لم يحل مشاكلهم التى تزداد يوماً بعد يوم، وأبرزها خوفهم من نقل ممتلكاتهم من سور الأزبكية، حسب ما عبر بعضهم، مدللين على صحة خوفهم، بما قاله زين عبدالهادى، الرئيس الأسبق لدار الكتب والوثائق المصرية فى تصريح سابق له: «لابد من نقل سور الأزبكية من المكان الحالى بالعتبة لأن جمهوره من الفقراء الذين يذهبون إلى ميدان العتبة الذى يشتهر بالمنتجات ذات الأسعار المتدنية». وأشار إلى أن المكان الأفضل للسور، نقله إلى جوار المتحف المصرى قرب ميدان التحرير فهو «مكان مناسب وسيجعل السور يعود إلى سابق عهده». وتدخل فى الحديث، شاب فى الثلاثينات من عمره يدعى محمد، متحدثاً عن حالة الفوضى الموجودة بأقدم سور ثقافى بمصر، الذى صار الزحام وانتشار الباعة الجائلين هما أبرز ملامحه.. وطالب هيئة التنسيق الحضارى بوضع تخطيط حضارى وتصميم معمارى يناسب المكانة الثقافية للسور ويضيف قيمة جمالية له بخلاف الوضع الحالى.. وناشد هيئة الكتاب بتخفيض إيجار الأماكن المخصصة لهم. وأشار إلى أن انصراف الشباب فى المدارس والجامعات عن دخول المكتبات يرجع إلى عدم جدوى القراءة من وِجهة نظرهم وانشغالهم بالبحث عن فرصة عمل لتحسين أوضاعهم المعيشية، لافتاً إلى أنه لا نستطيع أن نصِف كل قارِئ بأنه مثقّف، فهناك بعض الشباب يقرأون، ليس حباً فى القراءة ولا رغْبة فى المعرفة، ولكن اتباعاً للموضة، ويضرب مثالا ب«الكُتب التى تحمِل اسم الراحل الدكتور إبراهيم الفقى فى مجال التنمية البشرية. فرغم أنها مِن أضعف الكُتب بناء فى هذا الفرع، إلا أنها الأكثر مبيعاً»، على حد زعمه.