تشدك إليه رائحة الكتب القديمة، والأوراق الصفراء التي تحمل سر زمن مضي يرفض الاندثار.. إنه سور الأزبكية الذي يختلف شكلا ومضمونا عن كل أجنحة الكتب وأماكن عرض المكتبات في المعرض.. لا تلتقي في مكتباته بحسناوات ممن تتباري دور النشر في الاعتماد عليهن لتسويق منتجاتها، ولا أناقة مدراء يجلسون خلف مكاتب فخمة، وهم يتحدثون خلف نظاراتهم "الماركة". ووجوههم تحمل ابتسامات استهلاكية تحرض الزبون علي الشراء بعبارات مختارة وأساليب احتفالية معلبة. أنت في "سور الأزبكية" تشعر أنك أكثر مصرية، وتنتمي إلي المكان بوصفك واحدا من أهله.. أو هكذا تتمني!.. أغلفة خشنة تحكي تفاصيل طباعة قديمة، وتراب يستوطن صفحات الكتب، تراب تستنشقه فلا تنفر منه، أو تتعالي عليه، وتتعامل معه بألفة طفل ينشرح لوجوده، ويأتنس به، ويتعامل معه كصديق حميم. فوضي العرض تجعل ذهنك مستثارا فيظل نشطا ويمسي أكثر تركيزا وهو يتنقل بين العناوين التي يمكنها أن تجمع كل المجالات بينما تبقي المفاجأة في العثورة علي جوهرة دائما ممكنة الحدوث. إنه مكان للبحث عن الجواهر الثمينة، حيث كتب ومراجع لا يمكنها أن توجد إلا بداخل هذا السور العظيم الذي يحتوي علي ما يجذب إليه (حتي الآن) أسماء كبيرة في الثقافة والأدب. للسور جمهور خاص لا يختلف كثيرا عن شكل العرض، فزواره من كافة الطبقات، ويشغلون مهنا متنوعة، منهم الطلبة وربات البيوت والباحثون والأدباء الصغار والكبار.. و.. و.. خلطة لا يجمع بينها سوي هذا الوله والافتتان بالثقافة واقتناء أقدم الإصدارات علي مر العصور. التنافس علي البيع أوحي لأصحاب المكتبات أن يستأجر كل منهم صبيا أو مراهقا يمتلك صوتا جهوريا فينادي به علي المارة وهو يعلن أسعار الكتب، بينما فضل بعضهم وضع بطاقات الثمن علي كل صنف من الكتب، واللافت أن الأسعار داخل سور الأزبكية كلها تتسم بالرخص مقارنة بمكتبات المعرض التي تشتعل فيها الأسعار. يؤكد صابر صادق صاحب إحدي المكتبات داخل السور أن للأزبكية جمهوره الخاص وكل شخص منهم يبحث عما يفيد تخصصه سواء كان في الأدب والدين والتراث وغير ذلك. وقال: هناك أشخاص مهتمون بالصحف والمجلات القديمة التي لا يمكن أن توجد إلا هنا، وهم يقتنون هذه الصحف والمجلات أو يكونون قد نشروا فيها موضوعات لهم أو يحتفظون بها للذكري، بينما الكتب القديمة والنادرة تجد دائما من يفتش عنها، أما المدرسون والطلبة فهم يبحثون عن الكتب التاريخية التي قد تنفعهم في دراستهم. ويلاحظ صابر أن الفرق بين سور الأزبكية وغيره من المكتبات أنه يحتوي علي الكتب القديمة والنادرة غير الموجودة في أي مكان وبسعر رخيص جدا. سنوات عمل صابر التي قال إنها تزيد عن الثلاثين عاما في هذه المهنة التي ورثها عن والده حين كان طفلا لا يتعدي الخامسة من عمره أكسبته خبرة معرفة زبون يبحث عن الشراء وآخر جاء بهدف الفرجة، وقال إن إصرار الزبون علي الشراء تظهر من درجة اهتمامه بالكتاب وتشوقه في البحث عنه. وميّز صابر بين زبائن تدفع ثمن الكتاب مباشرة وآخرون يحبون الفصال ولا يقتنعون إلا بعد أن يتم تخفيض السعر "والأمور في النهاية تسير بالتراضي" وعن الطريقة التي يحصلون بها علي الكتب قال: نحصل عليها بأكثر من طريقة؛ إما عن بيوت العلماء الذين ماتوا، وأراد أبناؤهم التخلص من المكتبات وبيعها فننذهب إليهم ونشتريها. والطريقة الثانية أن بعض الأشخاص يأتون إلينا في مكتباتنا ويبيعون لنا كتبا استغنوا عنها. والطريقة الأخري هي الحصول علي ما نريد عن طريق مرتجعات المكتبات (أي أن المكتبة تنهي عملها وتصفي ما بها من كتب فتبيع لنا ما تبقي فيها ويتم ذلك في نهايةالمعرض)، وبعض هذه المكتبات في الغالب تكون من خارج مصر ولا تريد أن تتحمل عبء تكاليف نقل الكتب مرة أخري فتستغني عنها. ويقول محمد أبو عقيل: أعمل في المعارض منذ 23 سنة وأستطيع التأكيد علي أن سور الأزبكية له جمهور خاص جدا، يأتي إليه خصيصا، منذ أن دخل السور معرض الكتاب عام 1993 وأهم ما يميز جمهور سور الأزبكية أنه محدود الإمكانيات ويعشق القراءة والثقافة وهم في الغالب طلبة الجامعات الذين يأتون إلي السور فيحصلون علي الكتب بأسعار رمزية خاصة أن أسعار الكتب العلمية غالية جدا ومنها كتب الطب والهندسة والكيمياء والرياضيات. ويتعجب أبو عقيل من مثقفين كبار كانوا دائما يترددون في شبابهم علي السور ولم يهتموا به الآن بعد أن كبرت أسماؤهم ويستثني منهم من استمروا في المجيء إليه ولم يمنعهم منه سوي الوفاة مثل كامل زهيري. ويذكر أدباء ومثقفين كبار مازالوا يكررون زيارتهم إليه كجمال الغيطاني وحلمي النمنم، يأتون للبحث عن الكتب النادرة وأحيانا نحجز لهم هذه الكتب بعد توصيتهم حتي لا تباع لأحد. ويضيف: هناك ناس تأتي إلي المعرض وخاصة سور الأزبكية للتنقيب عن كتب خاصة بهم، وهي كتب قديمة مثل سلسلة كتابي لحلمي مراد وطه حسين والعقاد وغيرهم ممن يزودون بهم مكتباتهم المنزلية فضلا عن كتب الأدب الإنجليزي والأدب الفرنسي. ويشير محمود قاسم إلي أن سور الأزبكية يتميز باحتوائه علي كتب لا توجد في أي مكان غيره وهي كتب قديمة تراثية نفدت طبعاتها، كما أن الزبون في السور يستطيع أن يأخذ حريته في الشراء والفصال الذي يفضله الإنسان المصري ولذلك هو يشعر بأن السور جزء من المجتمع. وعشرات السنوات تثبت أن معظم الكتاب والعلماء تربوا علي سور الأزبكية وكانوا فقراء يذاكرون علي أعمدة الإنارة في الشوارع ! وكان هناك الكثير من الكتّاب الذين يحرصون علي التواجد في الأزبكية مثل أنيس منصور وتوفيق الحكيم ويفاخر بأن الدكتور أحمد زويل في أكثر من لقاء تلفزيوني تحدث عن سور الأزبكية والكتب التي اشتراها منه. ويقول: الكتب التي أبيعها ليس لها مصدر معين وأغلبها يكون من الكتب المنزلية فبعض الناس ممن يسافرون ويبيعون منازلهم وتكون لديهم مكتبة يريدون أن يتخلصوا منها فيأتون بها إليّ أو أن ورثة يريدون التخلص من مكتبة والدهم فيبيعونها للتجار في السور، لذلك فإن معظم الكتب تكون نادرة ولا وجود لها في الوقت الحالي.. كما أن سور الأزبكية متواجد طول الوقت ويعتبر معرضا دائما للكتاب وكنا قديما نفترش الأرصفة أما الآن فقد خصصت لنا أكشاك نبيع فيها كتبنا وهذا أفضل بكثير مما نحن فيه الآن ولكن المشكلة في الباعة الذين يعيقون الناس عن الحركة. ويشير إلي أن أحداث ذكري الثورة أثرت بالسلب علي حركة البيع علي عكس اليوم الثاني للمعرض الذي كان فيه الإقبال كبيرا ونأمل أن تعود الأمور إلي مجاريها ابتداء من السبت. وتحكي عفاف عودة موظفة عن سور الأزبكية فتقول: أجد فيه كل شيء، والكثير من العناوين، وأهمها كتب الطهي، أراها بجوار روايات إحسان عبد القدوس والكتب الدينية فالكتب متراصة بطريقة منوعة وكثير منها لا أجده في المكتبات أجده هنا، كما أن الأسعار هادئة ومتاحة للجميع. ويلتقط منها ألفي يوسف زوجها طرف الحوار فيقول: ما يميز سور الأزبكية عن غيره كتبه المتنوعة سواء للأطفال أو الكبار وهو محفل كامل للكتب خاصة أنه قريب نشتري منه كل ما نحتاج إليه وما يكفينا لعام كامل إلي أن يأتي العام القادم.. لا يهمني سعر الكتب بقدر ما يهمني قيمتها ولا أحاول البحث عنها خارج الأزبكية. أما أحمد سلام فيتحدث عن حبه لسور الأزبكية ويؤكد أنه يأتي للمعرض كل عام ويأتي إلي السور فيجد فيه كتبا قديمة يحبها للعقاد غير موجودة في المكتبات الحديثة.. ويضيف: أحب أن أقتني الكتب القديمة غير الموجودة في الوقت الحالي وهي كثيرة منها للعقاد والعماري، وكتاب "المستظرف في كل فن مستطرف" و"نهاية الأرب في فنون العرب".. ورغم حصولي من قبل علي نسخة من كتاب "صور من الحياة للعماري" فإنني أبحث عن نسخة أخري منه لأنه كتاب رائع وأنصح بإعادة نشره! يذكر أنه من المعروف تاريخيا أن عمر منطقة الأزبكية يعود إلي أكثرَ من سبعةِ قرون، وقد سميت باسم الأمير عز الدين يزبك؛ قائد جيش السلطان قايتباي، الذي قام بتجميل منطقة الأزبكية، وجعلها حديقة للقاهرة ، واحتفظت الحديقة ببركة الأزبكية، واستمرت كذلك حتي أمر الخديو إسماعيل بردمها، وأقام علي جزء منها دار الأوبرا؛ للاحتفال بملوك أوروبا القادمين لحضور حفل افتتاح قناة السويس، فقد كانت بركة قديمة مساحتها حوالي 60 فدانًا، ثم رُدِمَت سنة 1864 وكلف الخديو إسماعيل المهندس الفرنسي "ديشان" مسئول بساتين باريس، بإنشاء حديقة مساحتها 20 فدانا، وبالفعل أنشئت الحديقة، وزُوِّدَتْ بحوالي 2500 مصباح غاز. ظلت حديقة الأزبكية مع ما مَرّ عليها من تغيرات تشتهر بسورها الحديدي الأسود، إلي أن تم هدم السور مع بداية ثورة يوليو 1952م، فتحولت الحديقة إلي مكان يدخله عامة الشعب، وتم إقامة سور حجري مكان السور الحديدي، الذي تحول إلي مكتبات ثقافية، تحولت بمرور الوقت إلي منارة إشعاع للفكر والثقافة، وشيئًا فشيئًا تحول المكان إلي معرض دائم ومفتوح للكتب القديمة. كان باعة الكتب قديما قبل إنشاء السور يطوفون بالكتب علي المقاهي، حتي بدأوا يفترشون كتبهم شيئًا فشيئًا في ميدان العتبة؛ أحدِ أهم ميادين وسط القاهرة، بالقرب من دار الأوبرا، وبمحازاة حديقة الأزبكية . وبدأ البائعون يعرضون كتبهم بجانب السور منذ عام 1926م ، وكثيرًا ما كانت البلدية(شرطة الإشغالات) تطاردهم. وفي عام1957 تم منح هؤلاء الباعة تراخيصَ مؤقتة كباعة متجولين لبيع الكتب، وعندما هُدِمَ السور الحديدي الذي كان حول الحديقة جلس الباعة علي الأرض حول أطراف الحديقة. وفي بداية التسعينيات نُقِلَت أكشاك السور(المحلات الصغيرة المؤقتة) إلي منطقة "الدرّاسة"، ثم عادت الكتب مرة أخري إلي منطقة الأزبكية عام1998م بعد غياب خمس سنوات، وها هي تُنْقَلُ مرةً أخري! وقد بدأ السوق بمجموعة من باعة الكتب القديمة؛ حيث كانوا يقومون بشرائها من (درب الجماميز)، ومكتبات (دار السعادة)، (والآداب) وغيرها، وكانوا في البداية يقومون بشراء الكتب صغيرة الحجم، ويقومون ببيعها علي مقاهي المثقفين (مقهي ريش، وزهرة البستان)، أما في ساعة القيلولة، وحين تُغلِقُ المقاهي أبوابها، فكان هؤلاء الباعة يلجأون إلي ميدان الأوبرا للاستراحة في ظل الأشجار التي كانت تملأ الميدان آنذاك، وأصبح شارع (حمدي سيف النصر)- الذي يفصل بين حديقة الأزبكية والأوبرا الملكية- مكانًا لعرض بضاعتهم من الكتب، ينجذب إليه المارة فيتوقف بعضهم لشرائها.. ومع الوقت استقر الباعة في المكان، وعلي الرغم من غرابة البداية فإن السور أخذ في التطور، وعلي الرغم من ملاحقة السلطات لهم، لقربهم من الأوبرا الملكية -لدرجة أنهم سلطوا عليهم خراطيم مياه سيارات الإطفاء- فإن الباعة تمسكوا بمكانهم، إلي أن وافق رئيس الوزراء (مصطفي النحاس) علي بقاء السور، وتم الترخيص للباعة. واستمر الوضع هكذا إلي أن قامت ثورة 1952م، وقام الرئيس جمال عبد الناصر بإنشاء أكشاك ومكتبات لهؤلاء الباعة، إلي أن تم إنشاء كوبري الأزهر لأنه أدي إلي نقلهم إلي شارع بين الجناين "26 يوليو حاليا" بعد ذلك جاءت المرحلة الثانية من مترو الأنفاق، ونُقِل الباعة -مرة ثانية!- إلي مكان مكتظ بالباعة الجوالين، الذين لا علاقة لهم بالكتب، بالقرب من مستشفي الحسين في منطقة الأزهر. واستمر الحال علي هذا النحو لست سنوات إلي أن تم إعادتهم مرة أخري إلي منطقة الأزبكية، ولكنها كانت عودةً رافقتها مشاكل متعددة، منها إغلاق الباب الخلفي للسور، وافتراش الباعة الجائلين للمدخل الأمامي.