بارتعاشات خفيفة تتضطرب أطراف ستارة المسرح، مبددة شكوك الحاضرين، لتعلن وصول موكب تابعي مولد سيدنا الوالي في "الليلة الكبيرة"، ينجلي الستار فيهوى الركاب على خشبة المسرح في حضور ملائكي، يضج الحضور بهدير من التصفيق الحار الذي مايلبث إلا أن يخمد من فرط التشويق، على مهل تدب الروح في أوصال الدمى ويسري بينها سحرًا يتلألأ في عيون الأطفال و يصيح لمعانه بينها في حماس. جرعة مجزية من المتعة تعيد للطقوس الفاطمية سيرتها الأولى، فتتركك متخبطًا من هول النشوة، بعد أن تتدعوك للغوص في تاريخ الحياة الشعبية المصرية، التي لم يبق منها سوا النذر اليسير، على ألحان سيرة أبو زيد الهلالي وقصص العفاريت والجان التي تجري على الألسنة جريان الذكر والترتيل. تطأ أقدام الدراويش أرض المولد ملوحين في اعتداد بالبيارق والأعلام، تتمايل الرؤوس جيئة وذهابًا طربًا من فرط وجد القلوب الهائمة في ملكوت الشوق لوصل المحبوب، يصبو "اللفّيف"، مرتديًا تنورته المزركشة، بيده اليمنى إلى السماء مستجديًا الرضا، مطأطأ الرأس في خشوع لاستحضار هالة من الكمال تصله بالمحبوب، محتفظًا باليسرى تشير إلى الأرض التي تربطه بماديته وترمز لأصل الجسد النابت من طين، مرددًا "الله" فيسبغ الأجواء بروحانية مهيبة. يصحبك المولد في جولة للغوص داخل تاريخ الحياة الشعبية المصرية: يتناغم هدير ضجيج المولد مع صلصلة دوران الأراجيح، ورفرفة الرايات التي يبعث بها "سيد مكاوي" الأشجان في النفوس، ويحيي مزيج ألوانها البيض والخضر ذكرى طهارة أهل البيت وعفة الأولياء الصالحين، بينما تدوي الطلقات في الهواء، مع حركة زناد بنادق "النشان" صوب "البومب" المتراص على جدار خيمة لاعب البخت، فتتركها أشلاء مبعثرة، وتمني الفائز بهدية قيمة من "الملبن" على هيئة "عروس لعبة" للفتيات وحصان حلاوة للجدعان. تتسرب أجواء سحر المولد إلى وجدان المشاهدين دون مواربة: دقائق ويعلن المنادى بدء فقرات سيرك المولد، يحاول الفنان القدير "شكري عبد الله" أن يشد زمام "شجيع السيما"، بوجهه الذي تضيئه الحماسة وعينين تعلوهما مسحة من اليقظة، تكلل هامته بالتحدي وملامحه التي يملؤهما الإصرار، مع شارب كث يتوج معالم "الفتونة"، وذراعين مفتولتين أثقلتهما مجابهة المصارع والأهول، التي جنت له صدر عريض وبطن منتفخ تكاد تختنق أسفل حزام يشد وثاق خصره النحيل، فيقف متوعدًا "السبع"، يستمد شجاعته من تهليل وصفير الجمهور الذي يضج بالصياح مع زئير الأسد. العرائس مرآة لنبض الشارع السياسي في موالد المحروسة: تعلن قرعات الطبول عن وصول الأراجوز في موكب مهيب يليق بسخرية صلاح جاهين الخالدة، فيلف السكون الأجواء وتعلو هيبة الصمت في انتظار ما يتندر به الساخر الخشبي، الذي اعتاد إشاعة البهجة في الموالد ملوحًا ب "طرطوره" أمام بطش السلطة ومحاولات الحكام إستقطاب مؤيدن جدد من الغجر وأهل الريف، بالموالد على مر التاريخ، إلا أن صانعه أبدى السلامة هذه المرة ساخرًا من بساطة أفق وافدي المولد من أهل الأرياف، الذي اصطفوا لتذوق العجمية اللوز. "الطهور في الموالد" يتحول لطقس روحاني على عتبات الولي: تتراقص الزغاريد على أنغام زفة المطاهر، التي يتقدمها "العريس" الصغير، القابع بين ذراعي والده، في رداء ناصع البياض، يتلألأ تحت أضواء الشموع التي تمتد بها أيادي الصغار عاليًا، يزحف الموكب الذي يزيله ضاربو الدفوف وقارعو الطبول وينظم صفوفه الفنان "رفعت ريان"، محرك العرائس بمسرح القاهرة، بحركات راقصة من أصابعه يتحكم بها في مسيرهم من أعلى منصة المسرح، فيما تختلط أصوات الباعة الجوالين الذي يحتاج قرار الشراء منهم ل "إستخارة" لحزم أمرك، مع وقع أقدام أفواج الأهل والجيران وصهيل الحصان الذي يرافقهم، في طريقهم لعتبة الوالي للتبرك بكرامات "سيده" قبل أن يسلمه والده لمبضع "حلاق الصحة"؛ "المطهرجى". صلاح جاهين يجسد اختلاف النسيج المصري في لوحة فنية بديعة: تطأ أرض المولد شباشب ومراكيب ملونة وحوافر البغال والأحصنة، كأنما أخذ "صلاح جاهين"، بطرف من كافة ألوان النسيج المصري، يطرق بابه الصعيدي، والغجري، ومن الفلاحين والأعيان، وأهل المحروسة، وضيوف من قبلي وبحري، طوفان من "الخلق"، يقوده الفنان "وليد بدر"، محرك الماريونيت، تنسل نحو عتبات قبة الوالي محملين بالنذر والأماني، ينزلون على "المولد" بعد أن أقصتهم مآربهم، صباهم لأهل البيت والصالحين، وخلبهم سحر المولد فأقعدهم عن العودة لأهاليهم مرة أخرى، فيأخذون الخيام ملجًأ لهم مرددين التواشيح سائحين في الملكوت، طالبين نصيبهم من الرضا والقبول. بملامح مغضنة وثق الأزميل ماتركه الزمن على قسماتها الجامدة، وترك تجاعيد خسرت في معركة غير متكافئة مع الأيام، يشدو الريس "حنتيرة" متغزلًا في جميلات المولد "الغزلان"، ويستجدي كرامات الوالي لهداية حبيبته "وتصبح عال"، فتتمايل الحسناوات على وقع أنين الناي وصوت المزمار، وتتراقص ملامحهن مع خفقات الخيط محركة كل مفصل منها على حدى، سيمفونية من الإبداع تتجسد في مشهد متكامل من وحي ارتعاشات خيوط الماريونيت بيد يدي "رفعت ريان"، فنان عرائس بمسرح القاهرة. العرائس تنبض بالحياة على أوتار عود سيد مكاوي: تهبط الغازية المسرح فتعلو الدهشة الهامات وتعيد المتعة تشكيل قسمات الوجوه في مرح، يتمايل خصرها الآخاذ على وقع أشواق مقام "البياتي"، مثيرة لغزًا محيرًا مع كل اهتزازة من أوتار عود "سيد مكاوي"، مزيج من الدلال والأنوثة تفجرت عنه أطرافها الخشبية، أسر "ناجي شاكر" خباياه، ووشت به جفنيها النجلاوين، تاركا العنان للخيال للتأمل فيما تخفياه، قصة عشق جمعت بين "الراقصة"، والباحث في فنون المسرح "محسن عمر"، منذ التحاقه بمسرح القاهرة للعرائس قبل عشرات السنين، تشتعل من جديد مع أول رنة لخلخالها على خشبة المسرح، تطرب لها روؤس المتفرجين وتتهادى في إنسجام مع كل مرة يكشف وشاحها عن مفاتنها الخشبية الأثيرة. ويمسك "شكري عبدالله"، فنان "ماريونيت"، بتلابيب خيوط القهوجي دقدق، فيوزع "التماسي"على الوافدين، ويهم بالوقوف على طلبات الزبائن بعد أن تبين نواياهم، فيغدق عليهم بسيل من الترحيب، بينما يتوعد بمزاجه النزق الرائح والغادي ممن يتسكعون أمام دكانه بلا طائل، ويزجر القاعدين منهم ليهموا راحلين. الموهبة بوابة المتمرسين لخيال الجمهور: ينساب حفيف جلاليب الصبايا الغجريات فى الهواء، متناغمًا مع خلخلة حبات الترتر وخرج النجف المتدلية من المناديل بأويا التي تزين روؤسهن، فيما يتمايلن نحو كل عابر لجمع قوت يومهن، بينما تهوى عصا التحطيب الغليظة بين متبارزين يستعرضان عضلاتهما أمام الجميلات، ومن أحد الأركان يتردد صوت صاحب "الطارة" في نبرة يملؤها التحدي مشجعًا الرواد على الإقتراب في استعراض للفتونة و"المروة"، أحداث انصهرت "سحر منصور" فنانة ماريونت وممثلة مسرح، في تفاصيلها منذ نعومة أظافرها، ووجدت بين قطعها الخشبية مسلكًا لتجسيد فيض مشاعرها، أهلتها إليه قبولها الفطري ورشاقتها مع خفة خطوتها، وخبرتها في التمثيل التي أثقلت هبتها التعبيرية وشحذت دراسة النقد والفنون الشعبية من إحساسها بالشخصيات، الذي منحها سبيلًا إلى خيال الجمهور. وتعود سحر، من جديد لتبث مشاعرها عبر الخيوط وقطع الخشب والقماش البراق فترسم بإهتزازات أصابعها إبتسامة عفوية على وجه العروسة، قبل أن تسري موجات القلق الصارخة بين ضلوعها فترتجف فطرة الأم داخلها خشية فقدان ابنتها الخشب الصغيرة، التي حرمت رفقتها قبيل ختام المولد، فتتلفت بحثًا عن ملامحها بين الوجوه، وتهرع لسؤال المارة على أمل أمل العثور على صغيرتها التي تحمل خلخال يطابق ماترتديه في قدمها اليسرى. المنسيون .. محركو العرائس: أبطال ينتمون لعالم خفي، يرضون بالبقاء في المقاعد الخلفية، على أن تنل دٌماهم جم الشهرة ومقصد الإشادة، يطبعون قبلة الحياة على جبين خيال الأطفال من المتابعين، يمررون لهم القيم والحكم عبر أحداث طواها الزمن، وكتب لها الخلود في الذاكرة، يعلون سردها مرة جديد، دون أن تخالطهم مطامع إحراز أية مكاسب زائلة. تعلو هيبة الصمت على جلبة المولد وتسود حالة من الترقب الأجواء، بينما يتقاسم فنانو الماريونيت حديثًا من جانب واحد مع العرائس، فيتناغمان سويًا، وتدب روح "محمد فوزي بكار"، في أوصال منشد الموالد، الذي يصدح فارغًا فاهه بالتواشيح مع خفقة أصابع محركه، الباحث بفنون المسرح، والذي وجد في قسم النحت بوابة خلفية لجأ إليها كغيره من من عاشقي الدمي وأسيري الخيال، لممارسة تحريك عرائس الماريونت، التي عرجت الكليات وأقسام الفنون بمصر عن إنجاب قسم يستقل بتتدريس هذا الفن، الذي يضرب بجذوره في التراث الشعبي المصري، طريق محفوف بالمصاعب سلكه "بكار"، في سبيل إطلاق العنان لخياله على درجات سلم مسرح العرائس. "الماريونيت في مواجهة الطمس والنسيان": أربعون دقيقة من المتعة الخالص استطاع خلالها رباعى المتعة، الساخر "صلاح جاهين" و العبقري "سيد مكاوى"، "ناجى شاكر" صاحب الأنامل الذهبية، والمخرج واسع الخيال "صلاح السقا"، أن يصطحبك إلى عالم السحر على صهوة الخيال، تضج فيه الدمى بالحياة عبر خيوط يرتعش أحدها فتسرى الحركة في خصر الراقصة، وآخر يهتز فيدعو بائع الحمص زبائنه للإقتراب، عالم مفعم بالحيوية بين ثنايا قطع الخشب، والقماش البراق التي تغزل عالمًا من الأحلام، ما تلبث إلا أن تخلد إليه العرائس في سبات جديد، داخل صندوقها الخشبي الضخم الذي يخفي أسرار فن صامد عبر قرون طويلة، إرثًا ثقيلًا تركه الأولون، تأبى أن تتزعزع شعبيته أمام حمى النسيان وزحف عوالم الرسوم الإفتراضية، وفي تحين لحظة الفراق، فتهتز أطراف جوانب المسرح معلنة إنسدال الستارة فتشق موجات التصفيق الحاد الهواء ويودع المشاهدين أبطالهم في سرور.