كتبت سناء حشيش ألقى فضيلة الإمام الأكبر أ.د أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، رئيس مجلس حكماء المسلمين، اليوم الجمعة، المحاضرة السنوية للمجلس الإسلامي في سنغافورة، والتي جاءت تحت عنوان " دور الأديان في توحيد الأوطان"، وذلك في إطار زيارة فضيلته الحالية إلى جمهورية سنغافورة، وضمن احتفال المجلس الإسلامي السنغافوري بمرور 50 عاما على تأسيسه. قال شيخ الأزهر إن زيارتي لسنغافورة ليس المقصودُ بها زيارة المسلمين فقط؛ بل هي زيارةٌ لشعبِ سنغافورة "مسلمين وغير مسلمين"، من أجلِ تدعيمِ وَحدَتِهم العظيمة، وعَيشِهم المشتَرَكِ، وتقديمهم نموذَجًا رائعًا للأخوَّة في الوَطَن وفي الإنسانيَّةِ، والعملِ يدًا واحدةً من أجلِ مُجتمَعٍ راقٍ مُتقدِّمٍ وقويٍّ. جئتُ لأحيِّي هذا النّموذَج الذي ضرَب أحسنَ الأمثلةِ في تحقيقِ السَّلامِ المجتمعي بين أفرادِ الشَّعب، وبينه وبين الشُّعوبِ المجاوِرَة، وأسألُ الله تعالى أن يُديم على هذا البلد أَمنَها وسلامتَها، وأن يَمُنَّ على البلادِ أجمع نِعمةَ الأمن والسَّلام. وأشار إلى أن الحديثُ عن قتلِ النَّاس باسمِ الأديانِ، والذي عُرِف مؤخَّرًا بظاهرة الإرهابِ، حديثٌ طويلٌ مُحزِنٌ، ولا تتَّسِعُ لبيانِه محاضَرةٌ ولا محاضراتٍ، وأعتقدُ أنني لو استطعتُ أن أوضِّحَ براءَ الدِّينِ، أيِّ دينٍ من هذه الجرائم المنكَرَة التي تُرتَكَبُ باسمِه وتحت لا فِتَتِه - فإنِّي أكون قد وُفِّقْتُ في تحقيق الهدفِ من هذه الزِّيارة. وما أقولُه هنا عن الدِّين الذي أعتنِقُه، يَنطبِقُ في معناه على الأديان الإلهيَّة الأخرى السَّابقةِ على الإسلامِ، وهي أديان وأومِنُ بها وبأنبيائها ورُسُلِها وكُتُبِها السَّماويَّة المُنزَلَةِ، إيمانا مساويا لإيماني بديني.. أكد الإمام الأكبر على أن آياتُ القرآن الكريمِ تقرر أنَّه لا توجد – في منطق القرآن الكريم - أديانٌ مختلفةٌ، ولكن توجد رسالاتٌ إلهيَّةٌ، تُعبِّرُ عن دِينٍ إلهيٍّ واحدٍ، كان الإسلامُ هو الحلقةُ الأخيرةُ فيه، مشيرا الى أن كلمةَ "الإسلام" التي ورَدَت في القرآنِ خمس مرَّاتٍ فقط، وكذلك كلمة "مسلمين" لا يُقصَدُ بها – غالبا - الرِّسالةَ التي نزَلَت على نبيِّ الإسلامِ تحديدًا، وإنَّما يُقصَدُ بها الدِّين الإلهي الذي اختارَه الله لهدايةِ الإنسانيَّةِ كلِّها منذُ بدءِ الخليقةِ وإلى انتهاءِ الزَّمان والمكان.ومن هنا أطلقَ القرآنُ لفظَ "مسلم" على نُوح، وعلى إبراهيم، وعلى يعقوب وأبنائه، وعلى موسى وعيسى ومحمد عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام. وأشار إلى : أن الإسلام في القرآن يطلق على دين واحد مشترك بين الأنبياء جميعا، وأن الحلقة الأخيرة من هذا الدين هي رسالة الإسلام التي نزلت على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين. بل إن شريعة الإسلام هي – في أكثر مناحيها – متطابقة مع الشرائع السابقة. وتسائل شيخ الأزهر قائلًا ما هي علاقة المسلمين بغير المسلمين؟ هل هي علاقة إخوة إنسانية، أو عداوة متبادلة؟ لو بحثنا عن الإجابة لهذا السؤال من نصوص القرآن الكريم فسوف نجد الإجابة في هذا الكتاب المنزل تنبني على أصول ثلاثة، أو حقائق ثلاث تشكل جوهر نظرية الإسلام في القرآن الكريم. الحقيقة الأولى: أن القرآن يقرر اختلاف الناس في الاعتقادات وفي الأفكار والمشاعر والسلوك، وأن هذا الاختلاف سنة إلهية، وأنه باق فيهم إلى يوم القيامة.. الحقيقة الثانية التي تترتب منطقيا على الحقيقة الأولى: هي حقيقة حرية الاعتقاد التي كفلها القرآن للإنسان أيا كان نوع هذه العقيدة، وأيا كان قُربها أو بعدها من الدين الإلهي الصحيح؛ فحُريَّةُ الاعتقاد هي الوجه الآخر لحقيقة الاختلاف، الحقيقة الثالثة هى حقيقة التعارف والتكامل، وتعني أن العلاقة بين المختَلِفينَ الذين يملكون حرياتهم لا يصح أن تكون علاقة صراع ومغالبة؛ وأكد الإمام الأكبر على أن الحرب في شريعة الإسلام إنما هي لدفع العدوان وليس لإكراه الناس على اعتناق الإسلام واشار الى ان الدليل على ذلك أمران: 1- الأول: أن البلاد التي فتحها الإسلام كان المسلمون يخيِّرون أهلَها بين الدخول في الإسلام إذا أرادوا ذلك، أو البقاءِ على أديانهم وشعائرهم ومعابدهم وعاداتهم وتقاليدهم، مع تَعَهُّد المسلمين تَعهُّدًا شرعيًّا بضمان حريَّتهم كاملة في اعتقاداتهم، وحراسة الدولة لكنائسهم، ومعاملتهم بالقاعدة التي نحفظها وهي: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا».. ولم يُسَجِّل التاريخ حالة واحدة دخل فيها المسلمون بلدًا وخيَّروا أهلها بين الدخول في الإسلام أو القتل أو التهجير القسري من البلاد. 2- الأمر الثاني: أن الإسلام يحرم على المسلم أن يقتل في جيش الأعداء الطفل والمرأة والرَّجُل الضَّعيف والأعمى والمُقْعَد والعُمَّال والزُّرَّاع والرُّهبان، وعِلَّة تحريم قتلهم؛ أنهم وأمثالهم لا يحملون السلاح ولا يمثلون عدوانًا مباشرًا على المسلمين، لذلك حَرُم قتلهم، لأن «العدوان» غير متحقق فيهم، بل نقرأ في وصايا قادة جيوش المسلمين: حرمة قتل الحيوان في جيش الأعداء، اللَّهُمَّ إلَّا لضرورة الأكل، وكذلك يحرُم حرق الأشجار وتفريق النحل وهدم المباني والبيوت.. الحفل الكريم! أكد الإمام الأكبر على أن : الإسلام دين السلام ليس بين المسلمين فقط، بل بين المسلمين وغير المسلمين، ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم بعثه الله رحمة للعالمين، ولم يقل القرآن: رحمة للعالمين، بل قال: {للعالمين}، و"العالمين" جمع "عالم"، والعوالم أربعة كما نعرف: عالَم الإنسان، وعالَم الحيوان، وعالَم النبات، وعالَم الجماد. وعلى المسلم الذي يقتدي بنبيه أن يكون مصدر رحمة لنفسه وللمسلمين وللناس أجمعين. وإذا كان الإسلام دين رحمة لكل العوالم؛ فمن المنطقي أن يحرم إراقة الدماء، ولا يبيحها إلا حين تكون حقا للآخر، والذين يقتلون باسم الإسلام مجرمون مفسدون في الأرض، وعقوبتهم معلومة من القرآن الكريم. وأشار إلى أن الإسلام دين يسر في عقيدته وشريعته وأحكامه، وقد أكد القرآن هذا اليسر في موضعين، وبكلمات متماثلة، فقال: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، وفي موضع آخر: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}. ولفت إلى أن الاسلام دين الأخوة الإنسانية، وهذا هو الإمام علي كرم الله وجهه، يقول ناصحًا المسلم: "الناس إما أخ لك في الدين، وأو نظير لك في الإنسانية"، وإذا كانت الأخوة الدينية ترتِّب على المؤمنين حقوقا وواجبات؛ فإن الأخوة الإنسانية ترتب على الناس حقوقا وواجبات أيضا.. وأكد شيخ الأزهر على أن الإسلام دين ينهى عن الغلو والتشدد، ويحذر من التطرف في الفهم، لما يترتب على ذلك من تضييق على الناس في دين الله، ودين الله يسر لا عسر. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إيذاء أهل الكتاب أو ظلمهم فقال: "ألا من ظلم معاهَدا أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه، فأنا خصمه يوم القيامة".. وقال في حديث آخر: "من قتل معاهَدًا لم يَرِح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما".. وقال الإمام الأكبر أعجب من هؤلاء الذين لا يأكلون طعام أهل الكتاب، وهو يقرأون صباح مساء: {اليوم أحل لكم الطيباتُ وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم}، ومن حق المسلم أن يطمئن إلى اللحم الذي يقدم: إذا كان مذبوحا فيأكله، أو بطريقة أخرى غير الذبح فيعتذر عن أكله. وأعجب كذلك من الذين يحرمون تهنئة المسيحيين في أعيادهم وهو يقرأون صباح مساء قوله تعالى في نفس الآية السابقة: {والمحصنات من المؤمنات والمحصناتُ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم}، أي: أحل الله للمسلمين الزواج من المحصنات من أهل الكتاب، فهل يعقل أن يحل الله للمسلم أن يتخذ زوجة مسيحية يبادلها المودة والرحمة، ثم يحرم عليه أن يهنئها بأعيادها!؟ وقد تقولون: هذا الذي تقول يتعلق بمعاملة أهل الكتاب، فماذا عن معاملة المسلم لغير أهل الكتاب؟ والجواب هو قوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين}، وإذن فمطلوب من المسلم شرعا أن يتعامل مع الناس جميعا بالبر وبالقسط الذي هو العدل؛ لأن الله يحب الذين يتعاملون مع غيرهم بهذه الأخلاق. السيدات والسادة: وأكد أنه من المهم جدا في هذا العصر أن نفهم القرآن والحديث النبوي فهما صحيحا أولا قبل أن ننزل به إلى واقع الناس، ومن المهم جدا للمسلمين الذين يعيشون في مجتمعات غير إسلامية، أو مجتمعات تتعدد فيها الأديان والأعراق، أن يندمجوا في مجتمعاتهم اندماجا إيجابيا، وأعني بالاندماج الإيجابي الانخراط في المجتمع، مع التمسك بما يحفظ عقيدتهم وشريعتهم، والمحافظة على هويتهم وأيضا بما يجعلهم أعضاء فاعلين في مجتمعاتهم، يسهمون في تنميتها واحترام القوانين، وأديان الآخرين وعقائدهم وتقاليدهم، واعلموا أن احترام عقيدة الآخر شيء ، والإيمان بها شيء آخر مختلف تماما. وقال ليس المطلوب للمسلم مع غيره إلا الحوار الإيجابي البناء الذي عبر عنه القرآن {بالتي هي أحسن}، وعلينا أن نعلم أنه: لا حوار في العقائد؛ لأن الحوار في العقائد صراع منهي عنه، وأن نبحث عن المشتركات الإنسانية بين المؤمنين وغير المؤمنين، فقد خلقنا الله لنتعارف كما مر في أول الكلام، لا لنتصارع أو ليقتل بعضنا بعضًا...ويعجبني قول أبي عَمرٍو ابن الصلاح (ت.643ه) -رحمه الله – في استدلاله على المسلم يحرم عليه قتل الكفار المسالمين: "ما خلقهم الله ليأمر بقتلهم"، فهذا عبث لا يليق بالحكمة الإلهية، وكلامه هذا إشارة إلى قوله تعالى في سورة التغابن: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن، ولله بما تعملون بصير}، [التغابن: 2]. وقال قدم الله الكافر على المؤمن في الآية، والحكمة في ذلك – كما يقول المفسرون – لأن الكفار أكثر عددا من المؤمنين.