لم أكن أرغب فى الكتابة عن قضية التمويل الأجنبى لبعض منظمات المجتمع المدنى باعتبارها قضية مطروحة على القضاء.. خاصة أنها بدأت بصدور أوامر من النيابة بالتفتيش والقبض، وقد تمت مداهمة بعض المقارات وضبط أوراق ودفاتر ومستندات، وحققت النيابة العامة وأمرت بالحبس الاحتياطى لبعض المتهمين، وصدرت أوامر تجديد من السيد قاضى المعارضات.. ثم قدمت القضية إلى محكمة جنايات القاهرة التى بدأت فى نظرها فعلاً - بغض النظر عما تناولته وسائل الإعلام عن تهديدات أمريكية بمنع المعونة الأمريكية عن مصر!! ثم خروج مبادرة مصرية صميمة من عالم فاضل يطالب بجمع تبرعات من داخل البلاد بقصد الاستغناء عن المعونة الأمريكية.. ثم خروج تصريحات من بعض المسئولين الأمريكان تبشر بقرب الوصول إلى حل مناسب مع مصر للاستمرار فى صرف المعونة، وفجأة نشر بالصحف نبأ تنحى دائرة محكمة جنايات القاهرة عن نظر الدعوى لاستشعار الحرج!! وهنا نتوقف لكى نقول إنه متى أحيلت القضية من النيابة العامة إلى المحكمة فقد دخلت فى حوزة المحكمة ولا يملك أى إنسان أو أى سلطة التدخل فيها لأنها أصبحت فى حوزة المحكمة المختصة، فإذا حدث أن رأت المحكمة التنحى عن نظرها لأى سبب من الأسباب القانونية فإنها تعاد إلى رئيس محكمة استئناف القاهرة ليحدد لنظرها دائرة أخرى من دوائر المحكمة طبقاً للقانون وهو ما حدث بالفعل.. ولكن قبل نظرها أمام الدائرة الجديدة قامت العواصف الإعلامية وتحدثت وسائل الإعلام والصحف عن هبوط طائرة حربية أمريكية بمطار القاهرة - فجأة - لكى تحمل المتهمين الأمريكان!! وفجأة أيضاً تحمل الصحف نبأ مؤداه أن القضية نظرت ليلاً أمام لجنة أو محكمة التظلمات التى قررت الإفراج عنهم وإلغاء قرار المنع من السفر مقابل ضمان مالى قدره اثنين مليون جنيه عن كل واحد من المتهمين الأمريكان وأن السفارة الأمريكية دفعت الكفالات بموجب شيكات بنكية مقبولة الدفع!! وهو موقف فى غاية الغرابة.. وقد أثار العديد من علامات الاستفهام؟ والتعجب! فليس هناك لجنة تظلمات ولا دائرة تظلمات يحق لها التدخل فى قضية باتت فى حوزة المحكمة المختصة تنظرها موضوعاً.. ولماذا تعقد لجنة تظلمات ليلاً؟! ولماذا تدخلت فى قضية مطروحة على المحكمة؟! ولماذا قررت الإفراج وإلغاء المنع من السفر مقابل ضمان مالي؟! ولماذا سمح بسداد الكفالة ليلاً؟! ولماذا فتح البنك المسحوب عليه أبوابه ليلاً ليعتمد الشيكات بختم مقبول الدفع؟! ولماذا تحررت الشيكات قبل صدور القرار بتحديد الضمان المالى أو تلك الكفالات؟! ولماذا كانت هناك طائرة حربية أو عسكرية تنتظرهم للسفر فوراً وبالليل؟! ولماذا يقول مسئول الطيران إنه قام بتحصيل غرامة الهبوط بغير إذن مسبق من تلك الطائرة الأمريكية الحربية؟! ولماذا حملتهم عربات وسيارات مجهزة من السفارة الأمريكية ليلاً إلى المطار؟! ولماذا تم سفرهم بعد وداعهم وتحيتهم من مسئولى السفارة أمام جميع السلطات بالمطار وغيره؟! وغير ذلك الكثير.. ثم.. فجأة تنعقد جلسة الدائرة الجديدة يوم الخميس الماضى لتصدر المحكمة قرارها الرائع بضبط وإحضار المتهمين الهربين.. ولماذا أسمتهم فى قرارها بالهاربين؟ ألم يكن أمامها بالملف قرار الإفراج ورفع الحظر من السفر وما يفيد سداد الضمان المالى لكل متهم؟ ولماذا جاء قول أحد المسئولين بأن الضمان المالى المدفوع ضمان كبير.. فى حين أن التهمة لا تعدو أن تكون جنحة صغيرة؟ ومن اختصاص محكمة الجنح وأن العقوبة فيها تقدر بثلاثمائة جنيه فقط؟ ثم.. أخيراً أتعجب من الثورة العارمة فى أندية القضاة والكثير من الأوساط القضائية الأخرى والمطالبة بتحديد المسئولية والمسئول عن كل ذلك حرصاً على كرامة وسمعة ونزاهة القضاء فى مصر.. وبكل أسف.. قوبل ذلك كله بالصمت من السلطات العليا سواء الحكومة ووزاراتها المختلفة أو المجلس العسكرى - فقد قالت وزيرة التعاون الدولى إنها علمت بالخبر من الصحف!! ويا للعجب.. وهذا ما جعل الأمر يجرى على لسان وتصوير الإعلام والإعلاميين والمفكرين والصحفيين والمحامين وسائر القانونيين بأن تلك العملية تمثل مسرحية وتمثيلية فاشلة فى إعدادها وإخراجها وتنفيذها.. وهذا يمثل وصمة عار لا ولن يمحوها التاريخ. ولله الأمر من قبل ومن بعد. --------- محام بالنقض عضو الهيئة العليا للوفد