"الحياة قصيرة جدا.. كأنني كنت وليدة الأمس".. هكذا قالت "نهلة" التي لا تنفك تفكر في حياتها التي تمر أمام عينيها مسرعة ولا تستطيع أن تمسك بزمامها.. تستطرد قائلة: لا أعرف إن مد الله في عمري أكثر كيف سأعيش فترة كهولتي وعجزي.. فقد وصلت للخمسين من عمري ومازلت أفضل عمل كل شىء بنفسي وبيدي.. تفرغ للعبادة أما "محمد" 45 عاما فيقول: ما وددت أن أفعله دائما هو التقرب من الله سبحانه وتعالى، وكانت الحياة مزدحمة دائما بالأشغال والأعمال التى لا تنتهي، ولكن الآن أشعر أنه يجب ألا يمنعني شىء عن ذلك، فقد نويت أداء فريضة الحج إن شاء الله، وغير ذلك مما يقربني لله سبحانه وتعالى وعلى رأسه المساهمة في بعض الأعمال الخيرية.. فلقد اكتفيت من الدنيا ويجب أن أفكر أكثر في آخرتي. بين أحفادي من ناحية أخرى تقول "رشا" ذات الخامسة والثلاثين عاما: لقد حرصت على تربية أولادي جيدا حتى لا يرميني أحدهم في إحدى دور المسنين وينسوني بعدما أطعن في السن، فأنا لا أتمنى أبدا أن أنفصل عن عائلتي، أتمنى أن يعيشوا معي كلهم في منزل واحد كبير وأن أتمكن من رؤية أحفادي يكبرون ويتزوجون، وأن أكون عضوا فاعلا معهم ويتخذوني صديقة لهم .. الحياة لا تنتهي عند الستين "هبه" 42 عاما فتقول: وددت دائما أن أعيش حياتي.. ولكن حياتي سرقت منى.. لا أعرف كيف وصلت لسن الأربعين.. ولكن ما أثق فيه الآن أنني إن شاء الله سأفعل ما وددت فعله طوال عمري.. فقد زوجت أبنائي وتخلصت من أعباء كثيرة كانت على كاهلي.. الآن أستطيع أن أعيش حياتي وأحقق ذاتي.. فالحياة لا تنتهي عند فترة معينة". أنت مسن..أنت ناضج وتحدثنا أميرة بدران ،المستشارة الاجتماعية والأخصائية النفسية، عن كيفية إعداد كل شخص لاستقبال الفترة الخاصة بشيخوخته.. فتقول أن فترة الأربعينات فترة ناضجة مكتملة في حياة الإنسان السوي؛ حيث يصل لقمة النضوج العاطفي والنفسي والجنسي والعقلي؛ لذا جاءت الآية في القرآن العظيم: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ومرحلة الكهولة أو الشيخوخة مرحلة مثل باقي المراحل التي يمر بها البشر، وتكون من أفضل ما يعيشه الانسان إذا تم الاستعداد لها بما يشمل كل المناحي المختلفة وذلك من خلال الخطوات التالية: • تحديد الأهداف.. فيجب أن نترك الميراث الاجتماعي الخاص بأنها نهاية العمر وأنها فترة الاستراحة وفترة الاستمتاع بالنتائج أو التأهب لمواجهة الأمراض المتتالية.. فهذا في حد ذاته يحمل الإنسان بألم نفسي شديد ويحطم معنوياته ويقتل أي جهد أو فكر في تلك المرحلة.. ولو راجعنا تاريخ المبدعين في مساحات مختلفة في حياتنا لوجدنا أن معظمهم تألق وتبلورت أفكاره في الأربعينيات وما بعدها، والأمثلة كثيرة مثلا على المستوى الدعوي- الشعراوي، الغزالي،- وعلى المستوى العلمي- زغلول النجار، زويل،..- وعلى المستوى الأدبي- نجيب محفوظ، والعقاد..- وعلى المستوى السياسي هناك الكثيرون، حتى على المستوى الخاص بتنمية البشر هناك المرحوم رائد التنمية البشرية ابراهيم الفقي... إذن هي مرحلة مناسبة لوضع أهداف وأحلام لاستكمالها، أو حتى بداية أهداف وأحلام جديدة بعد أن يكون الانسان عرف نفسه وطاقاته وقدراته بشكل أفضل ليضعها في المساحة المكملة لما بدأ. • عدم الاستسلام .. للهروب من العلاقات غير المرضية مع الأبناء أو الأهل بالجلوس أمام التليفزيون ليل نهار، أو الحديث والشكوى عن التقصير لأنه دليل عدم استخدام طاقتك وخبرتك في أمر مفيد لك ولغيرك، ولا مانع من إعادة ترتيب وتنظيم وترميم ما حدث لك من تلف في تلك العلاقات بدلا من الهروب السلبي بمزيد من المشاهدة أو مزيد من الشكوى. • إيجاد دائرة من الدعم الاجتماعي التي ستكون بمثابة دعم نفسي بمرور الوقت دون الاعتماد على أشخاص بعينهم حتى لو كانوا الأبناء؛ فلا يجوز أن تبنى الحياة على ما سيقدمه الآخرون أو انتظار ما قد يقدمونه في أوقات فائضة لديهم، فكلما انخرطت في "عمل" اجتماعي له دور وهدف وعطاء كلما كان المناخ الاجتماعي في حالة ثراء واستمرار وبقاء حتى مع غياب البعض لسبب أو لآخر، فلا اعتمادية على شخص أو مكان أو موقع جغرافي ليتحقق الدعم الاجتماعي والنفسي. • الإقبال على المساحات التي كانت مهجورة في السابق لظروف متعددة كعدم وجود وقت فراغ، أو انشغال دائم بعمل محدد، فمن المهم أن تتلذذ بعمل ما كنت دوماً تريد عمله وظروفك حرمتك منه ما دام أمرا مقبولاً شرعاً وعرفاً. جدد حياتك • البدايات المتجددة.. فلا يجب أن تضع هدفا وحيدا بطريقة تنفيذ وحيدة.. فكلما وضعت أهدافا متنوعة وحددت لها مسارات متعددة كلما تجددت معها حيويتك وصحتك النفسية باستمرار. • الرعاية الصحية واحترام الأدلة العلمية حتى تتمكن من تحقيق باقي أهدافك في الحياة. • ممارسة الرياضة بشكل منتظم كجزء من حياتك اليومية وليس كأمر تتذكره بين فترة وفترة، من خلال تمارين الاسترخاء البدني والذهني بشكل منتظم ومستمر، لتسريب التراكم السلبي داخل النفس وزيادة اللياقة الوظيفية لأجهزة حيوية في الجسم كالقلب والرئتين، والدورة الدموية، بما يخلق لديك القدرة على التحكم في الجهاز العصبي وبالتالي يساعدك على التخلص من العصبية أو التراكمات النفسية. • تذكر أن لكل مرحلة مميزاتها ودورها خصوصا "العطاء".. فالعطاء لا يتوقف في الخمسين أو الستين ولكنه يتجدد بتجدد المزيد من تراكم الخبرات، وتجدد من يحتاج لتلك الخبرات-الأحفاد، أولاد الجيران، مرتادي النوادي، الدروس الدينية. • التناغم بين أهدافك وأدوارك مع حقيقة قدراتك وطاقتك والعمل على احترام الواجبات اليومية الصحية، الاجتماعية. • عمل مراجعة نفسية كل فترة عند حدوث أي بوادر لأعراض نفسية كلما تقدمت في العمر، خصوصا الشهير منها كالاكتئاب، النسيان، العصبية، أمراض الشيخوخة النفسية . • التواصل أكثر مع الله سبحانه وتعالى لأننا نعلم أنه كلما تقدمنا في العمر كلما اقتربنا من لقاء الكريم الودود، فنتعهد أنفسنا في تلك المساحة لما لها من أثر نفسي كبير وأثر على مستوى العلاقات بالنفس والبشر.