لم يكن أمراً مفاجئاً لمن أتيحت لهم فرصة مشاهدة فيلمي «الفنان» و«المرأة الحديدية» أن يخرج أولهما من مضمار التنافس علي جوائز الأوسكار متوجاً بأهمها، أفضل فيلم ومخرج وممثل، فضلاً عن تتويجه بجائزتي أوسكار أفضل ملابس وموسيقي تصويرية. ولا أن تتوج «ميريل ستريب» بجائزة أوسكار أفضل ممثلة رئيسية عن تقمصها لشخصية «مارجريت تاتشر» أول امرأة ترأس مجلس الوزراء البريطاني واسم شهرتها «المرأة الحديدية».. كما لم يكن أمراً مفاجئاً أن يتوج الفيلم الإيراني «انفصال» بجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي، غير متكلم بالإنجليزية.. ف «الفنان» فيلم يصعب بل يستحيل علي أي متذوق لفن السينما ألا يستمتع به، وألا يكرر الاستمتاع. إنه والحق يقال، درة فريدة بين الأفلام صامت بين أفلام لا تكف عن الكلام، أسود وأبيض بين أفلام ملونة، أضاعت بهجة الألوان.. موضوعه يدور حول السينما وتاريخها وتحديداً في لحظة فارقة، لحظة نطقها، بعد صمت طويل. وأين؟.. في هوليوود حيث عرض أول فيلم ناطق من إنتاجها «مغني الجاز» يوم السادس من أكتوبر عام 1927 بإحدي دور السينما بنيويورك.. وهو يحكي من خلال سيناريو محكم البناء قصة صعود وسقوط مدارها صعود نجم ممثلة في ريعان الشباب بفضل السينما وقد نطقت، وأفول نجم ممثل من أشهر ممثلي السينما الصامتة وقد استبدلت بها السينما الناطقة فأصبحت في خبر كان. ولأن «الفنان» ليس كغيره من الأفلام الثمانية المتنافسة معه في مضمار الأوسكار، فكلها وبلا استثناء خرجت مدحورة أمامه، تنعي حظها العاثر أمام فيلم صامت من العهد القديم.. بعضها لم ينل أية جوائز، مثل «حصان الحرب» لصاحبه المخرج الأشهر «ستيفن سبيلبرج» و«شجرة الحياة» رائعة المخرج «تيرينس ماليك». وبعضها الآخر لم ينل إلا جائزة واحدة يتيمة مثل «المساعدة» الذي فازت نجمته السمراء «أوكتافيا سبنسر» بجائزة الأوسكار أفضل ممثلة مساعدة.. و«منتصف الليل في باريس» لصاحبه «وودي ألن» المخرج ذائع الصيت، إذ لم يفز إلا بجائزة أفضل سيناريو مبتكر.. حقاً فاز فيلم «هيجو» لصاحبه المخرج البارع «مارتين سكورسيزي» بخمس جوائز أوسكار أسوة بفيلم «الفنن.. ولكنها في حقيقة الأمر، لا ترقي إلي مستوي الجوائز الفائز بها «الفنان».. فهي انحصرت في تكنولوجيات السينما مثل الحيل السينمائية وما إلي ذلك من مبتكرات. وقد تركز كثير من الترقب واللهفة أثناء الحفل علي من سيفوز بجائزة أوسكار أفضل ممثلة رئيسية.. كان الرهان علي «ميريل ستريب» وحسن أدائها لدور المرأة الحديدية في الفيلم الذي حمل نفس الاسم، وهو فيلم لم يجر ترشيحه إلا لجائزتين فقط، أفضل ممثلة رئيسية «ستريب» وأفضل مكياج. ولم يكن ثمة منافس ل «ستريب» سوي الممثلة الموهوبة «جلن كلوز» عن أدائها لدور امرأة متنكرة في شخصية رجل «ألبرت نوبس» ويعمل في مطعم بأحد الفنادق الراقية، بمدينة دبلن، عاصمة أيرلندا، والقرن التاسع عشر علي وشك الرحيل.. كان أداؤها لذلك الدور الصعب رفيعاً ليس له ما فوقه.. كانت هي و«ستريب» فرسي الرهان ولكن الغلبة كانت ل «ستريب» دون «كلوز» بفضل تقمصها الممتاز لشخصية أثرت في التاريخ الحديث، وكذلك بفضل رصيدها الكبير من الترشيحات لجوائز أوسكار وسابقة فوزها مرتين بالأوسكار. ولعله من المفيد أن أذكر بأن اختيار فيلم «المرأة الحديدية» للعرض في مشارق الأرض ومغاربها، في هذه الأيام، قد روعي فيه أنه في ذكري الاحتفال بمرور ثلاثين عاماً علي حرب جزر الفالكلاند.. تلك الحرب التي بدأت بغزو دبرته الطغمة العسكرية الحاكمة في الأرجنتين لتلك الجزر المملوكة للتاج البريطاني. وانتهت بفضل صلابة رئيسة الوزراء «تاتشر» حتي في مواجهة وزير دفاع الولاياتالمتحدة «إلكسندر هيج» إلي اندحار الغزاة واستسلامهم علي نحو مخز، أدي إلي سقوط الطغمة العسكرية المغايرة، وعودة الديمقراطية إلي ربوع الأرجنتين، و«المرأة الحديدية» ثاني فيلم روائي طويل للمخرجة الإنجليزية «فيليدا لويد» السابق لها إخراج فيلم «ماما ميا» بطولة «ميريل ستريب»، وإذا كانت «ستريب» قد برعت في «ماما ميا» وهي تؤدي دور أم لعوب، تغني وترقص وكأنها شابة في عمر الزهور.. فإنها في «المرأة الحديدية» قد برعت في تقمص شخصية امرأة ذات عزم أكيد، وإرادة من حديد.. وسيناريو الفيلم من تأليف «آبي مورجان» صاحب سيناريو فيلم «العار» الذي أحدث ضجة كبري حينما جري عرضه.. وهو في السيناريو لا يعرض لسيرة «تاتشر» بدءاً من مولدها في عشرينيات القرن العشرين وحتي يومنا هذا.. وإنما يعرض لها، وهي في أرذل العمر وهن العظم منها، واشتعل الرأس شيباً، يبدأ بها عجوز في الثمانين تشتري لنفسها علبة لبان.. وهي في سبيلها إلي الخروج من السوبر ماركت تلمح عناوين الجرائد اليومية حيث الخبر الرئيسي تفجيرات مترو الأنفاق في قلب لندن.. وما إن نراها في شقتها الفاخرة، حتي نجدها تتبادل أطراف الحديث مع شريك حياتها، وسرعان ما يتبين لنا أنها تهذي، بشريك حياتها ليس له وجود. إنه مجرد شبح، فالموت بالسرطان قد جاءه قبل بضع سنوات، وأنها تعني في حقيقة الأمر من داء فقدان الذاكرة.. وهكذا وطوال الفيلم ينتقل بنا السيناريو من الحاضر المليء بالهذيان إلي الماضي حيث كانت «تاتشر» تعمل في بقالة أبيها.. ولأنها كانت فتاة طموحة، علي قدر كبير من الذكاء.. سرعان ما أخذ نجمها في الصعود إلي أن وصلت إلي مركز مرموق - رئاسة الوزراء - لم تصل إليه من قبل أية امرأة في القارة العجوز. وختاماً فلا يفوتني أن أذكر أن هوليوود وهي في لحظة حنين إلي ماضيها الصامت، تذكرت ممثلاً مخضرماً علي أبواب الثمانين اسمه «كريستوفر بلمر» لعب الدور الرئيسي في واحد من أنجح أفلامها «صوت الموسيقي» فتوجته بجائزة أوسكار أفضل ممثل مساعد.