لم أسترح كثيراً للتطمينات التي نشرت في الصحف نقلاً عن مسئولين في وزارة الري والموارد المائية مؤخراً بشأن النتائج التي أسفر عنها اجتماع مجلس وزراء مياه دول منبع نيل البحيرات الاستوائية، الذي عقد في 27 يناير الماضي في العاصمة الكينية «نيروبي» وأمهل كلاً من مصر والسودان والكونغو الديمقراطية مدة ستين يوماً للتوقيع علي اتفاق «عنتيبي» الإطاري للتعاون بين دول حوض النيل، تنتهي يوم 27 مارس المقبل، ليصبح الاتفاق بعد هذا التاريخ نافذاً، سواء وقعت عليه الدول الثلاث أو لم توقع، مسئولو الوزارة وصفوا هذه النتيجة بأنها مجرد تصريحات للاستهلاك الإعلامي، تستهدف الضغط علي مصر والسودان لسحب التحفظات التي أبدتها الدولتان علي «اتفاقية عنتيبى الإطارية»، التي جري التوقيع عليها في المدينة الأوغندية من قبل عدد من دول منابع النيل في العاشر من مايو عام 2010، فيما رهنت الدول الثلاث توقيعها عليها بشروط ثلاثة هي الإخطار المسبق عن إقامة أي مشروعات مائية تقوم بها دول أعالي النهر، وأن تصدر كل القرارات التي تتعلق بتعديل بنود اتفاقية تقاسم مياه النهر بالإجماع، فيما تصر دول منبع النيل التي وقعت علي الاتفاقية علي أن تصدر القرارات بالأغلبية، وأخيراً الالتزام بالحقوق التي ترتبها اتفاقيات المياه التي تم توقيعها بين دولتي المصب مصر والسودان في أعوام 1929 و1959، وهو ما تحصل مصر بموجبها علي 55.5 مليار متر مكعب من المياه، فيما يحصل السودان علي 18.5 مليار متر مكعب، وهو ما ترفضه دول المنبع إثيوبيا وتنزانيا وأوغندا ورواندا وكينيا وبوروندي، بدعوي أن تلك الاتفاقيات لم تكن منصفة لدول الحوض، لأنها وقعت في عهود الاستعمار، ولم تكن وليدة إرادة حرة في الاختيار، هذا فضلاً عن أن احتياجها من المياه قد تزايد بزيادة سكانها، وإقدامها علي مشاريع تنمية زراعية وصناعية وتوسعها في سياسات استصلاح الأراضي الصحراوية والغابات، مما يحتم عليها الاحتياج لموارد مائية إضافية، لم تعد تجدي معها سياسات القبول بالأمر الواقع. التهوين من نتائج هذا الاجتماع علي المستوي الرسمي، والتقليل من مخاطره، لا يتسق مع واقع الحال الذي يبعث برسائل شديدة الإزعاج، كلها تقود إلي أن حصة مصر من المياه، لم تعد في مأمن، وأنها مرشحة للنقصان، في الوقت نفسه الذي يدرج فيه تقرير التنمية البشرية الذي يصدره معهد التخطيط القومي مصر ضمن دول الفقر المائي، حيث لا يتجاوز متوسط نصيب الفرد من المياه 860 متراً مكعباً سنوياً، وهو أقل من المعيار الدولي الذي يعتبر 1000 متر مكعب سنوياً مقياساً للفقر المائي، ويتوقع أن يصل نصيب الفرد من المياه إلي 114 متراً مكعباً فقط، حين يصبح تعداد مصر 95 مليوناً في عام 2017، فيما يشكل كارثة حقيقية تهدد مصر بالعطش. وفي 27 يناير الماضي، كان من المقرر أن يعقد الاجتماع الاستثنائي لوزراء مياه دول حوض النيل في نيروبي بدعوة من مصر والسودان، لكن المفارقة أن الدولتين غابتا عن الاجتماع دون إبداء أسباب، وربما لرفض دول منابع النيل طلبهما بإعادة مناقشة اتفاق عنتيبي الإطاري لدول الحوض، والاكتفاء ببحث تداعيات الاتفاق علي تلك الدول، لكن المؤكد أن غيبة الدولتين قد أغضبت الدول الأفريقية، ودفعتها لتغيير مجري الاجتماع، من اجتماع استثنائي لوزراء مياه دول حوض النيل، إلي اجتماع لمجلس وزراء مياه دول نيل البحيرات الاستوائية، ويعد هذا المجلس أحد الهيئات التي نجمت عن مبادرة حوض النيل، التي تأسست في 22 فبراير عام 1999 في مدينة دار السلام التنزانية، كإطار للسعي لبناء مؤسسات وهيئات تهتم بالتعاون بين دول الحوض، ويضم في عضويته كينيا وبوروندي ورواندا وأوغندا والكونغو الديمقراطية وتنزانيا فيما كانت إثيوبيا عضواً مراقباً لعدم اشتراكها في نيل البحيرات الاستوائية، وكان من نتائج هذا الاجتماع نقل عضوية إثيوبيا من مراقب إلي العضوية الكاملة، بالإضافة إلي مهلة الستين يوماً السالفة الذكر للدول التي لم توقع علي اتفاقية «عنتيبي». المحصلة النهائية لهذا التطور هو تمسك دول المنبع الأفريقية التي وقعت علي الاتفاقية الإطارية بموقفها الرافض للقبول بالتحفظات المصرية والسودانية كشرط للتوقيع عليها، وإصرارها علي المضي قدماً في التصديق عليها، ووضعها موضع التنفيذ، ومخاطبتها الجهات الدولية المانحة لتمويل مشاريعها علي النهر، بصرف النظر عن موافقة أو عدم موافقة دولتي المصب، وزيادة حدة التوتر بين دول الحوض، وتهديد صريح للأمن القومي المصري والسوداني، لا يمكن مواجهته بالتمسك الرسمي بالحقوق التاريخية المكتسبة التي تحميها اتفاقيات دولية، لأن ذلك يتجاهل الصراع الدولي حول ثروات دول حوض النيل الأفريقية، الذي تتصدره مصالح للولايات المتحدةالأمريكية وفرنسا والصين، وحين تصطدم تلك المصالح مع المصلحة المصرية، فلن يلتفت إلينا أحد. كما أن الحقوق التاريخية المكتسبة لم تمنع إثيوبيا من مواصلة بناء عدد من السدود، من المتوقع أن تؤدي إلي عجز مائي في مصر يصل إلي 12.9 مليار متر مكعب في العام، كما ستقلل من السعة التخزينية للسد العالي وللسدود السودانية. والخطر بندرة وشح المياه بات ماثلاً في مصر بعد أن أصبحت علي وشك أن تفقد 8 مليارات متر مكعب من المياه سنوياً، كان السودان يتنازل عنها من حصته المائية في السابق، لعدم قدرته علي تخزين المياه، وهو الأمر الذي تغير الآن، بعد أن تمتد دون التشاور مع مصر تعلية سد «الروصيرص» منذ عدة سنوات، وبدأ تشغيل سد «مردي» بكامل طاقته، ومع ميلاد دولة جنوب السودان التي يقع بها نحو 45٪ من حوض النيل، أصبح السودان مطالباً الآن باقتسام حصته من المياه مع الدولة الجدية، وهو ما أدي إلي تصاعد النغمات في شمال السودان للمطالبة بإعادة النظر في اتفاقية اقتسام المياه مع مصر عام 1959. وأمام خطر «العطش» الماثل أمامنا، فلا مفر من إعادة النظر في السياسات المائية السفيهة التي تبدد مواردنا المائية في مشروعات ترفيهية لا طائل من ورائها، وأن تتواصل الجهود التي بدأت مع ثورة 25 يناير برسم سياسة أفريقية جديدة تقوم على الإقناع بالمصالح والمنافع المشتركة بين دول الحوض، وتقديم اقتراحات خلاقة لتنمية الموارد المائية كإعادة معالجة مياه الصرف الصحي والصناعي، وتجميع المياه الفاقدة ومياه الأمطار وتحلية مياه البحار، والتخطيط الهادئ والفعال لكسب ثقة دولة جنوب السودان، وإبراز أوجه مصالحها المباشرة في إتمام قناة «جونجلي» التي تخدم الدول الثلاث بما توفره من مياه المستنقعات الجنوبية. وقبل هذا وذاك، فإن تغييراً في سلوك المصريين نحو ترشيد استهلاك المياه، أصبح الآن واجباً وطنياً.