كلما حلت بنا كارثة وألمت بنا مصيبة قفز الي رأسنا السؤال القديم الحديث المتجدد: لماذا فشل مشروع النهضة العربية ؟ هذا المشروع الذي كان واعدا لحظة انبثاقه في النصف الأول من القرن التاسع عشر, وما الذي أجهض هذا المشروع وأوصل العرب الي ما هم عليه الآن من هزيمة وأصولية ووضع مأساوى ضائع أو تائه ؟ولماذا نجحت تركيا فى مشروعها النهضوى الى حد ما وحتى إيران مع بعض التحفظات وفشل العرب؟ لقد حاول بعض النهضويين العرب أمثال رفاعة الطهطاوى وخير الدين التونسى وجمال الدين الأفغانى وعلى عبد الرازق، ثم طه حسين, غير أنهم لم يستطيعوا حسم القضية .. لقد بذلوا كل ما فى وسعهم كل بطريقته الخاصة ولكن بقيت الصخرة لا تراوح مكانها.. فهل هناك أمل؟.. حملنا السؤال إلى الدكتور حامد طاهر أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة. * هل لدينا مشروعات للنهضة؟..وإن كانت بالفعل موجودة فما رأيك فيها؟ قبل الإجابة عن هذين السؤالين لابد أولاً أن نحدد مفهوم النهضة، والواقع أن النهضة عبارة عن عملية إصلاح شاملة تمتد الى كل المجالات او معظمها فى المجتمع، ومن هنا فالنهضة تتميز عن الإصلاح الذى هو عبارة عن التركيز على مجال واحد فقط او اثنين من مجالات انشطة المجتمع وتأسيساً على ذلك فإننى أرى أن لدينا فى تاريخنا الحديث والمعاصر نوعان من النهضة.. الأولى حدثت فى عهد محمد على «1805 1848» والثانية فى عهد الزعيم جمال عبدالناصر «1954 1970». * لكن ما الذى يجمع بين هذين النوعين من النقد؟وما الذى يفرق بينهما؟ لكى نبدأ أصلاً بداية صحيحة لابد ان نحدد الهدف لكل منهما، لأنه تبعاً للهدف سوف تظهر فكرة النقد وتبدو وسائلها وانجازاتها، ويمكن القول إن هدف نهضة محمد على كان استقلاله «هو» بمصر، بعيداً عن سلطة الدولة العثمانية من ناحية والنفوذ الأجنبى« الفرنسى والإنجليزى فى ذلك الوقت» من ناحية أخرى ومن أجل ذلك قام محمد على بإنشاء جيش قوى وكانت وسيلة محمد على الجديدة هى الاستعانة بالعنصر المصرى لأول مرة بالجيش وكذلك الاستعانة بخبرة الضباط الفرنسيين الذين فضلوا التعاون معه بعد طرد قائدهم نابليون من فرنسا وهكذا بدأت عمليات النهضة فى مصر تتركز حول تقوية هذا الجيش وبجانبه الأسطول طبعاً فأصلح الزراعة وألغى الضرائب المتعددة على الفلاح المصرى وجعلها ضريبة واحدة بعد ان أعلن ملكيته لكل الأراضى المصرية وشجع الصناعات التى تخدم القوة العسكرية كالحدادة والنجارة والحياكة، واهتم بالطب والتمريض من أجل صحة وسلامة ضباط وجنود الجيش وأرسل البعثات لكى يتم الاستفادة من الخبرات الأجنبية لتقوية هذا الجيش. * حدثنا عن إنجازات هذه النهضة؟ بالتأكيد إنها حركت الحياة الرتيبة التى كانت سائدة فى مصر وأدخلتها الى حد ما فى حركة العالم المعاصر،لكن بالنسبة للتعليم والبحث العلمى وهما مفتاح أى نهضة فإن التركيز عليهما لم يكن كاملاً فلم يتجه محمد على إلى إنشاء جامعات أو مراكز بحثية متخصصة وكان يكتفى بالتعليم الإلزامى الذى يخرج الموظفين الكتابيين، وكذلك بالخبرة الأجنبية بدلاً من البحث العلمى النابع من مصر نفسها، ونتيجة لملكيته الشاملة للأراضى الزراعية فى مصر فقد «أقطعها» لأسرته وأقاربه ومحاسيبه، وهذا هو السبب فى انتشار الإقطاع فى مصر بمعنى وجود طبقة قليلة جداً تمتلك آلاف الأفدنة بينما بقية الشعب لا يملك شيئاً، ثم كانت النهاية عندما خرج محمد على بجيشه القوى خارج حدود مصر فى كل من السودان والجزيرة العربية ثم الشام والعراق حتى وصل الى حدود تركيا وعندئذ تدخلت الدول الكبرى والتى كانت فى نزاع فأجهضت مشروعه ودونت ذلك فى معاهدة لندن سنة 1840. * ماذا عن تجربة النهضة فى عهد عبدالناصر؟ فى رأيى ان الرجل كان يسعى لنهضة مصر من أجل مصر وليس من أجله شخصياً كما كان هدف محمد على، ولذلك اتجه الى إنشاء ترسانة صناعية متكاملة في حلوان، وقام بالإصلاح الزراعى الذى قضى على الإقطاع وملك الفلاحين بمساحات معقولة وجعل التعليم مجانياً وشجع على إنشاء المزيد من الجامعات ومراكز البحث العلمى وأنشأ السد العالى لضبط توزيع المياه وتوليد الكهرباء وتعهد بتوظيف جميع الخريجين بهدف تكوين طبقة متوسطة. * أترى أن القوة الأجنبية ساعدت على إفساد مشروع عبد الناصر؟ هذا صحيح وهو يمكن أن يساعدنا على فهم كل عناصر النهضة اللازمة، فلابد أن تنشأ وتتطور فى ظل عدم ممانعة من الدول الكبرى التى تتربص بمصر دائماً بسبب موقعها المتميز سواء على المستوى العربى أو المستوى الإفريقى. * هل يمكن وجود نهضة أخرى فى العصر الحالى؟ هذا ضرورى وإذا لم يتجه المصرى إلى محاولة إيجاد نهضة ثالثة فإنه مع الأسف سوف يزداد تخلفاً ًوخاصة فى هذا العصر الذى نجحت فيه محاولات كثيرة للنهضة، خاصة فى جنوب شرق آسيا لدى شعوب وبلاد كانت حتى وقت قريب مثلنا وربما أقل منا بكثير. * وما شروط نشأة واستمرار النهضة الثالثة؟ النهضة لها وصفة مثل وصفة الطبيب تماماً وهى مكونة من عدة شروط، من هذه الشروط الرغبة الشديدة فى النهضة والإرادة الحازمة فى ضرورة تطبيقها، فلا يمكن أن تحدث نهضة لدى شعب ولا يجيدها وهناك وسائل أخرى تتمثل فى جودة التخطيط ودقة التنفيذ والمحاسبة على الخطأ والمكافأة على الإجادة الى جانب تغليب المصلحة العامة على المصلحة الشخصية القصيرة والعابرة، كذلك ينبغى ضرورة المتابعة والصيانة لما تم انجازه حتى لا يصدأ أو يتهرأ ؛ وأخيراً لابد من اختيار العناصر البشرية التى تتميز بالاخلاص فى العمل والكفاءة فى أدائها دون النظر الى مدى قربهم أو ثقافتهم، ولابد ان تتم النهضة فى ظل قبول المجتمع الدولى وخاصة القوى الكبرى فيها، وهنا استدعى حالة النهضة اليابانية وكذلك الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية التى تمت كل منهما بقبول وتشجيع الولاياتالمتحدة هذه النقطة للأسف تغيب عن معظم المثقفين العرب عندما يتحدثون عن النهضة فى بلادهم. * وما معوقات هذه النهضة؟ إعطاء المسئولية لأهل الثقة على حساب الخبرة والكفاءة وعدم الاستعانة بأصحاب الرأى الآخر فى العمل مع أنهم يمكن ان يضيفوا الكثير من النجاح بدلاً من إقصائهم واستبعادهم من مسيرة النهضة، وكذلك التهاون بالمحاسبة التى تشمل مبدأى الثواب والعقاب. * أخيراً هل أنت متفائل بإمكانية وجود نهضة ثالثة فى مصر فى الوقت القريب؟ أنا مؤمن بقدرة مصر وإمكانياتها الهائلة وكفاءة شعبها فى تحقيق أى مشروع نهضة كبير.. إن هذا الشعب الذى بنى الأهرام التى لم يستطع أى شعب فى العالم حتى الآن أن يقيم مثلها قادر على أن يحدث نهضة لا تقل ارتفاعاً عن هذه الأهرامات الرائعة.