قضايا الإعلام فرضت نفسها علي الساحة السياسية بالتوازي مع اهتمام واسع علي الساحة الإعلامية، باعتبارها - أي قضايا الإعلام - تحتاج إلي تحرك جاد علي أكثر من صعيد لإنقاذ الإعلام - خاصة الإعلام المرئي - من حالة الانفلات التي لا تخطؤها عين ولا تكاد تخلو صحيفة أو ندوة أو حتي حوارات المواطنين العادية من عبارات تنتقد الكثير مما تبثه القنوات التليفزيونية الرسمية منها والخاصة علي السواء. الجديد في هذا الأمر ان الحوار حول هذه الموضوعات قد انتقل إلي ساحة مجلس الشعب، وأن النية تتجه لإصدار التشريعات التي «تضبط» أداء الإعلام وتوقف حالة الانفلات. ويلفت الانتباه الي ان نواب الإخوان المسلمين يبدون حماسا واضحا لإصدار هذه التشريعات ولديهم الأغلبية المريحة التي تسمح لهم بتمرير القوانين التي يرونها محققة لهذا «الانضباط». حرية التعبير خط أحمر ومع التسليم بان الساحة الإعلامية تحتاج فعلا إلي آليات لضبط الأداء علي أساس الالتزام بالمعايير المهنية فقد رصدت حالة من القلق في صفوف الإعلاميين خاصة والمثقفين عامة خشية ان تتجول «الضوابط» إلي قيود تكبل حرية التعبير وتقمع الإبداع، وان يتم تشكيل الأجهزة التي تتولي تطبيق هذه الضوابط إلي أجهزة «رقابة» تعيدنا إلي عصور حاصرت حرية التعبير وقمعت الإبداع بقوانين تذهب إلي حد التفتيش في ضمائر أصحاب الآراء والإبداع. ولانني أحسن الظن بكل من نال ثقة الناخبين فإنني أرجو ان يحرص أعضاء مجلس الشعب عامة والمنتمون إلي الأغلبية خاصة علي ان يتواصلوا مع الخبراء في مجال الإعلام والأهم مع أصحاب المهنة الممارسين فأهل مكة أدري بشعابها. وأبادر اليوم بتقديم رؤية شخصية لما اتصورها خطوات علي طريق ضبط الأداء الإعلامي وتطويره سواء إعلام الدولة أو الإعلام الخاص. ولا أزعم بأي حال ان هذه الرؤية هي الأكثر صوابا لكنها اجتهاد شخصي تدعمه ممارسة عملية ودراسة نظرية في قضايا الإعلام لأكثر من نصف قرن. وهدفي ان تكون هذه مبادرة شخصية تدفع زملاء وأساتذة كثيرين لتقديم رؤاهم لتكون هذه الاجتهادات تحت نظر من سيتصدي من نواب الشعب لمناقشة القوانين التي سوف تنشئ الأجهزة المعنية بضبط أداء الإعلام المرئي والمسموع. حزمة التشريعات المطلوبة وأود في البداية ان أحدد بوضوح رؤيتي لحزمة التشريعات والإجراءات التي يمكن أن تضبط الأداء وان تضمن التطور. أولاً: إصدار قانون حرية تداول المعلومات ويجب ان تتم صياغة مواد هذا القانون علي أساس ان الحصول علي المعلومات من مصادرها الأصلية الموثوقة «حق» للمواطنين وللإعلاميين علي وجه الخصوص، وليس منحة تسمح لحائز المعلومة بمنحها أو منعها عن طالب هذه المعلومة. كما يجب أن يتضمن القانون مواد تعاقب حائز المعلومة الذي يحجبها أو يماطل في تقديمها. ومن أهم المواد التي يجب ان يتضمنها هذا القانون مواد تحدد بكل دقة ما هي «المعلومات السرية» التي تستحق ان توصف بهذا الوصف وأيضا تحديد «درجة السرية» والمدة التي ستحجب فيها هذه المعلومة عن التداول، علي ان يتم بشكل محدد مفهوم «الأمن الوطني» أو «الأمن القومي» الذي طالما استخدمته السلطات ذريعة لحجب معلومات لا علاقة لها بالأمن الوطني. هذا القانون هو حجر الزاوية في ضبط الأداء الإعلامي ومنع التورط في بث معلومات وأخبار غير صحيحة أو غير دقيقة. وإذا كانت «المادة الخام» للإعلام هي الخبر والمعلومة فأول خطوة هي تمكين الإعلاميين، بل والجماهير عامة من الحصول علي المعلومات الصحيحة والأخبار الدقيقة من مصادرها. ثانيا: إطلاق حرية بث القنوات التليفزيونية والإذاعية بمجرد تقديم ما يفيد تسجيل «الشركات» والتأكد من التزام هذه الشركات بالشروط المطلوب توافرها في مثل هذه النوعية من الشركات، مع توفر الموجات المتاحة لبث هذه القنوات. وتمنح هذه الشركات الترخيص الذي يسمح لها بالبث علي ان تلتزم «بميثاق الشرف» الذي يعتبر ملحقا مكملا للتصريح بالبث. مجلس وطني لتنظيم البث المرئي والمسموع ثالثاً: إنشاء مجلس وطني لتنظيم البث المرئي والمسموع، علي ان يكون هذا المجلس مستقلا استقلالا كاملا بصفاتهم، وعدد آخر يتم اختيارهم. وأري أن التفصيل في هذا المجال مطلوب. أ- يصدر بتشكيل المجلس قرار من رئيس الجمهورية ويلتزم رئيس الجمهورية بإصدار قرار التشكيل علي النحو التالي: 1- نقيب الصحفيين 2- نقب الإذاعيين (بعد تشكيل نقابة الإذاعيين «راديو وتليفزيون») 3- نقيب المدونين (بعد تشكيل نقابة للصحافة الإلكترونية 4- نقيب المحامين 5- رئيس اتحاد النقابات الفنية 6- عضوان من الشخصيات العامة يرشحهما مجلس الشعب. 7- شخصية عامة يرشحها مجلس الشوري (وفي حال ألغي مجلس الشوري يتم اختيار الأعضاء الثلاثة من الشخصيات العامة بواسطة مجلس الشعب) 8- أحد رجال القضاء يرشحه المجلس الأعلي للقضاء. 9- ممثل للأزهر وممثل للكنيسة الأرثوذوكسية يرشح كلا منهما المؤسسة المعنية (الأزهر والكنيسة). ب- يختار المجلس بالانتخاب رئيسا ووكيلا وأمينا عاما. ج - مدة المجلس ست سنوات ولا يختار أي عضو لمدد أخري. د - أعضاء المجلس يتمتعون بالحصانة في مجال أداء مهامهم والأعضاء غير قابلين للعزل من أي سلطة، إلا من يصدر ضده حكم قضائي نهائي. ه - يتولي المجلس إصدار التراخيص ببث القنوات التليفزيونية والإذاعية.. ويشكل لجانا لمتابعة أداء هذه القنوات (الخاصة والرسمية). وينظم طريقة تلقي ملاحظات وشكاوي الجماهير المتعلقة بالأداء في أي قناة. ويحيل المخالفات إلي الجهات المعنية، بمعني إحالة المخالفات المتعلقة بالأداء المهني إلي النقابة المختصة التي تتولي محاسبة أعضائها بلجان التأديب وتخطر المجلس بنتائج التحقيق، فإذا وجد المجلس ان المخالفة تنطوي علي ما يستحق الإحالة إلي القضاء قام بإحالة المخالف إلي القضاء المختص سواء كان المخالف أحد الكوادر التنفيذية أو الإدارية أو مالك القناة.. ولا يحق للمجلس ان يوقف ترخيص القناة إلا بحكم قضائي نهائي. وللمجلس إذا رأي ان المخالفة تستحق توقيع عقوبة في حدود «الإنذار» أو «الإدانة الأدبية» فله الحق ان يلزم القناة التي ارتكبت المخالفة بأن تبث قراره بالعقوبة بالمساحة الزمنية والصيغة التي يحددها المجلس. و - تمويل المجلس: يجب أن يتحقق استقلال مالي وإداري كامل للمجلس وتخصص للمجلس ميزانية معقولة ضمن بنود الموازنة العامة للدولة. ويضاف إلي هذه الميزانية موارد بحصول المجلس علي نسبة 2٪ مثلا من الموارد الإعلانية لجميع القنوات، وإصدار طابع بقيمة خمسة جنيهات علي التعاملات المتعلقة بأمور لها علاقة بالمجلس. ويحصل المجلس علي رسوم التصريح ببث القنوات.. وأتصور ألا يقل الرسم للتصريح بقناة تليفزيونية عن خمسين ألف جنيه وعشرة آلاف جنيه للقناة الإذاعية عند بدء البث وتخفض الرسوم لتصبح عشرة آلاف للقناة التليفزيونية سنويا وألفين للقناة الإذاعية. وفي هذا المجال فإن الاقتراحات كثيرة وكلها تضمن استقلالا حقيقيا للمجلس. الجناح الآخر.. نقابة مهنية إذا كان هذا المجلس يمثل آلية ضبط التصاريح ومتابعة الأداء فإنه يظل - في تصوري - أحد جناحين لا نستطيع ان نضمن ضبط الأداء الإعلامي وتطويره إلا بتكامل المجلس مع الجناح الآخر وهو النقابات المهنية. وإنشاء «نقابة مهنية» للإذاعيين بالراديو والتليفزيون ضرورة ملحة بعد ان عطل إنشاءها وزراء إعلام نظام مبارك، وأيضا نقابة «للإعلام الإلكتروني» بعد ان أصبحت المدونات أحد ألوان النشاط الإعلامي المهم. ويمكن بعد إنشاء هاتين النقابتين أن يتشكل اتحاد لنقابات الإعلام يضم نقابة الصحفيين والإذاعيين والمدونيين. وتتكفل نقابة الإذاعيين المهنية بضبط الأداء المهني من خلال الاختيار الدقيق لمن يتمتع بعضوية هذه النقابة كعضو «مستقل» أو تحت التمرين وستضع النقابة المهنية المعايير العلمية التي يجب أن تتوفر فيمن ينتمي إلي هذه النقابة. وتضع النقابة «ميثاق الشرف» الخاص بها والذي يلتزم بالعناصر الأساسية لمواثيق الشرف الصحفية ويضيف تفاصيل تتعلق بالأدوات المختلفة التي تتعامل بها الإذاعة لأداء رسالتها. فعلي سبيل المثال سيكون ميثاق الشرف الخاص بالأداء التليفزيوني متضمنا تفاصيل عن «التعبير» بالحركة والصورة، وهي تفاصيل لا تخرج عن صلب القواعد الأساسية لمواثيق الشرف الصحفية. وعندما تبدأ هذه النقابة المهنية نشاطها فسوف نطمئن إلي ان الجهة المؤهلة مهنيا هي وحدها التي ستمنح المؤهلين بالموهبة والتدريب عضويتها، ولا يسمح لغير أعضاء هذه النقابة المهنية بمزاولة المهنة أسوة بما هو متبع في النقابات المهنية خاصة النقابة الشقيقة أي نقابة الصحفيين. وبهذا نضمن تنقية الساحة من غير المؤهلين الذين يحتلون الآن مساحات هائلة علي أثير الإذاعات والقنوات التليفزيونية. كما ان هذه النقابة المهنية ستكون صمام الأمان الذي يتابع الأداء المهني لأعضائها وستكون لديها القدرة علي محاسبة أعضائها إذا خالفوا مواثيق الشرف أو كان أداؤهم المهني مخالفا مع القواعد والتقاليد المهنية. كما تقوم النقابة بمتابعة التدريب المستمر لأعضائها لملاحقة التطورات المتسارعة في النشاط الإعلامي. وبالتعاون بين المجلس الوطني لتنظيم البث والنقابة بمتابعة التدريب المستمر لاعضائها لملاحقة التطورات المتسارعة في النشاط الإعلامي. وبالتعاون بين المجلس الوطني لتنظيم البث والنقابة المهنية فإن ضبط الأداء الإعلامي سوف يتحقق بدرجة كبيرة. وسوف يتقبل الإذاعيون أية عقوبات توقع عليهم بصدر رحب ولن يستطيع أحد أن يزعم أنه تعرض لظلم لأن جهة المحاسبة هنا هي نقابته التي قام هو وزملاؤه بانتخاب مجلس إداراتها. هذه هي بعض الخطوط الرئيسية لمسيرة ضبط الأداء الإعلامي. والتفاصيل لما ذكرته في نقاط موجزة تفاصيل كثيرة. يبقي في الأسبوع المقبل ان شاء الله حديث مفصل عن الإعلام الرسمي أو إعلام الدولة والإعلام الخاص، وآمل ان يبادر زملاء أعزاء أعرف قدرتهم وخبرتهم فيدلوا بدلوهم في هذا المجال حتي لا ندع حجة لمن يملكون سلطة التشريع بإصدار تشريعات بعيدا عن مشورة وحوار مع أصحاب المهنة.