مع أول تفتح لزهور الربيع العربي، كانت دول مجلس التعاون الخليجي حاضرة تشهد بزوغ الفجر الجديد على كثير من الشعوب العربية، التي عانت طويلاً من سطوة الاستبداد السياسي، والظلم الاقتصادي، والاضطراب الاجتماعي، وحلمت بمستقبل مشرق تجد فيه ذاتها، بعد أن فقدتها لعقود طويلة من التهميش لصالح ثلة قليلة حازت لنفسها نصيب الأسد من الأمن والرخاء، فامتصت موارد البلاد واستنزفت أحلام الشباب، حتى تراجع أفقها إلى أن يغدو منتهى الأمل فيها هو الحصول على أبسط مقومات الحياة، بدل أن تكون حضوراً في الحياة وإبداعاً فيها، وحصل بعض تلك الشعوب على مبتغاه، وهي الآن تضمد جراحها لإكمال مشوار البناء والتعمير، وأخرى لا تزال تطرق أبواب المستقبل بيد من الحزم، وستفتح أبوابه أمامها ولا شك، مهما طال القرع أو قصر. لم تقف دول التعاون جميعها، حكومات وقيادات وشعوباً، مكتوفة الأيدي أمام مطالب تلك الشعوب واحتضنت جالياتها من غير منّة عليها، ولكن كواجب قومي عربي وإسلامي وإنساني، في سياسة متوازنة تدرك مآلات الأمور، وتصون حق أبناء الجاليات في ضمان حمايتهم والتعبير عن آرائهم، بما لا يؤثر في واقع الحياة في دول المجلس، ليتواكب الموقف الاجتماعي مع توازن الموقف السياسي، لا يطغى أحدهما على الآخر. وبين الحين والآخر تظهر اعتصامات لبعض أبناء تلك الجاليات المقيمة في الدول الخليجية، معبرة عن تفاعلها مع أبناء شعبها، وهو مطلب تقر السماح به أو رفضه الدولة المضيفة ضمن إطار سياستها الداخلية والخارجية، ولذلك أفسحت المجال بالترخيص للعديد منها في زمان ومكان معينين، ولكن ها هنا لا بد من وقفة يشاركنا فيها حتى أبناء الجاليات المكلومون على واقعهم، مع احترامنا لمشاعرهم. وذلك أن الاعتصامات المتكررة وإن كانت موجهة كإشارة سياسية تضامنية من أبناء الجاليات، إلا أنها تفسح المجال لكثير من الاضطرابات المخلة باستقرار الدول المضيفة، لا سيما تلك التي تخرج من دون ترخيص رسمي يحدد إطارها ومجالها، ففتح المجال لتعطيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية بشكل أو بآخر في تلك البلاد، وإن كان بعض الدول يتعامل مع بعض هذه الاعتصامات بغض الطرف نوعاً ما، لتفهمها طبيعة الألم الذي تحمله الجالية المعنية، لكن هذا لا يسوغ لهم للخروج ما لم يكن بإشراف أمني وفي مكان تحدده الجهات المسؤولة، حماية لممتلكاتها ومقدراتها.. ولا ينبغي أن ننسى حقيقة أن دول الخليج تحتضن على أرضها مئات الجنسيات من شتى بقاع الأرض، ولو حاولت كل جالية التعبير عن موقفها السياسي بالاعتصامات كلما طرأ طارئ في بلادها، لأصبحت فوضى عارمة لا يرضى بها حتى أبناء الجاليات أنفسهم. فدول الخليج المضيفة للجميع، لا ترضى أن تكون مكاناً لتصفية الحسابات السياسية أو المذهبية، بل هي أرض معطاء فتحت أبوابها ليجد الباحثون عن فرص الحياة الأفضل مبتغاهم، دون أن يخلّوا بالاستقرار أو الأمن. ولا نريد لأحد أن يزايد على دور دول التعاون من الربيع العربي، فقد اتخذت هذه الدول العديد من المواقف بما يناسب حالة كل دولة خرجت فيها المظاهرات، أو تعرض أهلها للظلم، تراوحت بين الدعم العسكري ضمن المظلة الدولية أو العربية، إلى الدعم الاقتصادي والإنساني، إلى المواقف السياسية من طرح للمبادرات أو طرد للسفراء، أو ما شابه ذلك من المواقف حسب الحالة المراد التفاعل معها. ونقولها مرة أخرى؛ إن هذه المواقف ليست منّة نتفضل بها على أهلنا وإخواننا العرب، ولكنها أصالة المنبع ووضوح المنطلقات ووحدة المصير تجاه القضايا التي تطرأ على واقع المجتمعات العربية. غير أن الأمر حين يخرج عن نطاق التناغم بين تلك الجاليات والدول المضيفة، وتبدأ الاعتصامات تأخذ حجماً وظهوراً متكرراً من دون مظلة قانونية ترخص لها، يخل باستقرار النمط الاجتماعي أو الاقتصادي، ويفتح الباب من دون تردد لاتخاذ إجراءات ضد البعض تصل حد التسفير أو الإبعاد، وهو حل وقائي لا تلام عليه دول الخليج، ما دامت ترى أن الأمور بدأت تتجه نحو فقدان زمام السيطرة ولو بعد حين. ولا نريد أن نذكر إخوتنا من أبناء الجاليات، أن قدومهم إلى دول الخليج كان أحد أبرز أسبابه، إن لم يكن السبب الرئيسي الوحيد، هو البحث عن فرصة عمل تؤمن العيش الكريم له ولمن وراءه في بلده الأصلي، وأنه حين يتمادى في كسر ثوابت الضوابط القانونية في البلاد التي استضافته، إنما يفتح المجال للتسبب في قطع رزقه بيده، والتأثير على نفسه وأهله في بلده، لأنه كان يشكل لهم الرئة الاقتصادية التي يتنفسون من خلالها. فالمسألة لا بد لها من العقلانية في التناول من قبل أبناء الجاليات العربية، وألا نبالغ في التفسيرات ونتجنب التصرفات غير المدروسة ونرى عواقب الأمور بتوازن، لا سيما إذا علمنا حسن نوايا البلاد التي استضافتهم، ووقوفها قيادات وشعوباً مع حقوقهم المشروعة ومطالبهم الناصعة، على أمل أن يعمّ الربيع العربي تلك البلاد من دون أن يترك أشواكاً في بلادنا. نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية