بالرغم من حالة الانهيار التام للواقع العربي الراهن، وما يصاحب البث الإخباري اليومي من إحباطات أساسها الإحساس بأن الأمة العربية دخلت في مرحلة إحباطات متأخرة من " الموت السريري " ولا ينقصها إلا استخراج شهادة الوفاة الرسمية. بالرغم من هذا كله، فإنني ما زلت أؤمن إيماناً راسخاً بأن النهوض هو الخيار الوحيد المطروح على الساحة. لأن التاريخ العربي يشهد للأمم كافة بحالات متعاقبة من الانتكاس ثم النهوض، والارتكاس ثم اليقضة والانتعاش. وإن لم يؤمن بهذه الحقيقة فسخر كثيراً من الوقت لكن أمتنا لن تموت بكل تأكيد. وعندي على ذلك شواهد عديدة لن أعود فيها إلى التاريخ القديم لاستلهام الوحدة السياسية التي ربطت مصر والشام في العصور الوسطى حتى ثم القضاء على الحملات الصليبية. ولكنني سأشير فقط إلى أزمات أعوام : 1936، 1948، 1956، 1967، 1973، ففي كل عام من تلك الأعوام تعرضت الأمة العربية لضغوط خارجية مثل ما تتعرض له حالياً. ولكنها استبسلت ودافعت عن وجودها: - بالثورة الشعبية العربية عام 1936. - وبالتعاون السياسي والعسكري عام 1948. - وبالضغط على الرأي العام العالمي عام 1956. - وبالنشاط الدبلوماسي الموحد عام 1967. - وبالتعاون العسكري واستخدام سلاح النفط عام 1973. وإذا كانت تلك الأسلحة لم تحقق نصراً مبيناً على أعداء الأمة باستثناء نصر عام 1973، فإنها في جميع الأحوال، أكدت أن هذه الأمة تتسم بالبسالة والصمود، وأنها لا يمكن أن تموت، فإن لم يتحقق النصر المبين فعلى الأقل: تم تقليل حجم الخسائر. وكما قال أمرؤ القيس: ألا إلاّ تكنْ إبلٌ فمعزى كان قرون جلَّتها العصيُّ فتملأ بيتنا أقطاً وسمناً وحسبك من غنىً: شبع ورديُّ وفي الأزمة العربية الراهنة، يشعر المواطن العربي بالأسى والضعف والهوان عشرين مرة في اليوم حيت يتابع نشرات الأخبار على الشاشات الفضية، فيرى جنود الاحتلال الصهيوني يدمرون بيوت الفلسطينيين العزل، ويقتلون الأطفال والنساء والشيوخ بدم بارد، وحين يرى جنود الأمريكان يقصفون – بما شاؤا من أسلحة – منازل العراقيين غير عابئين بقتل المدنيين، حين يرى العربي ذلك ويمد بصره ليرى أو يسمع أي رد فعل عربي فلا يجد إلا فنوناً من التمثيل والطبل والزمر، وحشوداً من مباريات كرة القدم وسباق الخيل والهجن وميداليات توزع، وكؤوساً يفوز بها الفائزون وكأن هناك حالة من الانفصام الحادً أصابت الوطن كله من المحيط إلى الخليج، حين يرى العربي ذلك العدوان، ويرى على المقابل، تلك المهرجانات الفنية والرياضة، يخيل إليه أن سكران أو محذرّ، أو يعيش في دنيا غير الدنيا!! لكن الحقيقة أن هذه عادة عربية لا فكاك منها، وهي أن يترك العرب الأمور تضيق إلى حد الاختناق، وعلى حين غفلة تنهي الجماهير لتدفع الأنظمة إلى الطريق السوىّ الذي لا طريق سواء: طريق الاختيار المر: بين البقاء والفناء. وأعتقد أن المرحلة الراهنة تحتم على الأمة العربية أن تنهي لان الروح بلفق الحلقوم. وشرارة هذا النهوض لابد أن تنبعث من ثلاثة مواقع معاً: 1- الإعلام العربي الواعي الملتزم بقضايا أمته. حيث يجب أن يوقع الأمة على طريق النهوض عبر حملات تنشيط عقليً مكثف. مقابل الإعلام الخائر المستلم الانهزامي. 2- الدبلوماسية العربية . حيث يجب أن تكون هناك آليات عمل بعيداً عن الأطر التقليدية الرسمية. لتحقيق وحدة فكرية بين الدبلوماسيين العرب على مختلف الأصعدة لتنسيق الجهود في مجال حشد رأي عام عالمي مساند للقضايا العربية. 3- جامعة الدول العربية ومنظماتها المختلفة : حيث يجب أن تقاتل الجامعة من اجل إحياء روح المقاومة في النفسية العربية المنارة. وقد سبق للجامعة أن حققت نجاحات جيدة يمكن استلهامها وتطويرها والاقتداء بها. واقترح أن تكون هناك وسائل إعلام قولة عربيا تتوجه إلى الغرب لتحقيق هدفين: الأول: تصويب أفكار الغرب إزاء القضايا العربية ومواجهة التضليل الصهيوني. الثاني : توحيد كلمة الجاليات العربية والمسلمة في الدول الغربية حتى يصبح لها صوت فعّال في الانتخابات. وهو ما ترمز عليه الديموفراطيات الغربية وتعمل له الف حساب وهذا ما يفعله الصهاينة. هل ما زال مع العرب أسلحة ؟ يعتمد الصهاينة في قوتهم على عدد من الأسلحة الفصّالة التي يوجهون بها اصحاب القرار في واشنطن تجاه مصالح الدولة العبرية ومن هذه الأسلحة: 1- الصوت اليهودي في انتخابات الرئاسة. وذلك بالرغم من قلة عدد اليهود لكن ما يجعلهم مصدر قوة هو حسن التنظيم 2- السيطرة على وسائل الإعلام المؤثرة. 3- الصادات الإسرائيلية إلي الغرب عامة والى واشنطن خاصة. 4- الادعاء بأنهم دولة ذات عروق غربية وثقافة رأسمالية. وفي المقابل : ماذا يملك العرب لكي ينهضوا من كبوتهم، ويمكنهم تحقيق توازن سياسي إزاء " فجور" إسرائيل والتهامها الأراضي العربية وإهلاك الحرث والنسل في فلسطين يوما بعد يوم ؟ إن العرب شعوباً وأنظمة ما زال لديهم العديد من الأسلحة الاستراتيجية التي تمثل قوة ضغط يمكنها إعادة العدل إلى كفتي ميزان العدالة المائلتين جهة إسرائيل ومن هذه الأسلحة: 1- سلاح المقاطعة: إن حاجة إسرائيل إلى الأسواق العربية ظاهرة ويعبر منها الصهاينة مرارًا وتكرارًا في تلهفهم على تطبيع العلاقات مع العرب، وتدعم واشنطن هذا التوجه الصهيوني باستمرار. وقد ظهر هذا التدعيم في إقامة المؤتمرات الاقتصادية في القاهرة والدوحة والدار البيضاء. تلك المؤتمرات التي شاركت فيها إسرائيل بفاعلية وسعت من خلالها إلى فتح قنوات اتصال وتبادل تجاري مع عدد من الدول العربية. وتفعيل سلاح المقاطعة [ الذي أقرته جامعة الدول العربية منذ عام 1948 وأنشئ لتفعيلة وتنظيمه مكتب دائم في دمشق منذ العام 1951] ضروري في الوقت الراهن، ولو تم تفعيله لأمكن بسرعة وسهولة كبح جماح الثور الهائج في تل أبيب. واستطرادًا لهذا التوجه يمكن للأنظمة التفكير في تحجيم التبادل التجاري مع الدول الداعمة للكيان الصهيوني، فان كان ذلك عسيراً على الأنظمة فيجب على الإعلام العربي أن يتوجه إلى الشعوب : صاحبة المصلحة من اجل رفع درجة الوعي بالمقاطعة الاقتصادية. وقد ظهر تأثير ذلك جزئياً في الأعوام القليلة الماضية حين قامت به الشعوب العربية وتضررت شركات كبرى غربية من المقاطعة. وبدأت تضغط على حكوماتها من اجل اتخاذ مواقف اكثر عدالة وإنسانية إزاء العرب. 2- إعادة النظر في التحالفات الاستراتيجية: إن في إمكان العرب أن يلجأوا إلى سلاح آخر فعّال لتحقيق مصالحهم عن طريق إعادة النظر في اعتبار الولاياتالمتحدة حليفاً استراتيجياًّ لمعظم الأنظمة العربية. مما كرَّس فكرة الإمبراطورية الأمريكية. ولو أمكن للعرب إقامة تحالفات قوية مع القوى الأكبر اعتدالاً لكان ذلك اضمن لمصالحها. فالمعروف عن أمريكا أنها تتخلى بسهولة عن اقرب أصدقائها إذا ما بدا لها أن هذا الصديق فقد بعض ما كان يملك. فقد تخلت عن باكستان في نهاية الحرب البادرة ثم عادت لها مضطرة حين احتاجت إليها في محاربة حركة طالبان. إن إعادة تقوية علاقات العرب مع الصين واليابان وألمانيا ومجموعة دول شرق آسيا، وإيران، وكوريا الشمالية. كل ذلك سوف يسبب قلقاً لواشنطن ويجبرها على اتخاذ مواقف عادلة. ومثل هذه التحالفات الجديدة لن تحقق فقط مكاسب اقتصادية وسياسية للعرب، ولكنها ستعيد التوازن إلى العلاقات السياسية الدولية وتغيرَّ فكرة القطبية التي تبني عليها تلك العلاقات. وهنا تتذكر موقف جمال عبد الناصر حين أقر اتفاقية سلاح مع تشيكوسلوفاكيا عام 56/1957 بعد رفض واشنطن تسليح مصر. فقد كان لقرار تنويع مصادر السلاح المصري أثر مدوَّ على المستوى الدولي آنذاك. 3- الجاليات العربية داخل اميريكا : يقدر عدد العرب داخل الولاياتالمتحدة بحوالي 3.7 مليون مقابل أقل من 6 مليون يهودي. والوافع يشهد تبايناً واضحاً بين تأثير كل من الفريقين والأسباب منها: أ- أن الجالية اليهودية مرتبطة بإسرائيل متحمسة لقضاياها. ب – فرص الجالية العربية فتعاني من خلافات تمنع توحيدها جزئياً. إن الجاليات العربية في بعض الحالات مطاردة أو مهاجر بين بلادها الأصلية لظروف قهر وقمح، ومن ثم فهي تستمتع بجو الحرية السائد في أمريكيا، وتحاول أن تنسى كل ما يتصل بأصولها.!! ولكن أحداث " سبتمبر " أسهمت بشكل واضح في تنظيم الصوت العربي في أمريكا. فواشنطن لم تعد تميز [ على خلفية مفهومها الإرهاب ] بين عربي أمريكي وعربي من خارج أمريكا. وهذه نقطة إيجابية يمكن استغلالها من خلال الجمعيات والمؤسسات العربية في الولاياتالمتحدة من أجل العمل على توحيد صفوف العرب، ونبذ الخلافات القديمة، ومحاولة التأثير في مجتمعهم الجديد. وقد بدأ هذا التوجه مبكراً وقبل أحداث سبتمبر، ففي العام 2000م تشكلت " لجنة العمل السياسي العربي – الأمريكي " ومدَّت هذه اللجنة جسوراً للتعاون مع جورج بوش الإبن الذي وعدهم آنذاك بإلغاء قانون [ الأدلة السرية ] المضاد للإرهاب الذي صدر عام 1996م بهدف ترحيل الأجانب الضالعين في أنشطة ترى الحكومة أنها إرهابية. وبعد نجاح بوش الابن أختير أمريكي من أصل عربي وهو السيناتور سبنسر أبراهام [ لبناني الأصل ] وزيراً للطاقة. كما أختير ميشيل داينلز [ السوري الأصل ] مديراً لمكتب إدارة الميزانية. ولو استمرت الجالية العربية في تقوية صفوفها، ولقيت دعماً من الأنظمة العربية والدبلوماسية العربية في أمريكا لأمكن لها تحقيق مكاسب سياسية أكثر وأكثر. 4- الأموال العربية تقدر الأموال العربية المستثمرة في الولاياتالمتحدةالأمريكية برقم اختلف فيه عدد من المفكرين المختصين، لكنها على أي حالتتأرجح بين 800 و 900 مليار دولار. وهذا المبلغ يمثل الأموال السائلة المودعة في البنوك الأمريكية ولا يدخل ضمن هذا التقدير مل يملكه العرب من عقارات وشركات وأراض ومؤسسات. وهذه الأموال الضخمة تمثل مصدر قوة للاقتصاد الأمريكي. ومصدر ضعف للاقتصاد العربي. فالولاياتالمتحدة تستطيع تجميد هذه الأرصدة متى شاءت، كما حدث عندما تم تجميد أموال الكويت عقب غزو صدام للكويت. ثم أفرج عنها بعد ذلك لتمويل عملية تحرير الكويت. وكما حدث عندما تم تجميد أموال ليبيا والعراق في حالات مماثلة. ولو استطاع العرب سحب أقساط من ودائعهم تلك تدريجياً واستثمارها في بلاد عربية بها مؤهلات للاستثمار مثل السودان وغيرها لأمكن لهذا الإجراء أن يسبب صراعاً عنيفاً للرأس الأمريكي الهائم في هوى تل أبيب !! مما سبق، نستطيع أن نتفاءل بأن العرب، إذا شاؤوا، شعوباً أو أنظمة، فإن لديهم مصادر قوة ذاتية عديدة ولكنها معطلة. ولو شاؤوا علة مستوى الشعوب على الأقل لأعادوا تفعيل سلاح المقاطعة ولكان لهذا كله أثر بالغ في تصحيح مسار القرار الأمريكي الغربي المتحالف مع الصهاينة على طول الخط.