كأنه فرح ومعازيم وأنوار وزغاريد وناس مفرفشة، وضحك مالى القلوب وغناء ورقص ومزاج عالي، وفجأة ضربوا «كرسى فى الكلوب». هذا بالتحديد ما حدث لشارع عماد الدين، وهذا هو الوصف الأنسب لما آل اليه حاله مع مرور الزمان.. من مسارح وسينمات وفنانين ومبدعين وحكاوى السمر فى لياليه المضيئة إلى ضجيج وفوضى وإزعاج وتشويه. لم يكن مستغربا ان يجهل رواد شارع عماد الدين ماضيه وينسوا أبطاله وصانعى البهجة فى أرجائه، وذلك بعد ان طغى حاضره. تكرر السؤال وتكررت الاجابات التى تؤكد أن دوام الحال من المحال. حتى عندما تخيرت رجلا طاعنا فى السن اسمه الحاج حسن جلس مختبئا من حرارة الشمس واخذ يدخن الشيشة على أحد المقاهى الجانبية عند تقاطع الشارع مع باب البحر، قال: أيوة كان فيه «كباريهات ورقاصين»، لكن كنا صغيرين، مشوفناش حاجة. لكن شابا جالسا بالجوار يرمى زهر النرد بقوة ليغلب منافسه فى الطاولة تحمس قائلا: بيقولوا كان الفنانين الكبار كلهم هنا لكن الشارع الآن تستطيع ان تجد فيه كل ما تحتاجه من الأجهزة وماكينات الرفع الثقيلة أهم حاجة فى الشارع الزمن ده أنه بيبيع مستلزمات المصانع وملابس العمال وحاجات بيقولوا عليها «الأمن الصناعي».. تتجول عيناك فى المكان فتتحقق من صدق قول المارة فلا شيء يدل على عظمة ما كان، إلا ما تستطيع ان تتخيله لكن عندما تتجول بروحك تشعر كأنك داخل فيلم سينمائى تاريخى يحكى قصة الفن فى مصر، تحاول صرف أصوات السيارات المزعجة، عما نسجته مخيلتك من ذكريات الفن فى الزمن الجميل، هنا شارع الفن قبلة الفنانين فى عصر الازدهار الثقاقى سينمائى ومسرحى وغنائى.. أطياف راسبوتين وكشكش بيه وبربرى مصر الوحيد تتناغم مع ملامح العمارات الخديوية ذات الطرز الإيطالية الرائعة. هل هو حقا «برودواي» مصر؟ هل ينافس فعلا «وست إند» لندن، أو حى «البوليفار» فى باريس؟ لقد كان....وياما كان...جمال يفنى وبهاء ينطفئ وإبداعا يغيب لتحل الفوضى وتطغى العشوائية وتسيطر أصوات الباعة وضجيج محلات بيع الأجهزة الكهربائية والمواتير والمعدات الثقيلة.. يتعالى كل صوت مزعج تحارب حتى ذكرى الايام الحلوة وتطمس معالم صوت الفن من مسرح وأوبرا وغناء. هنا شارع عماد الدين ويقال إنه سمى على اسم درويش أو ولى صالح اسمه عماد الدين.. هو قلب «وسط البلد» الاشهر فى المحروسة يبقى شاهدا على تحول الازمنة وتغير الاحوال.. بطول 2.5 كم، تستطيع ان تستلهم عبق التاريخ هنا شخوص وأمكنة صنع تاريخ الابداع الفنى فى مصر، شماله شارع رمسيس وجنوبه منطقة عابدين ويمتد من خلال ميدان الأزبكية وميدان مصطفى كامل. اذا اتجهت إلى الجزء الجنوبى من الشارع تجد نفسك فى محمد فريد، وهناك تجد ميدان مصطفى كامل، الزعماء الوطنيون مبدعون ايضا مثل الفنانين الذين سميت على أسمائهم الشوارع مثل: نجيب الريحانى، وزكريا أحمد، وعلى الكسار، وسيد درويش. لم يبق من معارك الفن سوى أطلال ولم يبق من السينمات والمسارح العريقة سوى ذكريات او مبانٍ باهتة او متهالكة يوجد فى شارع عماد الدين مسرح واحد وست دور سينما «ليدو، سينما كريم، سينما كوزموس، بيجال كايروبالاس، سينما ديانا - مسرح الريحانى، وهناك دور سينما ومسارح مغلقة: سينما ريتز، مصر كايرو - مسرح مصر بالاس - مسرح محمد فريد - مسرح ومركز الحاروقى الثقافى. أما المقاهى فتعتبر من إبداع عماد الدين» ومظهرًا من مظاهر الإشعاع الثقافى مثل قهوة ريتس وبيرو وقهوة عماد الدين ومقهى زيزو ومقهى ام كلثوم، أما اشهرها على الاطلاق قهوة بعرة التى يقال إن الفنان رشدى أباظة هو الذى اطلق عليها هذا الاسم، حيث كانت مركزا لتجمع الفنانين. أما الآن فما تبقى من المقاهى لا يعدو ان يكون مكانا لإضاعة الوقت او الهروب من يوم شاق فى منتصفه بعدما فقدت حكاويها وأبطالها الحقيقيين. ورغم ضياع معالم الشارع إلا أن الأبنية ذات الطرز المعمارية العريقة يعود بناؤها إلى عهد الخديو عباس حلمى الثانى، والذى أنشأ ما سماه عمارات الخديو، تمت إعادة طلاء العمارات لتستعيد بعض جمالها وكانت قد تعرضت الابنية فى الشارع إلى الحريق عندما اندلع حريق القاهرة ليلتهم العديد من دور السينما والمسارح، لعل أشهرها ملهى صفية حلمى، لكن قبل الحريق كان الشارع ملتقى الفن وحكايات الفنانين منذ عشرينيات القرن الماضى، وكان به نقابة الممثلين ونقيبها وقتها الفنان أحمد علام، وكان الباب الخلفى للنقابة يتصل بالحارة التى تقع غرب فندق شبرد القديم52. وفى حديقته المقفرة كانت هناك شجرة عمرها آنذاك من عمر بناء الفندق، والذى كان قبل ذلك قصر (الألفى بك)، ثم اتخذه نابليون بونابرت عام 1798 مقرًا وسكنًا له، الى ان شهدت مقتل كليبر على يد سليمان الحلبى. ومن الحكايات الشهيرة عن الشارع أن الفنان الكبير نجيب الريحانى كان يسير بين معجبيه المتراصين لتحيته على جانبى الطريق راكبا «حنطور». وكان شارع عماد الدين نقطة انطلاق فنانات مصر إلى الدرجة التى يرى فيها البعض أن هذا الشارع بتاريخه الإبداعى العريق قام على اكتاف الفنانات الرائدات مثل عزيزة أمير ومنيرة المهدية ودولت أبيض وروزاليوسف قبل ان تتجه إلى الصحافة.