شباب ولى وجهه تجاه الخارج، واتخذ قبلته إما إلى الشمال أو الغرب، هربا من واقع مرير بات يراودهم ليلقوا مصيرا ينتهى بالموت المحقق أو طريق مظلم لا يتخلله بقعة ضوء، ناقمين على ظروف معيشية جعلتهم فريسة لميليشيات ومافيا الهجرة الشرعية وباتت مصائرهم تنتهى برحلة موت بحثا عن الحياة وتعددت أسباب الهجرة غير القانونية لهؤلاء الشباب، فمنها ما هو اقتصادى ومنها ما يتخذ شكلا اجتماعيا بحتا. ولأن محافظة الدقهلية طاردة لأبنائها خاصة الشباب، فقد اشتهرت بعض قرى المحافظة بالسفر إلى أوروبا وفيها قرى: نوسا الغيط، نوسا البحر، ميت العامل وميت مسعود التابعة لمركز اجا، ميت الكرما، ميت زنفر التابعتان لمركز طلخا وبساط كرم الدين التابعة لمركز شربين، وأويش الحجر التابعة لمركز المنصورة، ولقى عشرات من أبناء هذه القرى مصرعهم غرقا فى البحر المتوسط فى رحلة الهروب إلى إيطاليا عبر ليبيا عن طريق مراكب شراعية صغيرة لا تتجاوز حمولتها 35 فردا يتم فيها شحن المئات بعد دفع آلاف الجنيهات للسماسرة وتجار الموت الذين يحصلون على 70 ألف جنيه مصرى من كل شاب بعضهم يبيع كل ما تملكه أسرته لكى يوفر هذا المبلغ وبعضهم يحصل على قروض من البنوك وبعضهم يوقع على إيصالات أمانة بقيمة المبلغ يفعلون ذلك وهم يعلمون أن الموت المحقق ينتظرهم. وتجربة الهجرة غير الشرعية لها مذاق خاص رغم خطورة المغامرة وفى الدقهلية سجل كامل بقرى لها جاليات قوية ومؤثرة ومنها قرية نوسا الغيط، التابعة لمركز أجا والزائر لتلك القرية لا يصدق أنه فى قرية تقع فى حضن الدلتا المصرية. نوسا الغيط لا يوجد منزل بالقرية إلا وبه مندوب فى فرنسا أو إيطاليا أو ألمانيا أو كوريا، حيث تحولت القرية مع الزمن إلى قطعة من بريشيا الإيطالية بأيدى أبنائها الذين هاجروا ثم عادوا ليقيموا القصور والڤيلات جعلوا منها نموذجا معماريا يخطف الأنظار وحولوا نوسا الغيط إلى ما يشبه المدينة غير أن سعر الأرض فى القرية يعتبر الأغلى فى محافظة الدقهلية، وتعتبر ظاهرة المغالاة فى الزواج من المظاهر الطاغية هناك حيث يتنافس الشباب العائد من الغربة فى تقديم الهدايا الثمينة فى صورة شبكة للعروس، والتى تصل فى بعض الأحيان لمئات الآلاف من الجنيهات، فالقرية تضم مائة ألف نسمة وبرغم فقدان أكثر من 40 شابا فى مغامرات السفر غير المحسوبة، إلا أن رحلات السفر لا تتوقف فالشاب الذى أغلقت جميع أبواب الحياة فى وجهه بعد الحصول على المؤهل ودخل فى طابور العاطلين فى الوقت الذى يجد نموذجا ناجحا فى قريته سافر عبر البحر وبعد فترة عاد واستطاع تحقيق أحلامه يصعب إقناعه بخطورة الهجرة عن طريق البحر. شقيق عثمان إبراهيم النواجى من أهالى قرية نوسا الغيط يقول: أخى عثمان كان يبلغ من العمر 25 عاما وأبى يعمل بمصنع طوب وعندما أراد أخى السفر قام أبى ببيع مصوغات والدتى وأخواتى البنات وكتب على نفسه إيصالات أمانة بالباقى وكان أمله أن يصل أخى عثمان إلى إيطاليا ويجد عملا ولكن عثمان سافر منذ 2006 ولم يعد ولا نعرف عنه شيئا حتى أن والدى مات من الحسرة. ويروى السيد محمد معوض سائق من قرية نوسا الغيط قائلا: أخى محمد خرج مع صديقه أيمن السيد شهبة ودفعة من الشباب من أماكن أخرى لرحلة النهاية فى عام 2005 خرجوا جميعا فى رحلة نظمها لهم سمسار يملك أحد المراكب الشراعية وتحطمت المركب وغرقت بكل من فيها. أما سماح السيد المسيرى من نوسا الغيط أضافت أن زوجى كان مدرسا وراوده حلم السفر كبقية الشباب وبعت له مصوغاتى وجزءا من أثاث الشقة وقد سافر منذ 2008 ومنذ ذلك الحين لم أعرف عنه شيئا وترك لى بنتين فى عمر الزواج وأنا لا أملك أى دخل سوى عملى بصيدلية ب500 جنيه شهريا.. يروى إبراهيم سبع من نوسا الغيط تفاصيل المأساة: حاولت مثل الآلاف من الشباب السفر إلى إيطاليا وتعرفت على سمسار فى مجال الهجرة غير الشرعية وبالفعل اتفقت أنا ومجموعة من الشباب معه على تسفيرنا مقابل 60 ألف جنيه لكل فرد، مضيفا فى الموعد المحدد تم تجميعنا وسافرنا إلى ليبيا عن طريق البحر، وهناك تم تجميعنا فى إحدي الشقق وظللنا يومين لنجد السمسار يحشرنا مع آخرين داخل مركب متهالك ألقانا قرب السواحل الإيطالية لنواجه الموت غرقا فقد ألقت قوات حرس الحدود الإيطالية القبض علينا. وبرغم هذه المأساة التى تعرضنا لها إلا أننى فوجئت بهذا السمسار يقاضينى وزملائى بموجب إيصالات أمانة لمطالبتنا بباقى المبلغ المتفق عليه. أكدت 4 أسر من قرية ميت مسعود التابعة لمركز أجا أن الشهور الماضية مرت عليهم بصعوبة بسبب تغيب 4 شباب خرجوا فى رحلة هجرة شرعية عن طريق البحر باتجاه إيطاليا وذلك منذ 8 شهور ولكنهم اختفوا فى ظروف غامضة. وأكدوا أننا لا نعرف أى شىء عنهم غير شائعات بأنه مقبوض عليهم فى اليونان، وأخرى بأنهم غرقوا فى قلب البحر وإحنا مش قادرين نعيش من وقتها وقلبنا واكلنا عليهم وبنموت فى اليوم ألف مرة.. بهذه الكلمات عبر محمد حامد والد أحد الشباب وأضاف اتفق ابنى وثلاثة من شباب القرية عزت محمد وسعد عباس مع أحد السماسرة من قرية ميت مسعود يدعى صلاح على السفر إلى إيطاليا وأخذ من كل فرد 50 ألف جنيه وسافروا وتوجهوا إلى الإسكندرية ومن يومها لا نعرف عنهم شيئا وطرقنا كل الأبواب لعلنا نعرف عنهم شيئا دون جدوى. وقال يوسف الشحبور من أهل القرية: البلد كلها حزينة ونعيش فى قلق بسبب اختفاء هؤلاء الشباب، فكل آمالهم كانت تنحصر فى أن يعيشوا حياة كريمة.