على بعد 45 كيلو من مدينة الفيوم تقع قريتا «تطون» و«أبوجندير»، وحتى سنوات قليلة مضت لم يكن يعرف الكثيرون عنهما شيئاً، إلا أنهما أصبحتا فجأة مجالاً للأحاديث والأخبار الصحفية، فمنذ عدة سنوات سافر عدد من أبناء هاتين القريتين إلى إيطاليا، ونجحوا فى بناء مساكن فارهة لم تكن القرى الفقيرة تعرفها، فما كان من غيرهم إلا أن حاولوا تكرار التجربة، فمنهم من مات غرقاً ومنهم من مات تائها فى الصحراء الليبية مؤخراً. القرى التى كانت فقيرة أصبحت تضم بين جنباتها قصورا فارهة ومنازل بسيطة تحاول الوصول إليها، وبين هذا وذاك حكايات أليمة للموت فى الغربة، وشباب ما زالوا يحلمون بالسفر إلى أى دولة للعمل فيها بدلا من البطالة التى تخنق الجميع. تعتبر محافظة الفيوم من أعلى محافظات الجمهورية من حيث نسبة الفقر حيث تصل إلى 35.4% لتحتل بذلك المركز الرابع على مستوى الجمهورية، وتنتشر البطالة بين أبنائها حيث تنعدم فرص العمل إلا فى المجال الزراعى الذى بدأ يتلاشى نتيجة أزمة المياه الطاحنة التى تعانيها المحافظة التى كانت يوما ما جزءًا من وادى النيل، وتكونت تربتها الطينية من طميه الخصب، ونتيجة لكل هذه الأسباب لم يجد أبناؤها بدا من الهرب فى رحلات محفوفة بالمخاطر، وتعد أبوجندير وتطون من أشهر قرى المحافظة فى تصدير أبنائها لبلاد الغربة، فشبابها احترفوا السفر لإيطاليا منذ سنوات، ومن سافر ونجح منهم فى تكوين ثروة عاد إلى قريته ليبنى منزلاً ضخماً ما أغرى باقى أبناء القرية بالسفر إلى هناك فى رحلات هجرة غير شرعية، ويؤكد أبناء القرية أن السماسرة يستغلون رغبة الشباب فى السفر وانعدام فرص العمل فى المحافظة ويقومون باستقطابهم لتحقيق أحلامهم فى السفر مقابل مبالغ مالية تتراوح بين 30 ألفاً و50 ألف جنيه للسفر إلى ايطاليا، على أن يستعينوا بأقاربهم هناك للإقامة معهم فترة لحين إيجاد فرصة عمل لهم، بينما يصل هذا المبلغ إلى 70 ألف جنيه فى حالة السفر لدولة الامارات العربية للعمل بعقد عمل سليم فى مجال المعمار. محمد عمر أحد أبناء القرية يبلغ من العمر 26 عاماً اكد أن مشكلة معظم شباب القرية هى البطالة فالمحافظة- القريبة من القاهرة- لا توجد بها فرص عمل، ولا يجد أبناؤها سوى السفر أو بيع ما يملكون لشراء توكتوك والعمل عليه لكسب قوت يومهم، وأضاف أنا متزوج ولدى طفل وليس لى عمل فلا توجد مشروعات ولا وظائف حكومية فى القرية أو القرى المحيطة بها، وليس لى مصدر دخل فاضطررت لشراء توكتوك والعمل عليه مثل عدد كبير من أبناء القرية، مؤكد أنه لو جاءته فرصة للسفر إلى أى دولة فلن يضيعها. هروب إلى الموت هذه القرى كانت مصدرة للشباب إلى إيطاليا ولكن بعد أن أغلقت أوروبا ابوابها فى وجه المهاجرين غير الشرعيين، الذين يتم ترحيلهم بعد إلقاء القبض عليهم، راحوا يفكرون فى وجهة أخرى حيث بدأت عصابات التهريب تمنيهم بالسفر إلى ليبيا والعمل فى مجال المعمار، وهو ما أغرى عددًا كبيرًا من أبناء القرية بخوض غمار رحلات الهجرة غير الشرعية إليها، وهو ما كان سببا فى احتجاز العصابات المسلحة لعدد من أبناء القرية منهم محمد كارم الذى تم إلقاء القبض عليه من قبل العصابات عام 2014، وتم احتجازه فترة وبعد عودته لم يجد عملا، ولكنه أكد لنا أنه رغم البطالة والفقر فلن يذهب لأى مكان فالتجربة كانت قاسية، لذلك اصبح يعمل على سيارة أجرة يكسب منها قوت يومه ويعاون أسرته على الحياة، قائلا: يكفينا أن نعيش بأمان ولو اكلنا عيشًا وملحًا. وفى تطون التى كانت تعرف من قبل بميلانو الفيوم نتيجة هجرة عدد كبير من ابنائها إلى ايطاليا، تغيرت الأوضاع الآن، بعد أن أصبح السفر إلى ايطاليا صعبا، لذلك بدأت أنظار شبابها تتجه إلى ليبيا، وبدأت رحلات الهجرة إلى الموت، فرغم كل الأوضاع الأمنية السيئة التى تمر بها ليبيا منذ عدة سنوات وانتشار العصابات المسلحة فيها التى تخطف المصريين وتقتلهم، إلا أن كل هذه الأحداث لم تكن كافية لمنع محاولات الهجرة اليها لذلك فقدت هذه القرية 5 من أبنائها مؤخراً فى صحراء ليبيا ضمن 20 شابًا مصريًا عثرت السلطات الليبية على جثثهم متحللة فى الصحراء القاحلة، ومع ذلك فقد أكد أبناء القرية أن السفر ما زال حلمًا لكثير منهم خاصة الشباب الصغار، وهو ما أكده سيد عبدالسلام سائق الذى حصل على دبلوم صنايع، ولم يجد عملا، فما كان منه إلا أن تعلم القيادة وتزوج وأنجب 4 أبناء، وقال: السفر هو حلم كل أبناء القرية، فلا توجد أى فرص عمل، والأسعار نار والخدمات منعدمة، ونحن نعيش على هامش الحياة نكافح من أجل قوت عيالنا، ومع ذلك نحمد الله على كل شىء. ويلتقط صلاح عبدالستار أطراف الحديث، مشيراً إلى أن القرية لا توجد بها أى خدمات فحتى المستشفى الوحيدة الموجودة بها لا يوجد بها أى علاج والأطباء غير موجودين، والمواصلات قليلة والطرق غير مرصوفة والمياه مقطوعة باستمرار، ولا توجد فرص عمل، وأكد أن سنه لو كانت أصغر من ذلك لفعل مثلما فعل عدد كبير من أبناء القرية الذين هاجروا بحثاً عن حياة أفضل، مؤكداً أن العمر واحد والرب واحد. ولأن السفر إلى ليبيا هو الأرخص حيث تتكلف الرحلة نحو 10 آلاف أو 12 ألف جنيه فقط، لذلك اجتذبت هذه الرحلات العديد من شباب القرية خاصة أن معظمهم من البسطاء، حيث يقوم السماسرة بتجميع الشباب وتهريبهم عبر الدروب الجبلية على الحدود الغربية لمصر، والسماسرة الموجودون بمحافظة الفيوم من العرب الذين تربطهم علاقات قرابة بالقبائل التى تعيش على حدود مصر وليبيا، وهم أعلم بالدروب الجبلية بين الدولتين، حيث يقوم السماسرة المصريون بتوصيل الشباب إلى الحدود الغربية لمصر عبر مدقات جبلية وعرة، وهناك يتسلمهم سماسرة ليبيون يقودونهم عبر الصحراء الليبية بواسطة سيارات دفع رباعى، ومن لم يمت منهم بسبب الألغام الأرضية الموجودة فى الصحراء الليبية، قد يموت جوعاً وعطشاً مثلما حدث منذ عدة أشهر بعدما ضلت قافلة المهاجرين غير الشرعيين طريقها فى الصحراء، ومن ينجو من هذا وذاك ويصل لإحدى المدن الليبية كمصراتة التى تعد معقل أبناء الفيوم فى ليبيا قد تصادفه العصابات المسلحة التى تلقى القبض على المصريين ويكون القتل هو المصير، ومن ينجو من كل هذه المخاطر يتعرض دائماً لابتزاز عصابات قطاع الطرق المنتشرة فى المدن الليبية التى تفرض إتاوات على المصريين العابرين تتراوح بين 80 و100 دينار ليبى لتسمح لهم بالمرور من مكان إلى آخر، ما يزيد من تكلفة الرحلة خاصة أن معظم هؤلاء المهاجرين من البسطاء الذين باعوا كل ما يملكون لتوفير نفقات رحلة الموت.