انتصار «الأقصى» يرسم خريطة جديدة للمقاومة ويربك حسابات إسرائيل نجاح أهل القدس فى فك الحصار بعيدًا عن التنظيمات السياسية التى احتكرت القضية الفلسطينيون يتجاوزون مواقف الحكومات الرسمية ويحققون النصر فى أسبوعين القدس نادت فلم يستجب سوى أبنائها الشباب المرابطين على أبواب المسجد الأقصى، وبينهم آباء وأمهات طال بهم العمر فى البحث عن حل لقضية مل منها العرب، فباتوا يديرون ظهورهم لها، ولم يدعمها سوى بيانات الشجب والإدانة، لذا ظلت حبيسة المفاوضات السرية التى لم تجد طريقاً لنهايتها، وفى المرة الأخيرة– ونتمنى ألا تكون الأخيرة– استطاع شباب القدس ومرابطوها تحقيق انتصار ذى مذاق خاص، فلم يدرج فى تاريخ القضية الفلسطينية قضية تجلت فيها الثوابت الشرعية والحقوق التاريخية والأمجاد الحضارية مثلما حدث فى أحداث الأقصى الأخيرة.. هذه قراءة فى الحدث وأسباب النصر. البداية كانت يوم 14 يوليو حينما منعت قوات الاحتلال الصهيونى صلاة الجمعة بالحرم القدسى، وأعلنت أنه منطقة عسكرية حتى اشعار آخر، ومن هنا شد الفلسطينيون الرحال إلى «الأقصى» بعد نشوب اشتباكات بين فلسطينيين وإسرائيليين نتج عنها مقتل 3 فلسطينيين وشرطيين اسرائيليين، ليعاود نتنياهو يوم 16 يوليو إعادة فتح أبواب الأقصى، وتركيب بوابات إلكترونية لفحص المصلين الداخلين للصلاة، ما أدى إلى بدء المرابطة فى ساحات المسجد وتأدية الصلاة فى الشوارع، وفى يوم 20 يوليو أُعلنت حالة النفير العام والمشاركة فى جمعة الغضب، وتوالت الأحداث فى اليوم التالى 21 يوليو حيث حظرت قوات الاحتلال الصهيونى دخول الأقل عمراً من الخمسين عامًا، ويضطر المرابطون إلى أداء صلاة الجمعة فى الشوارع، ونشوب اشتباكات بين الجانبين أدت إلى سقوط قتلى ومئات المصابين، وبناء عليه أعلن الرئيس الفلسطينى عباس أبومازن وقف الاتصالات مع الجانب الإسرائيلى. وفيما بعد قتل الشاب الفلسطينى عمر عبدالجليل طعناً من قبل مستوطنين داخل «حمليش» شمال رام الله، وفى 25 يوليو قررت قوات الاحتلال ازالة الأبواب الإلكترونية مع وضع إجراءات أمنية متطورة، ولكن رفضت المرجعيات الدينية فى القدس الدخول حتى إرجاع الوضع كما كان سابقاً فى 14 يوليو، وفى 27 يوليو ازال الاحتلال جسوراً ومسالك حديدية أمام الاقصى، وبناءً عليه قررت المرجعيات الدينية الدخول إلى الأقصى وأداء صلاة العصر، وهو ما حدث عصر الخميس من نفس اليوم ودخل آلاف المصلين للأقصى، وتمت إصابة 120 مقدسيا خلال مواجهات تمت بداخله، وفى المساء اقتحمت القوات الخاصة الإسرائيلية المصلى القبلى واعتقلت المعتكفين. وفى الجمعة 28 يوليو، حددت قوات الاحتلال أعمار المصلين، وهو ما رفضه الفلسطينيون وفتحت أبواب المسجد بعد العصر وتوافدت عشرات الآلاف من المصلين لأداء صلاتى المغرب والعشاء معلنيين نصر معركة «الأقصى» لتدق طبول الفرح فى مدينة السلام بعد أعوام من الهزائم والضربات الموجعة ولكن هذه المرة انتزع الفلسطينيون نصرهم بحركة سلمية دون مقاومة واحتكاكات عنيفة كالتى عايشناها مسبقاً. بطل واحد ظل طول هذه الأيام صامداً لا ينتظر العون من أحد ولم يعول كثيرًا على جيرانه العرب، لم يدق أبواب جامعة الدول العربية، لم يتكئ على الفصائل الفلسطينية، ولم يهتم برد فعل السلطة الحاكمة، ولم يكترث بالدولة التى وكلت لحماية الأقصى ما قبل ذلك الاعتداء، هو الشعب الفلسطينى عامة، والمقدسيون خاصة.. هم من حملوا على عاتقهم حماية اولى القبلتين، وحدهم فى صمود مثير للدهشة، وهو حراك المرة الأولى التى نرى فيها توحيد الصف الفلسطينى على قلب رجل واحد. لعل الصورة الشهيرة التى يقف فيها القبطى بجانب أخيه المسلم كتفا بكتف يعاونه فى الدخول لمسجده ليصلى، هى الأبرز والمعبرة عن معانى اتحاد الشعب الفلسطينى، ويعتبر ناصر الشريف أحد المرابطين أمام المسجد الأقصى، النصر الوحيد فى حياته هو تلك الأيام التى قضاها وسط أهله فى القدس، وهو الذى يعتبر صمودهم وتكاتفهم سبباً كافياً للنصر على الاحتلال الصهيونى دون عون رسمى. ويرى «الشريف» أن الفعل الصهيونى بإغلاق المسجد الأقصى جاء كرد على العملية التى نفذها فلسطينيون بالقدس، ومن هنا بدأ جنون الاحتلال ضد المصلين، وطبقاً للمرجعيات الدينية التزم الجميع بعدم الدخول الى ساحات الأقصى فى ظل «التدنيس» الذى يتم، ويروى عن الاستفزازات التى واجهها المرابطون من قبل قوات الاحتلال طوال فترة الاعتصام التى لم يهتم بها الشباب واستمروا فى حالة صمودهم. وحول العناصر التى أسهمت فى نجاح المقاومة الفلسطينية فى استرداد «الأقصى» حكى «الشريف» عن محاولات البعض لجعل منطقة القدس بؤرة أحداث ومقاومة مثلما حاولت حركة حماس كى تختلق حالة من الاحتكاك مع الجانب الصهيونى، وتصوير الأمر كأن ما حدث عملية مقاومة، وهذا ما رفضه المقدسيون واتبعوا اوامر رجال الدين ومفتى القدس. وحول الدور السلبى من قبل السلطة الفلسطينية، أكد أن إعلان الرئيس محمود عباس أبومازن توقيف التنسيق الأمنى جعل الجيش الإسرائيلى لديه ذريعة لاستكمال ما بدأه، وأن السلطة أفاقت فى وقت متأخر من اندلاع الأحداث، وحينما أزال الاحتلال البوابات الإلكترونية شعر المرابطون بقوة ما فعلوا وترابطهم، فقررنا الاستمرار فى الاعتصام، ومن هنا اثبتنا للعالم الإسلامى أن الأقصى فى يد أمينة وأننا شعب ناضج وقراراته ملكه وحده هو ومرجعياته الدينية التقليدية دون نزاعات سياسية، واستطعنا ان نرفع رؤوسنا أمام العالم ونثبت أن أنفاسنا طويلة». «نحن تعبنا من مناشدة العرب» هى الجملة التى عبر بها المرابط المقدسى عن يأس الفلسطينيين من الدول العربية والعالم الإسلامى والدولى، ويحكى عن الجملة الأكثر صدمة على المرابطين التى أطلقها البعض بأن إغلاق الاقصى جاء نتيجة مكافحة الإرهاب الفلسطينى، ولكنه يرى أن الأقصى لا يعرف الإرهاب، وهو ما لا يعرفه مروجو الأكاذيب، وفى النهاية وجهنا رسالة لإسرائيل بأن القدس خط أحمر وقضية لا يمكن المساس بها، أما عن جامعة الدولة العربية فاتفق «الشريف» مع الرأى الذى انتشر مؤخرا بتحويلها إلى فندق بدلا من ضياع الوقت. والأكثر ألماً وخوفاً طول ال15 يوماً على المرابطين كان هو عدم الوصول إلى الأقصى ورؤيته، والخوف من اشعال الفتنة بين المقدسيين ولكن لن ينسوا هذه اللحظة التى دخلوا ساحات الأقصى بها بمئات الآلاف. كان التوحد وعدم التحزب والبعد عن الفصائل والاجتماع حول الدين فقط أسباب كافية لفرحة موسى أبومصعب أحد مرابطى القدس بانتصارهم فى معركة لم يهزم بها سوى الجهات الرسمية والأبواق المتشدقة بالقضية الفلسطينية ليظل النصر وحده للشعب المهموم بتاريخه وحضارته المبعثرة على أعتاب العرب. كان موسى أبومصعب بين المتوافدين للاعتصام بعد بدايته فى الايام الاولى، حيث بدأت داخل البلدة القديمة بالقدس بأعداد ضئيلة وليست على مستوى الحدث، ومع تصوير ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعى بدأت الحماسة تدب فى نفوس المقدسيين وتحرك الآلاف تلبية لنداء المرابطين منذ اللحظات الأولى حتى اجتمع فى اليوم الثالث جميع الشارع المقدسى وضواحيه ومناطق الضفة الغربية. وحول موقفه تجاه داعمى المرابطين فى معركة «الأقصى» يروى «أبومصعب» حديث جده الذى وافته المنية حينما اخبرهم ذات يوم بألا ينتظروا من زعماء الدول العربية شيئا، وكان لا يصدقه السامعون فهو رجل كبير السن ولكن مع حادث الأقصى الذى عاشوه بوجدانهم جعلهم يؤمنون بأحاديث الجد، فهو الشعب الذى لم يسانده سوى الشعوب قليلة الحيلة عبر مظاهرات ضئيلة بدول عربية وهو أضعف الإيمان. ويصف السلطة الفلسطينية بأنها «باعت القضية الرئيسية»، على حد قوله، أما حديثه عن جامعة الدول العربية فلم يختلف كثيرا عن جميع الآراء فهى الجامعة التى لا تمنح الحياة لدول مستقرة كى تمنحها لدول مشتعلة، ولا ينتظر منها أمل. فى قراءة متأنية لأسباب نصر الأقصى نجد أن الخاسر الأول فى المعركة هو اسرائيل التى لم تصمد كعادتها وتراجعت بعد 15 يوما من الترابط الفلسطينى وخسرت ما سعت إليه من مخططات بناء «الهيكل المزعوم»، حيث إن جنود المحتل تخوفوا من «الخدمة» فى محيط الحرم القدسى خوفاً من الاستهداف، وهو ما أصاب إسرائيل بالضعف، وانتهى الامر بهزيمتها ما أثار الغضب داخل اسرائيل نتيجة ضعف القيادات التى ادارت الأزمة. أما السلطة الفلسطينية، فقد أفاقت متأخرة، حيث أعلنت وقف الاتصال مع الجانب الإسرائيلى وبعض البيانات التى لم تعبر عن حجم الحدث، وقامت بصرف مبلغ مالى لم يعترف به المرابطون، دفعته ثمنا كدعم مادى للاعتصام، ولم يشعر الرئيس محمود عباس بحجم الأزمة، فسافر إلى الصين، تاركاً القدس فى حالة صراع. المملكة الأردنية الهاشمية أمسكت العصا من منتصفها، فهى التى تحركت ولكن فى مكانها، فكثير من الإدانات وقليل من الافعال، إلا أن البعض يرى أن هناك ضغوطا ما مورست من جانب المملكة على الجانب الاسرائيلى كى يتراجع عن موقفه وهو ما لم يعترف به المرابطون أيضاً. وعن جامعة الدول العربية، فقد فشلت فى عقد اجتماع قمة يناسب الحدث، واكتفت ببيان هزيل يطالب بعودة الأوضاع لما كانت عليه قبل 14 يوليو، كما غابت المنظمات الاسلامية والعالم الاسلامى عن دعم القضية الفلسطينية، وغاب مظاهر الدعم والتضامن الإسلامى الذى عاهدناه خلال سنوات طوال تشجيعاً للمرابطين فى القدس، ويحلل البعض هذا بأن حال العالم العربى «كل يبكى على ليلاه» بسبب أزماته الطاحنة. أما الخاسر الأكبر فى المعركة فهى حركة حماس وبعض الزعامات الاسلامية الفلسطينية، فلم تحقق وجودها المعروف فى القضية ولحقت بأصحاب الإدانات والشجب. الدكتور جهاد الحرازين القيادى بحركة فتح يرى أن صمود أهالى القدس سجل حالة فريدة من النضال الفلسطينى، الأمر الذى لم تتوقعه حكومة الاحتلال التى راهنت على تمرير إجراءاتها بحق المسجد الأقصى ومدينة القدس وبسط نفوذها على المسجد وإلغاء اى دور لإدارة الأوقاف، وأمام هذا الصمود الذى تجلى على مدار اسبوعين كان هناك العديد من الدعم الداخلى او الخارجى. ويشير إلى أنه على الصعيد الداخلى قامت القيادة الفلسطينية بوقف كل الاتصالات وتجميدها مع إسرائيل وتقديم التسهيلات والدعم المادى امام المسجد الاقصى ومبلغ 25 مليون دولار من موازنة الحكومة، بالإضافة الى حركة فتح، وإعلان حالة النفير العام فى الأراضى الإسلامية، الامر الذى جعل الاحتلال يفكر وفق التقديرات الأمنية بعدما خرج الامر عن السيطرة ما يجعل اسرائيل تتحمل عواقب العمل الذى اقترفته، وهذا بحسب «الحرازين». وتابع: على الصعيد الخارجى كانت هناك مجموعة من المواقف العربية لبعض قادة الدول التى أحدثت أثراً إيجابياً وكان لها دور فى ممارسة الضغوط، كما أن دور الأردن باعتبارها صاحبة الوصاية على تلك المقدسات وتواصل الملك عبدالله الثانى مع الولاياتالمتحدةالأمريكية ونتنياهو والتحذير من انفجار الأوضاع، كذلك كان هناك موقف مشرف من مصر من خلال الاتصالات التى أجراها وزير الخارجية سامح شكرى مع جميع الأطراف، وموقف الأزهر الشريف، إضافة إلى الدور الاعلامى والتغطية المصرية المتميزة لهذا الحدث، حيث استحوذت على جزء كبير من الاعلام المصرى سواء المقروء والمكتوب والمسموع. وعن أن كل ما ذكر ما هو الا بيانات ومواقف شفهية قال «الحرازين»: دائماً أى عمل يعتمد على جانبين، جانب صمودى ومرابطة وجانب آخر يعمل مع المجتمع الدولى، ويعزز الصمود لأن الفكرة يجب أن تكون هناك ضغوطات تمارس دولياً على دولة الاحتلال مع الصمود، ولذلك التقليل من الدور الخارجى حتى لو كان بالدعاء أمر خاطئ، لأن القدس لكل المسلمين والعرب. وترى المتخصصة فى الشأن الفلسطينى الدكتورة ريم حرب أن الفضل الأول فى النصر بالأقصى كان للمقدسيين الذين ظلوا فى ساحات المعركة، وهذا لا يمنع ذكر عوامل أخرى أسهمت فى ذلك النجاح ومنها الدعم الدولى والعربى، فدونه لم يكن ممكنًا الاستمرار، وظل موقف السلطة الفلسطينية والفصائل، خاصة أن بعضه كان معنوياً والآخر مادياً. وعن موقف الدول العربية قالت «حرب» إن الجميع رفض ما يحدث وهذا أضعف الايمان ولا ننسى أن كل دولة بها ما يكفيها من أوجاع تمنعها من التدخل بشكل مباشر فى هذا الحراك، ولا تستطيع اتخاذ موقف حاسم كغلق سفارات إسرائيلية، أو ما شابه من أفعال، ولم يعول أهالى القدس على الدول العربية كثيراً ولا الدولية، ولم يوجه أحد رسائل للخارج كما كان من قبل لان الجميع يعلم أن النداء ليس له صدى، وظل دور المجتمع العربى ضعيفًا رغم وجوده إلا أن النصر الحقيقى محا كل شىء. دكتور ايمن الرقب، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس، يعتبر الفضل أولاً وأخيراً لأبناء القدس، فهم من رفضوا تكرار حدوث مشاهد الحرم الإبراهيمى فى الأقصى، كما تجاوزوا كل الخسائر ومنعوا مختلف التغيرات التى حاولت اسرائيل فرضها وخاضوا معركتهم بمفردهم فحققوا النصر ولم يلحق بهم أحد. واشار «الرقب» إلى أن موقف السلطة الفلسطينية لم يكن طيبا فقد غادر الرئيس أبومازن الاراضى الفلسطينية رغم اشتعال الاحداث، كما أن إدانة السلطة للعملية التى تمت ضد إسرائيل كانت ذريعة ضد المقدسيين، وفرصة لاستمرار الاحتلال، فضلاً عن عدم استجابة الشعب لأى من الفصائل الفلسطينية أو المؤتمرات ذات الشعارات الرنانة، كما كانت هناك فطنة ووعى لدى الفلسطينيين بعدم تحريك الأحداث بإطلاق نار وصواريخ إسرائيلية فى القدس لأنها خط أحمر، وكان هذا هو الخوف الوحيد طوال تلك الفترة، واستمر النضال عدديًا فقط وبشكل سلمى حتى وصل فى اليوم الأخير إلى مئات الآلاف ما أسقط مخطط الاحتلال، وهنا تجب الإشارة إلى أنه للمرة الأولى تتوحد الإرادة الفلسطينية دون تنظيمات أو تحزب. وطالب «الرقب» الجميع باستغلال هذا التوحد وهذه التجربة لدحر الاحتلال وجعله يعيد حساباته وتأكيد انكسار هيبة اسرائيل فى ملف الأقصى. وكان الأكثر نقدا وفى موقف مخزٍ لدى «الرقب» هو دور شيوخ الفتن– بحسب تعبيره- مثل يوسف القرضاوى ومحمد حسان وغيرهما ممن لم يخرجوا ببيانات تدعو للجهاد بفلسطين، مثلما فعلوا فى مصر وسوريا، ولم يطلبوا من المجاهدين الدفاع عن القدس، أو رفع معنويات المرابطين، وهذا دليل على فتنتهم واتجاهاتهم.