تعكس عمالة الأطفال فى مصر واقعاً اقتصادياً واجتماعياً مريراً وتحت وطأة الفقر والحاجة التى يعانى منها الملايين، اتسع نطاق الظاهرة المؤلمة لاسيما فى السنوات الأخيرة. وإذا كانت عمالة الأطفال فى مصر تجسد عجز الأسر عن رعاية أطفالها أو استخدامهم وسيلة لكسب جنيهات قليلة، إلا أنها تعكس فى الوقت ذاته عجزاً حكومياً فاضحاً عن حماية هؤلاء الأطفال وتوفير الحد الأدنى من متطلبات السلامة المهنية أو حمايتهم من جرائم كبرى ترتكب ضدهم بعضها يصل حد اغتصابهم فى الورش والمحلات. وهكذا لم يعد حلم المصريين تجنيب أطفالهم ذلك العمل فى سن مبكرة.. فقط توفير الحد الأدنى من الحماية فى تلك الأعمال القاسية التى تغتال براءتهم وتسرق أجمل سنوات أعمارهم. بلغة الأرقام، يتجاوز عدد الأطفال ممن هم دون السن القانونية الذين ينخرطون فى سوق العمل حاجز الملايين، وينتشرون فى القرى الفقيرة والأحياء العشوائية. وراء كل طفل قصة مأساوية. لكن يبقى الألم قاسماً مشتركاً بين كل هؤلاء. فى السطور القادمة.. نظرة جديدة على عالم عمالة الأطفال فى قلب مشهد كبير يحتفل به العالم كل عالم وهو «عيد العمال». وفقاً لآخر بحث للدخل والإنفاق لعام 2015، فإن معدل الفقر فى مصر يصل إلى نسبة 27.8٪ بما يعادل 25 مليون نسمة، منهم 5.3٪ لا يجدون الغذاء و81٪ من الفقراء خارج مظلة التأمينات الاجتماعية. وسط تلك الأوضاع غير الطبيعية والتى زادت حدتها منذ ثورتى 25 يناير و30 يونيو وتوحشت بعد قرار تعويم «الجنيه» والارتفاع الجنونى للأسعار وتدنى المستويات المعيشية والاقتصادية.. كان من الطبيعى أن تتفاقم أيضاً ظاهرة عمالة الأطفال فى مصر والتى بلغت نسبتها 9.3٪ بحسب إحصاءات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء فى الفئة العمرية من 5- 7 سنوات. وفى تقارير أخرى للجهاز تأكيد على أن حجم عمالة الأطفال تعدى المليونى طفل، منهم 83٪ يعملون فى الريف، مقابل 16٪ فى المدن، ونسبة 46٪ من إجمالى هؤلاء الأطفال العاملين تتراوح أعمارهم بين 15 و17 سنة، كما أن 68٪ منهم من الذكور و21٪ من الإناث. ويصل عدد ساعات العمل التى يقضيها هؤلاء الأطفال يومياً لمعدلات تتجاوز 9 ساعات وتستمر 6 أيام فى الأسبوع لتتجاوز بذلك عدد ساعات عمل الكبار. ويبلغ حجم عمالة الأطفال 3 ملايين طفل بحسب مركز الطفل العامل، يمثلون ثلث الشريحة العمرية الموجودة بالتعليم الأساسى. وطبقاً للمسح القومى لظاهرة عمل الأطفال الصادر عن المجلس القومى للطفولة والأمومة، هناك مليونان و76 طفلاً عاملاً فى مصر يمثلون حوالى 26٪ من إجمالى عدد الأطفال فى مصر بما يعنى أكثر من ربع الأطفال فى الشريحة العمرية من 14 إلى 16 سنة. وفى الوقت نفسه، أعلنت منظمة العمل الدولية أن حجم عمالة الأطفال فى مصر يبلغ قرابة 2.2 مليون طفل بنسبة تصل إلى 26٪. وهذه الأرقام رغم تناقضها حتى فيما بين الإحصائيات التى تصدرها نفس الجهة، إلا أن ظاهرة عمالة الأطفال فى مصر واقع أليم لا يمكن إنكاره، بل يستدعى التعامل معها بجدية، وأن زيادة معدلات الفقر ستزيد من معدلات «تلك الظاهرة»، وستصل بها وبالمجتمع إلى الحد الكارثى، وتظهره بعض إحصائيات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء من أن 40٪ من الأطفال العاملين لم يلتحقوا بالمدارس بسبب ارتفاع تكاليف ونفقات التعليم وعدم كفاية دخل الأسرة لتحملها، ولذلك فإن 40.9٪ من الأطفال العاملين توقفوا بعض الوقت عن الدراسة والعمل بسبب تأثير إصابات العمل، مقابل 2.4٪ توقفوا تماما عن العمل والمدرسة، وتكشف تقارير الجهاز عن وجود 26.4٪ أطفال فقراء موزعين بنسبة 12.3٪ فى الحضر و36.3٪ فى الريف. كما تبلغ نسبة الأطفال الفقراء والمحرومين من المأوى 13.5٪ من المياه النقية و11.8٪ من الغذاء و4.9٪ من التعليم. واستكمالاً لهذا الوضع الكارثى كشف الجهاز أن المهن اليدوية والخطرة من أولى وجهات الأطفال للعمل كإصلاح السيارات ومختلف ورش الميكانيكا والحدادة والخراطة، وفى مجال المعمار والبناء والإنشاءات وأعمال الزراعة الشاقة أو المحاجر التى يرتادها معظم الأطفال فى الصعيد بسبب ارتفاع الأجرة اليومية لهم. وتوضح تقارير جهاز التعبئة والإحصاء أن 61.9٪ من إجمالى الأطفال العاملين يعملون لدى الأسرة دون أجر.. وأن أعلى نسبة للأطفال العاملين فى الفئة العمرية من 15 إلى 17 سنة تبلغ 88.9٪ حيث مثلت النسبة للذكور أكثر من 4 أضعاف الإناث. ومنذ سنوات عدة، تفشت ظاهرة عمالة الأطفال فى مصر.. وهذا ما كشفته أيضًا دراسة حديثة لوزارة القوى العاملة وأكدت من خلالها أن الفقر والجهل وراء تفشى الظاهرة، وأظهرت الدراسة أن عدد العمال الصغار تجاوز مليونين و786 ألف طفل يعملون فى ظروف صعبة تعرض حياتهم للخطر ويعملون فترات طويلة تتجاوز أوقات العمل للكبار فى الأعمال.. وأنهم رغم كل هذا جميعًا لا يتمتعون بأى حماية قانونية ويعملون بصورة غير رسمية ودون وثائق عمل أو شهادات صحية وثلث هؤلاء يعانون من سوء المعاملة ويتعرضون لأشكال مختلفة من العنف الذى يلقونه خصوصًا من أصحاب الورش. هكذا حال الطفولة وعمالة الأطفال فى مصر التى كانت ولا تزال تتفاقم وتنذر بوضع كارثى ما لم يتم احتواء تلك المشكلة الخطيرة بعدما تحول الطفل إلى مجرد سلعة تباع وتشترى بل أشبه ما يكون بحيوان معصوب العينين يدور فى ساقية «الاستغلال» ودون أدنى حق للقبول أو الرفض. طفل، حسب سنوات عمره، لكنه كهل حسب الأعباء التى يتحملها، ومن ثم تصبح القضية ليست «عمالة تحت السن» فقط بل هى وجه من وجوه أخرى عديدة لمشكلة أكبر وأوسع تقع تحت عنوان عريض هو «الاستغلال». فالضحية واحدة.. الطفل والمشاركون فى الجريمة كثر ما بين المجتمع ومنظمات تتربح باسم الطفولة، وهى دكاكين و«سبوبات» للاتجار بهم. انتهاكات وأوجه مختلفة للاستغلال تعرض لها الأطفال على سبيل المثال خلال شهر مارس 2017 كشفها تقرير المؤسسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفولة والذى اعتبرها التقرير الأعلى فى تاريخ مصر خلال السنوات الخمس الماضية. إذ بلغ عدد الأطفال المنتهكين 1121 طفلًا فى 182 قضية تم تداولها إعلاميًا من خلال الصحف والجرائد الحكومية وغير الحكومية ما بين القتل والاختطاف والاغتصاب والغرف وغيرها. وبلغت نسبة الإناث من تلك الانتهاكات 13٪ والذكور 16٪ و71٪ لأطفال لم يتم ذكر نوعهم. وكشف التقرير أن الانتهاكات التى تعرض لها الأطفال تضمنت 9 حالات اختطاف و35 حالة استغلال جنسى و966 حالة إصابة فى حوادث، منهم 16 حالة عمالة أطفال، كما رصدت المؤسسة 7 حالات انتحار بين الأطفال و4 حالات عمالة الأطفال و3 حالات تعرض للخطر. وأشار التقرير إلى وجود 866 إصابة للأطفال فى الحوادث خلال مارس الاضى منهم 16 حالة إصابة عمالة أطفال. كما رصد التقرير وصول عدد حالات قتل الأطفال إلى 74 طفلاً، منهم 4 حالات قتل نتيجة عمالة الأطفال. كما رصد التقرير حالات الاستغلال الجنسى، منهم 24 حالة لأطفال الشوارع وحالتان بهدف التسول. وأكد التقرير أن المحافظات الريفية احتلت المرتبة الأولى فى الانتهاكات ب145 حالة انتهاكات لحقوق الطفل وب37 للمحافظات الحضرية. الأطفال فى مواقع العمل، يمثلون كنزًا لأصحاب العمل.. فهم يقضون ساعات عمل طويلة مقابل أجور زهيدة. أما المسئولون، فتركوهم يتعرضون لشتى أنواع التعذيب والاستغلال خاصة فى أعمال غير مؤهلين لها جسديًا ونفسيًا دون سن قوانين لحمايتهم أو وضع برامج التدخل وإشباع احتياجاتهم ومتابعة تنفيذ القوانين مع بناء مؤسسات تهتم برعايتهم والاهتمام بالمنظومة التعليمية خصوصًا مرحلة التعليم الأساسى بحسب الدكتورة فوزية عبد الستار، رئيس اللجنة التشريعية الأسبق بمجلس الشعب، مشيرة إلى ضرورة تضافر الجهود بين مختلف الهيئات الرسمية والأهلية للتعامل مع هذه الظاهرة المتفاقمة وإصلاح الوضع المادى لهؤلاء الأطفال وأسرهم من خلال التبرعات والإعلانات المادية والعمل على إيجاد فرص عمل لأحد الأبوين. فالتصدى للظاهرة واجب قانونى ودستورى بحسب الدكتورة فوزية، فبنص المادة 80 وهى أطول مادة بالدستور الجديد لعام 2014 عمالة الأطفال مجرمة. فالدستور يحظر تشغيل الطفل قبل تجاوزه سن التعليم الأساسى وكذلك يحظر تشغيله فى الأعمال الخطرة ويلزم الدستور الدولة بحمايته من جميع أشكال العنف والاستغلال التجارى والجنسى وسوء المعاملة. كما أن مصر صادقت على اتفاقية حقوق الطفل والتى ينص المادة 23 منها والصادرة منذ 1991 على أن الدولة ملتزمة بحماية الطفل من الاستغلال الاقتصادى، ومن أداء أى عمل يكون خطيراً أو يمثل إعاقة لتعليم الطفل أو ضارًا بصحته وبنموه البدنى أو العقلى أو الروحى أو المعنوى أو الاجتماعى. كما تلزم الاتفاقية الدولة باتخاذ كافة التدابير التشريعية والإدارية اللازمة لضمان تنفيذ نص المادة 23 فى وضع نظام مناسب لظروف وساعات العمل وكذلك حظر تعرضه لأى عقوبات قاسية أو مهينة. وفى هذا الصدد، يؤكد محمود البدوى المحامى خبير حقوق وتشريعات الطفل أهمية التفريق بين «عمل الأطفال» و«عمالة الأطفال» لوجود أطفال يدرسون وهم يعملون فى ذات الوقت وأطفال اضطروا لترك التعليم لمساعدة أسرهم فى الحياة والمعيشة وهم الأولى بالرعاية والحماية التشريعية والاجتماعية لهم. ويشير محمود البدوى إلى ضرورة تفعيل المبدأ الثامن من مبادئ اتفاقية الطفلل التى وقعت عليها مصر والذى ينص على تمتع الطفل بالحماية من صور الإهمال والقسوة والاستغلال ولا يجوز استخدام الطفل قبل بلوغه سن الرشد. ويحظر فى جميع الأحوال حول الطفل على العمل أو تركه يعمل فى أى مهنة أو صنعة تؤذى صحته أو تعليمه أو تعرقل نموه الجسمى أو الخلقى أو العقلى. كما توجد دراسات متعددة حول عمالة الأطفال، حذرت من التأثيرات السلبية من ظاهرة عمل الأطفال التى يستغل فيها صغار السن. من تلك الدراسات واحدة أعدتها الدكتورة عزة كريم خبيرة الاجتماع بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية أشارت إلى أن الكثير من أصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة يفضلون عمالة الأطفال لكونها رخيصة وعمالة مطيعة ولكونهم أكفأ فى القيام بالأعمال اليدوية والنظام وخدمة العاملين، إلى جانب أنها تعفى صاحب المنشأة من التزامات وشروط تتمثل فى الضرائب والتأمين الاجتماعى ومن ثم رواتب ضعيفة فى مقابل خدمة كبيرة إلى جانب الطاعة والتهرب من كل التزامات العمل الأساسية. وتؤكد الدكتورة عزة أن الخدمة المنزلية هى واحدة من صور عمالة الأطفال واسعة الانتشار رغم تجريمها كافة أنواع العمالة فى قانون الطفل الصادر عام 1996. وترى أن اعتبار البعض لعمالة الخدمة فى المنازل لا يمثلون خطورة غير صحيح وإنما يمثل خطرًا على صحته النفسية والصحية. وعلى نفس النهج.. تشير الدكتورة عزة كريم إلى أحدث دراسة للمركز القومى للبحوث الجنائية والاجتماعية أجراها خلال العام الماضى 2016 حول التسول فى مصر أوضحت أن نحو ثلثى أفراد الظاهرة من الأطفال يتم إجبار البعض منهم أو استئجار آخرين مقابل مبالغ مادية. وقدرت الدراسة عدد المتسولين بنحو 41 ألف متسول فى مصر، احتل الأطفال العدد الأكبر ممن يتم استخدامهم أداة ربحية فى التسول بنحو 21 ألفًا و650 طفلًا متسولًا يليهم المسنون ب11 ألفاً و6320 امرأة متسولة و1140 شابًا من 30 إلى 40 عامًا والباقى من فئات عمرية مختلفة، وأشارت الدراسة إلى أن نسبة 18.4٪ من الأطفال المتسولين فى الشوارع مصابون بعاهات يستخدمونها كوسيلة لنجاحهم فى مهنتهم، منهم 87٪ أحدثت لهم عاهات مصطنعة وجميعهم يحققون دخولًا شهرية بشكل ثابت. وعمالة الأطفال.. جريمة يعاقب عليها القانون، وهى أيضًا جريمة مهينة تقوم على استغلال الطفال بحسب الدكتور صفوت العالم، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة. وتتجسد الظاهرة فى أبشع صورها فى استخدامهم فى إعلانات التبرعات لعلاج مرضى أو كفالة يتامى وغيرهم.. أقل ما توصف به أنها قلة أخلاق وقلة مهنية وتجارة إعلانية بوجود حالات أطفال صغار السن وخاصة المرضى منهم أو ذوى الاحتياجات الخاصة وهو ما يمثل انتهاكا صارخًا وعملاً قهرياً ليس للطفل فقط المستغل بل للمجتمع بأكمله من خلال إعلانات تحوى مشاهد قاسية لمرضى ومحتاجين يستخدمون بشكل ضد حقوق الطفل ويستلزم وضع تشريعات حاسمة وجهات تنفيذية تعاقب المخالفين.