أخيراً جلست فى ركن بعيد من مملكتها الآيلة للسقوط. هدأت روحها المفعمة بالحياة والصبر. تكومت تحتضن أحزانها تختبئ عن عيون رعيتها ها هى تستسلم وتضع «يدها على خدها».. فيما تسقط دموع الفشل حارة تكوى ملامحها الشاحبة، شطارة «ست الدار» انهارت أمام توحش أسعار السلع، سقطت كل أسلحة الأم المصرية في التوفير والتدبير ولم يعد أمامها سوى شد الأحزمة على البطون الخاوية، وصم أذنها عن صراخ الصغار الجوعى، وهم يصبحون على الهموم ويبيتون بدون عشاء في ليال قاتمة شديدة الوحشة. ها هى ترفع الراية البيضاء وتعلن الهزيمة الساحقة فى معركة كانت فيها دائما موضع دهشة الجميع. ولكن في هذه المرة أصبح الأمر أخطر من قدراتها وحيلها فهزمها غول الأسعار بالضربة القاضية. تتساوى في ذلك الموظفة «صاحبة المرتب» والفلاحة ذات التاريخ العميق في «الاكتفاء الذاتى» والمعيلة التى تمتلك صلابة الرجال فى البحث عن لقمة العيش.. صابرين وأم كلثوم: لا فيه طيور ولا قمح ولا لبن.. والفلاحة هتموت من الجوع! منذ عهد الفراعنة والمرأة المصرية «حمالة الأسية» تحيط بيتها بجناحى صقر قوى فتطعم الرعية بما تيسر وبما يجود به رب البيت وبفضل عقليتها المدبرة الهائلة تحل البركة على البيت ومن فيه فتشبع البطون وتهدا الأرواح ويعم الأمن والسكينة. وبمرور الزمان اكتسبت خبرة هائلة في تحمل تقلبات الزمن وغدره وأصبحت الست المصرية مضرب الأمثال في «التعايش السلمى» مع الازمات ووزيرة اقتصاد ما تحت خط الفقر و«ضل الحيط» إذا غاب أو «خاب» رب البيت إلا أن الظرف الاقتصادي الذى تمر به البلاد الآن فاق كل قدراتها فأعلنت عجزها ورفعت الراية البيضاء واستسلمت وبكت ضعفا وقهرا. وهكذا كانت دموع «صابرين» بمثابة استغاثة وصرخة فلاحة مصرية لم يكن أحد يسمع شكواها من أسعار أو اختفاء سلع لأنها كانت تأتى بالخضراوات من الغيط، وتطحن القمح أو الذرة المزروع فى الأرض والمعد فوق أسطح الدور فتصنع خبزا. وكانت تربى الدجاج والبط في صحن الدار مع الأطفال ثم تطعمهم من خير تربيتها. فيما كان الحليب والجبن والزبد متوفرا بفضل جاموستها التي خصصت لها ركناً بالجوار "الزريبة". كل ذلك أصبح تاريخاً تتحسر عليه صابرين وكل فلاحة مثلها. رغم أننى قابلتها وسط الخضرة في الأرض التي تستأجرها منذ سنوات طويلة حيث أجواء الخير والبركة والنقاء كانت تجلس وأطفالها يمرحون حولها بعد احتساء الشاي المصنوع على موقد صنعته من الطوب وخشب الأشجار. المشهد يوحى بالهدوء وراحة البال، كلمات الفلاحة المسكينة كشفت عن هموم وأحزان ثقيلة. دى مش أرضنا. دى أرض سلفتى. أرضنا أخدوها مننا بعد 9 سنين شقا «طلعت مبانى» سلمناها لصاحبها واضطر «الراجل» يشتغل في البلدية باليومية، يعنى بقينا أرزقية يوم فيه ويوم مافيش، كنت الأول أزرع وأطبخ أي حاجة من زرع ادينا. نظرت إلى صابرين وأطفالها وكانت ابنتها الكبرى فى الطريق تحمل فوق رأسها «حلة» أعطتها لأمها التي قالت لى فى أسى. «كيلو طماطم بخمسة جنيه» ثم أخرجت من جيب جلبابها كيساً صغيراً به سمن صناعي ب2 جنيه، وكيساً صغيراً به حفنة عدس أصفر وقالت «ربع عدس ب8 جنيهات هو ده طبيخ عيلة فيها 7 عيال وأبوهم وأمهم». ثم صرخت فى غضب وهى تطلب من الابن إحضار كيس العيش ثم فتحته لأراه وهى تقسم أنه «كسارة العيش» وقالت وقد غلبتها الدموع «والله البنى آدمين ما يرضوا ياكلوه، لكن نعمل إيه. حصتنا في التموين كيلو دقيق للفرد. والتموين مايكفيش نضطر نشترى من السوق كيلو الأرز ب10 جنيهات. والله العظيم ممكن نقعد أسابيع من غير طبيخ وممكن نقعد من العيد للعيد مافيش لحمة. حتى التعليم مش قادرين عليه كله بالفلوس». بالجوار كانت شقيقتها فاطمة تستمع إلى حوارنا باهتمام شديد وبينما كانت تلملم بعض أعواد الجرجير من الأرض قالت بصوت مسموع: الفلاحة النهارده بتجوع هى وعيالها ومش بنجوز البنات من الفقر والغلاء يعنى لو جالها عريس مقتدر ماشى لكن لو قال هتولها طبق مش هنجوزها خليها قاعدة في ريحنا. معاناة الحاجة أم كلثوم الفلاحة العجوز كانت أكثر إيلاما لأنها ببساطة عاشت «أيام العز» ولم يبق منها سوى بيت كبير استطاعت بشطارة زمان اللى راح أن تبنيه لتستر أبناءها بين جدرانه قالت أم كلثوم: زمان كان خير على خير وكان البيت مليء بالطيور فناكل البيض واللحم وكنت أخبز العيش «كوماج» وعيش «مرحرح» وأصنع الجبن والزبد من جاموستى وربيت رجالة وستات، أما الآن الدنيا صعبة ودقيق التموين لا يكفى الخبيز ونوعه سيئ مافيش ردة ومخلوط درة يعنى لو بات ما يتاكلش. كان «المنزل» يشيل خير ونعمل أكتر من صنف عيش ومع الجبنة القريش ولبن «الخض» اللقمة ليها طعم اليومين دول بنفطر فول وطعمية من السوق ومش مكفى العيال وقاطع قلبنا . قلت لها. ولم لا تشترى دقيقاً حراً؟ - الكيلو ب7 جنيه كل حاجة غالية حتى كيلو السكر ب15 جنيه ولا نجده يعنى اتحرمنا من كوب الشاى وأصبحت «الحاجة الساقعة» أرخص منه. والأرض لم تعد زى زمان «انقطع خيرها» حتى كيلو اللبن نشتريه ب10 جنيه وصحتنا تعبت من السمن الصناعى وحرمونا من حتة السمنة البلدى. تنظر الفلاحة العجوز إلى أحفادها الصغار وتقول "صعبانين عليا محرومين من خير الفلاحين وخبيز وتربية أيدنا لكن ما باليد حيلة". «هدى»: الأسعار فاقت المرتب 100 مرة «ومش شايلين» جنيه الطوارئ! المرأة الموظفة كانت دائما موضع حسد لأنها "صاحبة مرتب" يعنى شريكة فعلية في أي قرار ببيتها وإلى حد كبير هناك فرق بين بيت به راتبان وآخر يسير براتب الرجل فقط. ولكن الارتفاع المتتالي لأسعار كافة السلع جعلها تصرخ من الغلاء والعجز عن تدبير أبسط احتياجات البيت، وهو بالفعل ما أكدته لنا هدى بدوى موجهة بالأزهر كانت تنتظر أى ميكروباص يقلها من المنيب إلى بيتها بوسط البلد وقد بدت عليها علامات الإرهاق الشديد والحيرة. ما أكثر شيء يشغل بالك الآن؟ - الذى يشغل بال ست مصرية هنكمل الشهر إزاى؟ المرتب يتقزم كل يوم لأن الأسعار ترتفع كل يوم آخر حاجة الطماطم فجأة أصبحت بخمسة جنيهات. والحكاية لا تقتصر على ذلك عندى ابن فى الثانوية العامة والامتحانات اقتربت «ومش ملاحقين دروس». كيف دبرت ميزانية الثانوية العامة؟ - الجمعيات ليس أمامنا سواها يعنى أدخر سنة كاملة ما يقرب من نصف دخلى أنا وزوجى للدروس؟ المصيبة الأكبر لو فرقت معاه على نص درجة مثلما يحدث ونضطر لإدخاله جامعة خاصة. لا أعرف كيف سنواجه ذلك؟ - فى انفعال شديد قالت السيدة: الأسعار زادت أكتر من 100% والمرتب لا يزيد حتى العلاوة لا تزيد على 60 جنيها ويتم حسابها على الأساسي. ما الذى تغير في أمور إدارتك للبيت مع موجات الغلاء؟ - بصراحة زودت في الأكل الشعبي. كيف؟ - يعنى بدل الطبيخ على اللحمة والفراخ أصبحت يومين أو تلاتة في الأسبوع والباقى أى حاجة، صمتت لثوان ثم قالت: المشكلة أننا بيت به راتبان ومش عارفين نعيش هناك بيوت مافيهاش أى دخل مش لاقيين ياكلوا أنا أعرف بيوت لا تطبخ إلا مرة فى الشهر وناس مش لاقية. يعنى أنا كنت بشترى زيت ذرة أصبح اللتر ب20 جنيها والأرز النضيف ب10 جنيهات والسمن المستورد ب90 جنيها وقاطعنا البلدى الفلاحى ومش لاقينها أصلاً. غير الأكل والشرب فيه حاجات مهمة مش قادرين نجيبها يعنى التلاجة لو باظت أجيب منين 9 آلاف جنيه لتلاجة جديدة، أسعار الأجهزة الكهربائية زادت 3 أضعاف. وتصليح القديم لا يغنى عن الجديد، الملابس أيضا غالية جدا يعنى الترنج لابنى ب300 جنيه. وأقل جزمة ب200 وماتكملش شهرين ويحتاج غيرها .الدروس مش سايبالنا حق الأكل والشرب. ونحن نعتبر في حال أفضل كتير من غيرنا وفيه ناس مش لاقية اللقمة. والست الموظفة أغلب من الغلب حتى المواصلات اللى بنروح بيها أشغالنا بتاخد نص المرتب، ولا بنعرف نشيل لأزمة صحية أو أى ظروف طارئة وربنا يستر! «رئيسة»: 30 يوماً فى الشهر خدمة فى البيوت ومش ملاحقة أكل وشرب للعيال! - إذا كانت المرأة المعيلة ب100 راجل فظروف الغلاء هزمت تلك القوة التى اصطنعتها لتستطيع العيش وما اكثر صرخات النساء المعيلات اللائى خرجن للبحث عن قوت أبنائهن بلا أى سلاح لا تعليم ولا حرفة تجيدها فباتت تجنى رزقها بصحتها رأسمالها الوحيد مثلما تفعل رئيسة التى تسعى على رزق أبنائها الخمسة فى تنظيف البيوت فتخرج من بيتها فى السادسة صباحا فى البرد القارس ولا تعود إلا بعد المغرب منهكة القوى بعد أن تركها زوجها وتزوج بأخرى وامتنع عن الإنفاق عليهم. قالت رئيسة: من 15 سنة بشتغل حتى وجوزى موجود ما بيصرفش بالعكس بياخد منى وجالى السكر والضغط «وانهد حيلى» لكن مش دى المشكلة. ما الذى تغير طالما تعودت الكفاح من أجل أبنائك؟ - المشكلة انى أصبحت عاجزة وأجرتى تتراوح بين 100 و150 جنيه حسب مساحة الشقة. ولا أحد يريد زيادة الأجرة لأن المواصلات تضاعفت لذا أجرى فى تناقص وليس زيادة. وأنا مسئولة عن أطفال بتعليمهم وكل المدرسين زودوا أجرة الدرس واضطريت لمنع ابنتى وهى بالإعدادية عن استكمال الدراسة الثانوية لأن الأعباء كتير. وبتراعى إخواتها الصغيرين. تبكى الأم المسكينة بحرقة شديدة وتقول: أنا ساكنة فى شقة إيجار جديد وصاحب البيت بيزود الأجرة كل سنة ووصلت ل700 جنيه وإلا يطردنى فى الشارع. ومثل رئيسة الست عايدة عاملة النظافة التى تؤكد أن مجرد توفير العيش الحاف أصبح عبئا عليها لا تقدر عليه وتقول وقد أسندت رأسها إلى عصا المكنسة التى تعد بالنسبة لها عدة كسب رزقها: لا أطبخ لأولادى إلا إذا توفر لدى 100 جنيه ولا نتذوق طعم اللحم (كتيرنا كيلو هياكل ب15 جنيه ونص كيلو ملوخية ناشفة وبخمسة جنيه عيش) وأردفت قائلة: أنا كبرت وخايفة أموت وأسيب العيال للشارع ملهومش غير ربنا ثم أنا وعندى ولد «بتاع ربنا» وأنا باخدمه، ومن زمان كان نفسى يروح يتعالج فى أى مستشفى لكن ماعنديش إمكانيات. وعايشين يوم بيوم وبصراحة تعبت ومش قادرة أكمل ومافيش سند ولا معاش ولا غيره.