إذا حسبتها تتجنن وعمرها ما تتحل، الأمن عند ربنا، ورغم أن معاش الحكومة ما يكفيش العيش الحاف، فإنه أحسن من مافيش، و«مافيش» يعنى ناس بتستنى طوابير على باب جامع فى انتظار أى مساعدة يمكن تكون «عشرين جنيه»، هؤلاء وهؤلاء مآس متحركة فى صمت. يضيق بهم الحال فيرفعون أيديهم إلى الله، والرزق يوم بيومه، أسلوب حياة لا يتحمله إلا الصابرون الصامدون هم من يدفعون ثمن كل السياسات والتغيرات والاستراتيجيات التى لا يفقهون من معناها إلا أن «الحال ما يسرش» والعيشة صعبة على الأرزقية والغلابة وللى بيلفوا يوم بطوله بأى شىء يتباع من أجل لقمة حلال للعيال، يأكلونها «متغمسة» بعرق الشقا، والحسرة على سنين العمر اللى راح واللى جاى. راسيين راسيين هذا الرجل من مصر، تلمحه من بعيد قادماً يدفع أمامه عربة من خشب متهالك فوقها بضاعة من ذلك النوع الذى يرضى أذواق زبائنه فى الحارات الضيقة بحى إمبابة، يجوب أرض الجمعية وشارع السوق، وربما تسوقه قدماه إلى شوارع الوحدة والبصراوى والأقصر، جسده الضئيل المحنى ينبئ بصراع طويل مع الحياة. عمرى 72 سنة، جيت البلد دى من 50 سنة، قالها عم فولى عبدالحكيم، كأنه سيحكى قصة من ألف ليلة وليلة لتجد نفسك منصتاً فى انتظار الحكاية، وحشانى بلدنا المنيا لكن رحلت منها وجيت مصر أشتغل فى سوق روض الفرج «شيال» يعنى صحتى كانت زادى وزوادى، والله كنت ألفح الشوال على ضهرى وأمشى بيه ولا أكل ولا أتعب ييجى 100 شوال من طلعة الفجر لغاية ما الشمس تغيب وبعدين نقلوا السوق للحتة الجديدة دى اللى بيقولوا عليها سوق العبور. أيوه ووشها كان «غم» عليا واشتغلت كام شهر والزمن قاللى خد عندك، الجهد بطل والعزم راح، والسوق بعيد وأنا عندى خمس بنات هاربيهم.. كيف؟.. والله استلفت من واحد فلوس واشتريت شوية بضاعة هدوم عيال وجلاليب وعملت العربية وبقيت ألف فى الشوارع، الراجل كتر خيره، بياخد عليا فواتير وقرشين زيادة. يعنى بتسد الدين بفوايد؟ يعنى هيدينى لله؟.. كأنها بالتقسيط، والله يا بنتى تعبت ورجلى مش شايلانى وهموت وأنا داير فى بلاد الله مش هشوف راحة غير بالموت. نفسك ترجع لبلدك؟ هعمل إيه هناك هما لاقيين ياكلوا؟.. من يوم أم العيال ما ماتت وأنا نفسيتى تعبت، مسيرنا راسيين راسيين. أخذ الرجل يقلب فى بضاعته وقد جعل من كتفيه «فاترينة» عرض لبضاعته لا ينادى على الزبائن فهو متعب ومرهق إلى حد البكاء الذى حاول أن يداريه وهو يقول: «المصاريف كتيرة وإيجار الشقة أوضة وصالة 350 جنيهاً ولو اتاخرت ممكن يطردونى أنا والعيال.. وفواتير الكهرباء كتير علينا قوى». بتدفع كام؟ 35 جنيه وما عنديش غير التليفزيون وما بنشوفوش. بطاقة تموين لم تكن مشكلة «إحسان» أو «أم جمعة» - كما يناديها أهل الحارة - فى أولادها الذين ضاق بهم الحال رجالاً ونساء لينزلوا ضيوفاً دائمين عليها، فبيتها كقلبها يسع من الحبايب ألف، لكنها كانت مهمومة ببطاقة التموين بشكل يجعلها تشكو من كل شيء فى الحياة، لتعود إلى ما تراه مركز أزماتها فى الدنيا «بطاقة التموين» وعندما ترى الناس فرحانين وهم عائدون بالعيش «أبوشلن» تقول: «ابنى معاه عيلين ومراته ومش عاوزين يعملوا بطاقة داخ وما فيش فايدة».. وهنا تدخل الابن، وقال: ذهبت إلى مكتب إمبابة، وقدمت شهادات العيال وكل مرة يقولوا «السيستم واقع». وتقول الأم: «العيش غالى والزيت الإزازة ب 13 جنيه أقل حاجة وأنا معاش جوزى الله يرحمه 600 جنيه، كان مؤذن جامع هعمل إيه والعيال وولادهم قاعدين معايا علشان الإيجارات غالية، واللى ما يدفعش شهر يرموا له العفش فى الشارع». ينظر الابن إلى أمه ويقول بحسرة: نفسى أعمل حاجة وأخف الحمل عنها ومش عاوزين يضيفوا العيال على بطاقتها. تضع الجدة حفيدها الرضيع على كتفها وتربت عليه بحنان كأنها تحميه من هذا الزمان، وتنظر إلى باقى الأحفاد وتقول فى حسرة: «والله بنشترى ب 25 جنيه عيش فى اليوم علشان يكفينا، وكل بطاقتى إزازة زيت وكيلو سكر». لم أكن أدرك أن الشابة الواقفة بالجوار هي الابنة الثانية للحاجة إحسان، اسمها «فاطمة» تقف أمام «تروسيكل» تضع عليها بضاعتها خضراوات من كل نوع، تقول فاطمة: «جوزى أرزقى وعندنا 3 عيال أبيع الخضار علشان أساعده والحياة غالية، والله إيجار التروسيكل 50 جنيهاً يومياً، وأحياناً الحاجة بتخسر وبندفع من معانا وأهم حاجة تعبانة أن الواحد لو جرى له حاجة العيال هتجوع لأن كلنا أرزقية وعلى باب الله واليوم بيومه». حال «نبوية» لا يختلف عن «فاطمة» وأمها، لكنها تعانى مشكلة أكبر تكاد تصبح الحياة معها مستحيلة، «نبوية» لديها 7 أطفال مازالوا جميعاً فى عمر الزهور، تقول: «فتحت محلاً صغيراً وقدمت على قرض صغير علشان أشترى بضاعة، لكنهم رفضوا وقالوا طالما الزوج موجود ما ينفعش وأنا كل اللى طلبته 7 آلاف جنيه علشان نعيش أنا والعيال، ومرتب جوزى ما يكملش ألف جنيه، هنعمل إيه لا بيرحموا ولا بيسيبوا رحمة ربنا تنزل». بين الناس تحسبه كبيرهم أو شخص أشبه ب «عمدة الفقراء» فى منطقته ولم لا؟.. وهو المسئول بالجامع، المسئول عن توزيع الشهريات بعد جمع التبرعات التى يجود بها أهل الخير، يقول عم مصطفى، الذى لا يختلف حاله كثيراً عن أحوال أهل المنطقة: «عمرى 57 سنة وكنت مبيض محارة يعنى بشتغل بصحتى وعندما أجريت عملية خلع مفصل أصبحت عاجزاً عن العمل، سعيت كثيراً للحصول على المعاش حتى أستطيع الإنفاق على أولادى الخمسة وجميعهم فى المدارس لكن دون فائدة، وكل ما أحصل عليه هو مساعدة من الجامع، زى كتير من أهل الحى، وهو ليس مبلغاً ثابتاً ولكن حسب التبرعات، وفيه ناس كتير بيساعدها الجامع فى شارع التونسى، مش ملاحقين ع الغلابة وممكن يكونوا محتاجين 20 جنيه. ومثل «عم مصطفى»، الحاج جمال حسين عمره 63 سنة، يقول: «جريت على المعاش كتير وكنت عامل فى الأوقاف سنتين أروح مشاوير وأصرف يقولوا لى لما يبقى عندك 65 سنة، طيب من هنا وكمان سنتين أصرف على عيالى منين؟.. والعيشة غالية وما فيش حتى بطاقة نصرف بيها العيش ولا عشرة جنيه تكفى العيش حاف، وكل حاجة غالية. وهنا يشاركه الشكوى محمد السيد، الذى أشار إلى رغيف عيش بيده يكاد يختفى فى كفه من صغر حجمه: ال 3 ساندويتشات من العيش ده ب 4 جنيه ونص، ما يأكلوش عيل صغير. نسيت عمرى لم يشارك هذا الرجل فى حديث الشكوى من الغلاء وعذاب البحث عن لقمة عيش تأتى يوماً بيوم، لكنه اندفع قائلاً: «يا ريتنى ما بعت بيت أمى، الإيجار الجديد خراب بيوت وكل سنة يزيد، أنا ساكن فى سيدى على وببيع لب قدام المدرسة الابتدائى، يعنى اليوم كله نكسب خمسة أو 6 جنيه، طيب ناكل منين أنا والعيال وأمهم؟ نظر إليه رجل متوسط العمر وقال: هما كل الأرزقية كده أنا كمان على باب الله، وكان نفسى يكون فيه معاش للناس اللى زينا، كنت عامل فى ورشة، وصنايعى «زى الفل» والناس بتجيلى بالاسم، لكن المرض هد حيلى وما فيش حد بيشغلنى، والله الصنايعى بيموت وعمره قصير وطول عمره شقيان وحاولت أحصل على معاش، أى مبلغ يعنى على تربية ولادى حتى يتعلموا ويحصلوا على شهادات تنفعهم. كلمات قالها «عيد عريان» ذو الخمسين عاماً، وتكاد الدموع تسقط من عينيه: مش لازم نقول إحنا بنجوع علشان الدولة تساعدنا مش بيقولوا فيه معاش كرامة فين الأرزقية والصنايعية محتاجينه. لم يكن تطوير تل العقارب خبراً سعيداً لإدريس بكرى، فأغلب جيرانه حصلوا على شقق فى 6 أكتوبر، وفرحوا بذلك، بينما تركوه يبحث عن إجابة لسؤال، لماذا لم يأخذ حقه فى سكن بديل؟.. كل ما يملكه هذا الرجل عربة «كارو» بعد أن كانت مصدر رزقه، حيث يضع عليها أى فاكهة موسم، ويجوب بها شوارع السيدة ليل نهار، أصبحت مأوي له ولأسرته المكونة من 7 أفراد، حيث تم هدم بيته بتل العقارب، ومنذ أكثر من شهرين يبيت مع أسرته فى الشارع، قال: مش عارف أشوف أكل عيشى وقدمت كل الورق المطلوب وشهادات ميلاد العيال وكل الناس تشهد إنى كنت قاعد فى البيت، واشتكيت كتير وما فيش فايدة، وأصبحت المشكلة معقدة، مش عارف العيال تنام فين ومش عارف أجيب بضاعة أسرح بيها علشان نعيش أعمل إيه؟ دوام الحال من المستحيل أن يدوم شىء على حاله وبعد أن كان «عنتر يوسف» مبيض محارة، و«كسيب» راح كل شىء. ليه يا عم عنتر؟ قال: ما فيش شغل دلوقتى كله مقاولات صاحب البيت بيتفق مع مقاول، لكن أنا كنت صنايعى كبير ما بشتغلش عند حد، وحتى لو اشتغلت مع مقاول يرمى لنا «فتافيت» ولو اعترضت يجيب غيرى ما فيش عقد يلزمه بتشغيلى، ومع وقف الحال سعيت على معاش يساعدنى، والله 3 سنين دايخ من حى وسط السيدة لمكتب التأمينات بزينهم، وأكملت جميع الأوراق المطلوبة، وأنا تم التأمين علىّ منذ عام 83 وعندما احتجت المعاش لم أجده عندما كنت أستطيع، كنت أسافر لشرم الشيخ، وأى مكان فيه شغل حالياً الدنيا صعبة، ومطالب الأولاد تزيد والشغل يقل. أما إبراهيم محمد، فقد أشار له سكان المنطقة عندما وجدوا الحديث عن وقف حال الأرزقية والسريحة فوجدناه عجوزاً ضعيفاً بالكاد يجر خطواته اليائسة، الرجل يتحدث كإنما يكلم نفسه: الكهرباء 100 جنيه ليه؟.. هو أنا عندى إيه يجر نور؟.. وصاحب البيت رفع الإيجار من 130 جنيهاً ل 200 أجيب منين؟.. وأنا شغال على باب الله بشترى «عفشة فراخ» يعنى جناحات وهياكل الكيلو بسبعة جنيه ونص، وأبيعه بزيادة جنيه، يعنى لو كسبت عشرة جنيه فى اليوم أبوس إيدى وش وضهر، وزباينى أغلب منى وأحياناً أبيعلهم وما خدش فلوس على ما تفرج ورزقى ورزقهم على الله، كل ما يشغل بال عم إبراهيم أن الصحة لم تعد كما كان، واللف فى الشوارع «قطم ضهر».