«العمل» حق دستورى مكفول للجميع، وفى نفس الوقت يفترش الكثيرون الأرصفة والميادين بحثا عن «شغلانة» صغيرة، يلقون بأجسادهم على الأرض ولا تقوى عقولهم وأذهانهم على حمل همومهم ومسئولياتهم، أماكن معروفة يجتمع فيها مواطنون في أعمار متنوعة ومهن مختلفة، لا يمانع أحدهم انتحال مهنة غيره «عشان الفلوس». يغدو خماصا ولا يضمن العودة بطانا.. هكذا يخرج «الفواعلية» يوميا إلى أماكنهم المعروفة في انتظار الفرج، واضعين «عدة» العمل وملابس «الشغل» داخل أكياس وبجوارها قطع من الخبز الحاف لسد جوع انتظار النهار، ميدانا الجيزة والرماية وشارعا فيصل والهرم. أبرز المحطات التي يجتمع فيها عمال «اليومية».. وهى ذات المناطق التي يقصدها أصحاب الأعمال والمقاولون لطلب العمال بين الحين والآخر، حكايات ومآسٍ يحملها «الفواعلية» في صدورهم غير عابئين سوى بلقمة العيش، «البوابة» التقت عمال «اليومية» للتعرف على تفاصيل حياتهم على الرصيف وفى الشوارع.. وأيضا مطالبهم ومعاناتهم. «شمشون» فواعلى يختاره المقاولون والزبائن «صلاح»: ربنا عوضنى عن الفقر بالصحة وسط ضوضاء السيارات والمارة بشوارع حى الهرم، يقف الرجل ذو البنيان المتين والشارب المميز الذي جعل أصدقاءه يطلقون عليه سخرية لقب «شمشون»، ومن أمامه أدواته التي يستخدمها في عمله «أجنة وشاكوش»، ينتظر إشارة من أحد المقاولين أو الزبائن ليذهب معه ويكسب يوميته. مصطفى صلاح، رجل خمسينى من مركز أبو قرقاص بالمنيا، يقول «أنا أكبر واحد في زمايلى اللى هنا، وشغال نحات من أيام شبابى، لكن بقالى كذا سنة حالتى المادية صعبة ومفيش شغل، والحكومة مش شايفانا ومحدش حاسس بينا». «الشغل زى الزفت والحالة صعبة» بصوت محشرج، لا يشبه بنيته الجسدية القوية، بحسب «شمشون»، مشيرًا إلى أوضاع عمله: «أنا شغال نحات لكن ممكن أشتغل عامل في الأيام اللى محتاجين فيها عمال لأن مفيش شغل، الفترة دى ممكن أشتغل يوم كل 10 أيام، وفى فترات تانية بتبقى أصعب ومبنلاقيش شغل بالعشرين يوم، وأيام ببقى عايز أروح ومش معايا فلوس أروح بيها». «كل واحد من العيال بيشتغل ويصرف على نفسه» بتلك الجملة بدأ «شمشون» حديثه عن أبنائه: «عندى 7 أولاد معظمهم رجاله، وأنا مش هفضل أغطى مصاريفهم في الظروف الصعبة اللى بمر بيها، عشان كده كل واحد فيهم بيشتغل شغلانة يصرف بيها على نفسه أو يساعد أخواته». يقول «شمشون»: «أولادى ومراتى عايشين في البلد، وأنا بقعد في القاهرة هنا شهرين وأسافر أريح في البيت أسبوعين، وعايش في بدروم عمارة لسه بتتبنى بإيجار قليل عشان مصرفش كتير وأعرف أرجع لعيالى بقرش يساعد في مصاريف البيت، مابكلش إلا من عربيات الفول، والأيام اللى مافيهاش شغل باكل مرتين بس عشان أوفر الفلوس». يتطرق «شمشون» إلى سبب تلقيبه بذلك اللقب، فيقول: «من وأنا صغير وأنا جسمى قوى وكانوا أصحابى يخافوا يضايقونى لأنى كنت بضربهم، ربنا عوضنى عن الفقر بالصحة، ولما بشتغل دلوقتى في تكسير أو شيل الطوب بشيل أكتر من معظم الشباب اللى هنا»، يضحك قليلا ثم يكمل «شباب الأيام دى صحتهم تعبانة لأنهم متربوش على السمن البلدى والبط»، ويؤثر بنيان «صلاح» القوى على حظوظه في العمل، حيث يقول: «لما الزبون ولا المقاول يشوفنى وسط العمال والفواعلية بيختارنى أول واحد لأنهم عرفونى إنى جامد وبخلص الشغل بسرعة». «عيشيتنا كلها على الرصيف» جملة وصف بها «شمشون» حياة «الفواعلية» التي يصفها بالأكثر صعوبة من بين كل المهن الأخرى، ويقول إن هناك متبرعين بطعام أو أموال يمرون عليهم ليتصدقوا عليهم شفقة بهم، وعندما يأتى المتبرعون تجد جميع العمال قد هرولوا إليهم أملا في الحصول على بعض المال أو وجبة طعام «العمال بيجروا على الأكل اللى ببلاش زى القطط اللى بتستنى حسنة»- وفقًا له. باع أرضه وجاء إلى القاهرة «على مافيش» «شعبان»: يوميتى «70 جنيها».. وأهلي «مابشوفهمش غير في الأعياد» تحت كوبرى المريوطية بمنطقة فيصل بالجيزة، يجلس رجل واضعا رأسه بين يديه، ينحسر الشعر عن رأسه، وتطغى ملامح كبر السن على وجهه بالرغم من عمره الذي لم يتخط ال38، وعلى وجهه ملامح الملل الممزوج باليأس من قدوم شخص يحتاج لعامل بناء، أملا في أن يجنى بعض المال يذهب بها إلى بيته. محمد شعبان من مركز ملوى بالمنيا، يقول إنه جاء للعيش في القاهرة بحثا عن الرزق، بعدما حصل على بعض المال من أخيه مقابل تركه لقطعة أرضه التي ورثها عن أبيه، واستأجر شقة متواضعة في منطقة فيصل ليعيش فيها هو وزوجته وأبناؤه الأربعة التلاميذ بالمراحل المختلفة للتعليم.يتحدث «شعبان» عن عمله بالمحارة قائلًا: «مادخلتش المدرسة واشتغلت صنايعى محارة من وأنا صغير، وكنت باجى القاهرة قبل ما أتجوز علشان أشتغل وأرجع البلد تانى، لكن بعد ما اتجوزت اضطريت أجيب مراتى وعيالى هنا عشان ما اسافرش كل شوية، ولأن الشغل هنا أكتر والمدارس أحسن بس للأسف جيت على مافيش». «بقالى أسبوعين بدور على شغل ومش لاقى» يتحدث «شعبان» عن عمله خلال السنوات الأخيرة، «بطلع الساعة 6 الصبح أدور على رزقى، وأفضل في الشارع لحد الساعة 6 المغرب، في الأول أقف عند المريوطية، ولما مابلاقيش شغل أروح عند محطة الطوابق، ولما مالاقيش بطلع على المطبعة، وأحيانا أروح شارع الهرم أو السيدة زينب، لو الساعة جات 6 ومافيش شغل بيبقى ده يوم إجازة بالنسبة لى». يواصل «شعبان» كلامه: «أنا صنايعى بس في أيام بشتغل فيها عامل أشيل الطوب والرملة عشان مابيبقاش في شغل، مش هتفرق بقا أشيل ولا أشتغل في محارة، المهم إنى أجيب فلوس آخر اليوم»، ويضيف أن الأجر الذي يتلقاه نظير عمله في «اليومية» هو 70 جنيها للعامل و100 جنيه للصنايعى. يتحدث «شعبان» عن الأعداد الكبيرة من العمال التي تنتظر رزقها في الشوارع «إحنا زى الصيادين بننزل وإحنا مش عارفين رزقنا، وبنفضل قاعدين ولما واحد بييجى عايز عمال أو صنايعية كلنا بنجرى عليه عشان نروح معاه، وهو بيختار اللى عايزه». «شعرى أبيضّ ووقع من الهم»، جملة وصف بها «شعبان» ظروفه المعيشية الصعب التي يواجهها، «مافيش شغل والحال واقف وخايف على مستقبل أولادى، لأنى نفسى أعلمهم ومايشتغلوش عمال زيى، لأنى دقت مرارة الشغلانة دى ومش هخلى حد من عيالى يشتغلها»، ويردف «في أيام مابلاقى شغل وماببقاش عارف أروح البيت إزاى وأنا مش معايا فلوس العشا وببقى خايف حد من عيالى يطلب منى حاجة ما اعرفش أجيبهاله، وبضطر أستلف وأسدد لما يبقى فيه شغل». لم يعد «شعبان» يرى أهله في الصعيد إلا في المناسبات بسبب ظروفه المادية وعمله في القاهرة «مابقتش أشوف قرايبى عشان بوفر فلوس السفر»، ويقول إنه لا يعرف أيام الإجازات مثل باقى المواطنين، لأن الناس تستغل الإجازات في أعمال البناء أو الإصلاح. «العيال الفواعلية» هكذا أطلق «شعبان» على الأطفال الذين يعملون بمهنته «أنا بشفق على العيال الصغيرة اللى بيشتغلوا معانا فواعلية يشيلوا طوب ورمل، المفروض إنهم يتعلموا ويلعبوا، بس للأسف ظروف البلد بتخلى الأب ينزل عياله يشتغلوا عشان يجيبوا مصاريفهم»، ويختتم كلامه: «نفسى المسئولين يحسوا بينا، ويعاملونا على إننا بنى آدمين». أحواله ساءت بعد «ثورة ليبيا» «محسن»: مش لازم عيالى يتعلموا.. الشغل أولى بيهم بجوار أحد مبانى منطقة المطبعة في شارع فيصل، جلس «محسن» في هدوء وسكينة على قطعة من الكرتون.. ويسند بظهره على الحائط، يقضى وقته ينظر إلى السيارات المارة أمامه، ويمسك بيده المتشققة من أثر العمل كيسًا به بعض الخبز يأكل منه عندما يجوع. يقول الرجل الأربعينى محسن مصطفى، عن حكاية مجيئه من مركز إبشواى بالفيوم للعمل بالقاهرة منذ أن كان في العشرينيات من عمره: «بدأت أشتغل في مهنة الفاعل من نحو عشرين سنة، بعد ما قضيت خدمة عسكرية 3 سنوات، وبشتغل في القاهرة من ساعتها ولحد دلوقتى». يوضح «محسن» عن عمله «بطلع من بيتى الفجر أروح المكان اللى أتوقع إن هيبقى فيه شغل، وبختار دايما الأماكن اللى فيها مبانى تحت الإنشاء، وأقعد أستنى مع زمايلى أي حد من المقاولين ييجى ياخدنا شغل، أو أي حد يجيلنا يكون عنده شقة ومحتاج صنايعى سيراميك أو محارة، أو عامل يشيل طوب أو رمل، مقابل يومية ما بين 80 إلى 100 جنيه، ولكن في أيام أقعد لحد بالليل وميبقاش فيه شغل، فبروح أنام لحد تانى يوم». يشكو «محسن» من ندرة فرص العمل منذ قيام الثورة الليبية عام 2011 «الشغل قبل السنة دى كان كتير، ماكنتش آجى يوم وألاقى نفسى مروح من غير شغل، وعشان كده كنت بشتغل لمدة 4 أيام وأروح البلد أريح أسبوع، أما بعد الثورة في عمال مصريين كتير رجعوا هربًا من الحرب والقتل والخطف، وبقت أعداد العمال كبيرة هنا في القاهرة، وبالتالى الشغل بقا أقل». «هخلى ولادى يشتغلوا معايا» بتلك الجملة تحدث «محسن» عن أسرته التي تتألف منه وزوجته و3 أولاد وبنت، متابعًا: «الأولاد هخليهم ياخدوا دبلوم وبعدها يتعلموا صنعة، لأنى مش هقدر أصرف عليهم لحد ميكملوا تعليم عالى، وفى الآخر اللى اتعلم زى اللى مش متعلم، كله عاطل عن العمل». عندما يحل عليه المساء، يذهب «محسن» إلى أحد البوابين حراس بعض المبانى التي لم تكتمل بعد ليبيت عنده حتى الصباح «ببات عند أي بواب عشان مصرفش كتير على السكن، لأن الفلوس اللى بكسبها قليلة ويدوب تكفى أولادى». ينتقد «محسن» الشباب العاطلين عن العمل «الشباب بيقعدوا في البيت ومستنيين الوظيفة والفلوس تجيلهم لحد عندهم، بس لازم يتعبوا ويحاولوا يدوروا على رزقهم حتى لو في شغلانة صعبة». هرب من نيران «داعش» إلى عذاب «الفاعل» «الفيومى»: الشغل قليل والبلطجية «بياخدوا مننا إتاوات» على جزيرة شارع الملك فيصل، الرصيف الفاصل بين اتجاهى الطريق، يجلس «شعبان» فوق صندوق خشبى قديم، وفى إحدى يديه بعض «سندوتشات» الفول، يفطر فيما ينتظر رزقه برفقة زملائه، يضحك تارة ويصمت أخرى، تمر عليه ساعات اليوم بطيئة من طول الانتظار. شعبان محمد الفيومى، الرجل الأربعينى الوافد من مركز إطسا بالفيوم، ترك الدراسة منذ صغره ليعمل عامل بناء، متنقلًا في أماكن متعددة، سافر إلى ليبيا بحثا عن الرزق، وعمل هناك لسنوات قبل أن يظهر ما يصفه بأنه «شبح الدولة الإسلامية (داعش)»، بعد حادث اختطاف التنظيم لمصريين مسيحيين وقتلهم ذبحًا على شاطئ ليبيا، فاضطر «شعبان» للعودة إلى مصر هو وزملاؤه هربا منهم. «هربت من ليبيا بعد ما خفت اتقتل، هربت من رصاص «داعش» فلقيت الفقر والبطالة هنا مستنينى»، بتلك الجملة بدأ «الفيومى» كلامه «بعد ما كنت بكسب كتير من الشغل في ليبيا، وكنت ببعت الفلوس لعيالى وعايشين مستريحين رغم الغربة اللى كنت فيها، بقيت دلوقتى بعانى من عدم وجود شغل، بس للأسف أنا دلوقتى حاسس بالغربة أكتر من أيام ليبيا بالرغم إنى في بلدى، ولو الظروف فضلت كدا هسافر ليبيا تانى، حتى لو هبقى بروح للموت والدبح برجليا». يتحدث عامل البناء المصرى، عن أسرته المؤلفة من تسعة أفراد، قائلًا: «عندى 7 عيال في مراحل مختلفة في التعليم ومصاريفهم كتير تقطم الضهر، علشان أكفيهم أكل وشرب ولبس ودراسة بصحى كل يوم الصبح أدعى ربنا إنى ألاقى شغل عشان أقدر أوفرلهم كل شىء يحتاجوه وادفع لهم مصاريف الهدوم والمدارس، والمصيبة تكون لو حد فيهم تعب ممكن أصرف عليه مكسب يومين من اللى اشتغلتهم». قدم ابن «شعبان» يد العون لأبيه، حيث يقول الأب «ابنى الكبير ربنا يحميه، في كلية تجارة بس علشان ظروفنا اللى عايشينها، بييجى يشتغل معايا ساعات عشان يساعدنى في مصاريف البيت». يضيف «الفيومى»: «من بعد الثورة والبلد بقا مافيهاش شغل، وبالرغم من أن اليوميات زادت والمرتبات بقت أعلى من الأول بس مافيش شغل، واللى الواحد بيكسبه أقل من اللى بيصرفه، وأدينى أهو قاعد كأنى عاطل بشتغل يوم آه وعشرة لأ». يعانى «شعبان» من قلة الرزق، بخلاف بعض عمال البناء الذين يعرفهم، ويبرر ذلك بقوله: «المشكلة إن المقاولين بيبقى معاهم عمالهم اللى بيتعاملوا معاهم وعارفينهم من زمن، إنما أنا بقا بستنى واحد عايز يهد جدار في بيته، أو يبنى جدار، أو مقاول عماله تعبانين أو مسافرين وأدينى باخد رزقى اللى ربنا قاسمه». «المهنة دى أصعب مهنة موجودة في مصر»، هكذا يصف عامل «الفاعل» مهنته، التي يضيف أنها تتسبب في إرهاق شديد لمن يعمل بها «وفى المقابل ناسها أقل ناس بتاخد فلوس على مجهودها الكبير، إحنا بنستنى أيام عشان مقاولين الأنفار ييجوا بعربيات ياخدونا نشتغل في بناء عمارة أو هد عمارة، رزقنا كله في البناء والهد». يتهم «الفيومى» ثورة 25 يناير بتسببها في تردى أوضاعه الاقتصادية «من بعد الثورة وأنا تعبان، مابقاش في فلوس والأسعار زادت، ومابقيناش نشتغل في أمان، لأن البلطجية بياخدوا مننا إتاوات، غير إن ساعات الشرطة بتقبض على ناس مننا». من النسخة الورقية