أبناء شبرا لا يملكون فكاكاً من سطوة ذكرياتهم فى هذا الحى، فمنهم من انتمى للحى العريق بالميلاد، ومنهم من ارتبط به، بعدما نزح إليه طفلاً، لكنهم جميعاً وقعوا أسرى هوى هذا الحى. لقد وهبت مصر حى شبرا موقعاً متميزاً، وفى المقابل أهدت شبرا إلى مصر كوكبة من العباقرة فى كل مناحى الحياة، كتاباً وشعراء وصحفيين. ولكن بشكل خاص، فإن الفنانين الذين سكنوا حى شبرا عدد لا يمكن حصره، للدرجة التى تمنحنا فرصة لاستعادة مقولة المخرج الكبير خيرى بشارة «شبرا أرض الفنانين». فلو ذكرنا قليلاً من كثيرين، ستدهشك أسماء كبيرة ولامعة منها، نجيب الريحانى، محمود المليجى، استيفان روستى، سراج منير، مارى منيب حسن فايق، حسين رياض، سميحة أيوب. ومن المخرجين فطين عبدالوهاب وخيرى بشارة. أما المطربون فمنهم فايزة أحمد، ليلى مراد، محرم فؤاد، والموسيقار بليغ حمدى، وغيرهم آخرون. كثيرون هم الذين غنوا لشبرا، بداية من المطرب الكبير، مصرى الهوى، محرم فؤاد، عندما غنى لها من ألحانه وكلمات صلاح فايز، «بحبك يا شبرا بحبك صحيح، يا موال وأوبرا وعربى وفصيح، يا جمعة محمد وعبدالمسيح». ومروراً بالمطرب الشعبى شعبان عبدالرحيم، الذى جمع أسماء شوارع شبرا المعروفة فى أغنية كانت سبباً مباشراً فى ذيوع صيته، من كلماتها: «أحمد حلمى اتجوز عايدة.. كتب الكتاب الشيخ رمضان.. وكان شاهد العسال.. وجابوا الشمع من العطار». إلى ريكو الذى غازل بنات شبرا فى أغنيته المعروفة «شبرا وبنات شبرا». عندما تذكر شبرا، و«فنانين شبرا»، لابد أن تقفز إلى مخيلتك دون استئذان، تلك الفتاة التى حصلت فى عام 1954 على لقب ملكة جمال مصر، إنها المطربة «داليدا»، تلك الجميلة التى احتلت قلوب المصريين بحديثها العذب دوماً عن مصر، وأغنياتها لهم، التى ما زالوا يعتزون بها حتى اليوم، مثل أغنية «حلوة يا بلدى» و«سلمى يا سلامة». «الوفد» فى رحلتها لحى شبرا، لم يكن لها أبداً، أن تتغافل منزل داليدا، ذلك المنزل الذى شهد طفولة الفنانة المحبوبة وبدايات صباها، قبل أن تشد الرحال إلى باريس، حاملة مصر بداخلها طوال نصف قرن. فى شارع شبرا الرئيسى، وعلى بعد حوالى 200 متر من كنيسة سانت تريزا، يقع شارع خمارويه، وعلى بعد خطوات من بداية هذا الشارع، يقع المنزل رقم «11»، حيث ولدت الطفلة الإيطالية الأصل «يولاندا كريستينا جيجليوتى» فى 17 يناير من عام 1933، وهى المطربة التى اشتهرت عالمياً بداليدا. توقفنا أمام المنزل، الذى استقبل ميلاد فتاة ملأت الحياة فناً وصخباً وجنوناً، الشارع ضيق بعض الشىء، لكن المنزل ما زال على حاله، حسبما أكد أهل الحى، مطلى من الخارج باللون الأصفر الفاتح، ومدخله ليس على شارع خمارويه الرئيسى، فبوابة المنزل توجد فى بداية حارة ضيقة تتفرع من الشارع. يبدأ المنزل بباب حديدى صغير ومدخل ضيق، يقودك للطابق الأرضى، الذى يحتوى على شقة وحيدة، وطابقين علويين، بكل دور شقتان. المقدس صموئيل والذى يسكن الطابق الأرضى، ويعمل ترزى رجالى، أكد أنه كان من سكان المنزل عندما كانت تسكنه «يولاندا»، التى كانت تسكن الدور الثانى مع أسرتها، وأنها كانت فتاة جميلة وشقية منذ بداياتها، وأن والدها كان يعمل موسيقياً، وكان يغادر المنزل كل مساء وهو يرتدى بدلة «سموكن»، ووالدتها كانت خياطة، وكان لها أخ أصغر اسمه أورلاندو، وعلى الرغم من أن والد داليدا كان إيطاليا، إلا أنه كان حازماً مع أولاده. ويقول صموئيل: «كانوا بيتكلموا عربى كويس مكسر، لكن مفهوم أوى، وكانوا ناس محترمين، وداليدا لما جت مصر عشان تصور فيلم «اليوم السادس» مع المخرج يوسف شاهين، صممت تيجى هنا، عشان تشوف جيرانها ومدرستها، والشارع اللى عاشت فيه، وقعدت عندى فى الشقة هنا أسبوعاً، معايا أنا وزوجتى وأولادى الستة، كانت طيبة ومتواضعة، لكنها كانت دائماً حزينة، عكس ما كنا بنشوفها زمان». تركنا المقدس صموئيل، ومنزل داليدا وشارعها، وخرجنا إلى ميدان خمارويه، وشوارع شبرا الواسعة، لنعرف إجابة السؤال، لماذا كل من سكن شبرا، ملأ الدنيا عنها حديثاً؟ ها هو مخرج الواقعية العبقرى، خيرى بشارة، أحد عشاق الحى، يقول عن شبرا: «أنا جيت شبرا تقريباً سنة 1953، كان عندى ست سنين، أعتقد أن شبرا شكلت مدرستى الحقيقية فى الحياة، وشكلت نظرتى للناس، وعلاقتى بالآخر، لأن شبرا يعنى الجار، يعنى تفتح الشباك، تفتح البلكونة، تبص من المنور، مطرح ما أنت بتتحرك تلاقى جارك، أنت بتعيش معاه، وأولادك بيعيشوا مع ولاده، الحياة هنا فيها تداخل مدهش، وحياتى فى شبرا بكل ما فيها من أفراح وآلام، صنعتنى كمخرج، عملت منى خيرى بشارة، اللى فى الأفلام دى.. يعنى أعتقد دون شبرا، أبقى واحد ثانى خالص.. «فشبرا أرض الفنانين». أما الفنانة سيمون والتى تعتز أيضاً بأنها بنت من شبرا، فتقول: «لا أنسى أبداً دور السينما المكشوفة، والتى تطل عليها البيوت، فقد كنت أشاهد هذه الأفلام من شرفة منزل عمتى، فإن شبرا ما زالت تحتفظ بجوهرها المنفتح، والمتسامح والمحتفل بالحياة، إن مجرد الدخول لشبرا تشعر أنك فى مصر، لا تبدو شبرا مثل بعض الأحياء الجديدة، أو مناطق الضواحى، ذلك الكائن العملاق المخيف، الذى يتوه فيه القادم من الخارج، فهى منطقة رحبة ومرحبة بالجميع وليست «مدينة بلا قلب»، لقد كان منزلى فى شارع البعثة، وهو المكان الذى لا يمكن أن أنساه أبداً.