معرفة الناس بالثورات فى بلادى معرفة سينمائية.. عموم الناس تعرفت على ثورة 19 من ثلاثية نجيب التى أخرجها حسن الإمام، شاهدوا الترام وهو ينقلب.. والناس تهتف على الشاشة الاستقلال التام أو الموت الزؤام.. ويحيا سعد.. شاهدوا القسيس مع الشيخ (يعنى وحدة وطنية).. أجيال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات يعرفون هذا وبتلك السطحية البسيطة.. فما بالكم بأجيال التسعينيات.. وأصبحت الثورة هى ما علق بأذهان الناس من مشاهد غريبة لتوزيع المنشورات من مقتطفات للسينما المصرية فى أفلام الثلاثية أو الثائر على طه، فى فيلم «القاهرة 30».. ومشاهد ساذجة للخلية السرية التى تعمل بالسياسة فى فيلم «غروب وشروق».. وهكذا تم تسريب فكرة أن هناك علاقة غامضة بين العمل السرى والثورة.. أما إذا أتى الحديث عن 23/7 فيقفز فى ذهن المواطن على الفور شخصية على ياويكا وإنجى وحسين رياض عندما يستعيد النطق فور مشاهدته جحافل الدبابات تجوب الشوارع ليهتف للضباط الأحرار.. أضف إلى هذا مشاهد متناثرة عن تعذيب الإقطاعيين للفلاحين.. إلخ، الحقيقة ما علق بالذهنية المصرية عن الثورة كان دائماً مبسطاً ومبتسراً وغير واضح، وتحول الأمر بالتدريج إلى نوع من الكوميديا السوداء والسخرية المرة على أحاديث ماضوية خالية من المعنى والمضمون.. وساهم فى ذلك سلوك الحكام والأنظمة الانقلابية التى زعمت الثورية فكانت الانقلابات العربية المتتالية مثاراً لفقدان كلمة الثورة معناها ومبناها.. فها هو بومدين ينقلب على بن بلا.. والانقلابات المتتالية فى اليمن من حمدى سالم إلى على عبدالله صالح إلى على بيض.. وها هو معمر القذافى وثورته فى الفاتح من سبتمبر وسلسلة أعماله السياسية العبثية، وبالطبع كان الانهيار المصرى على مدى عقود ما بعد 23/7 من فقدان الأرض فى 67 إلى تغول الفساد وانهيار القطاع العام وسيادة انفتاح السداح مداح إلى الدولة البوليسية القاهرة وفقدان الوطن للقيمة والقيم.. فكان المسار المأساوى والسيرة السيئة للثوريين العرب أكبر الأثر فى هبوط أسهم كلمة الثورة فى العقل الجمعى للمصريين.. بل أصبحت مرادفاً للتسلط والنفعية والرغبة فى التقافز والانتهازية والفساد.. وقد استطاع نجيب محفوظ تجسيد ذلك المعنى فى روايته الشهيرة ميرامار وشاهدناها على شاشة السينما فى شخصية يوسف شعبان وأحمد توفيق اللذين أثريا عبر الاتحاد الاشتراكى وحلقات الفساد فى القطاع العام. كان هذا هو المعنى الذى ظل وبقى فى الخلفية الذهنية للمواطن المصرى.. وعلى مستوى المتابعة لأحداث الثورات على مستوى العالم فإن ما كتب عن تاريخ الثورة الفرنسية فى مرحلة ما بعد 23/7 لم يكن له حظ من الانتشار والقراءة والمعرفة فضلاً عن تهافت المعلومات المقررة بالمناهج الدراسية.. فى متابعة أحداث الثورة الإيرانية فى 1979 كان رد فعل النظام سلبياً تجاهها فكان الإعلام أسيراً لهيمنة النظام السياسى فجاءت متابعته سطحية غير دقيقة وغير متابعة لدوامات وأمواج الثورة المختلفة وبالطبع كان للانحطاط المهنى للصحافة القومية أثره البالغ فى ضعف المتابعة وهذا ما تكرر مع ثورات أوروبا الشرقية فى أعوام 88 و89 وأحداث بولندا فى 1981. فكانت متابعة العقل المصرى لفكرة ومعنى الثورة دائماً ضعيفاً وغير مكترث ومبهماً ويكاد يكون سلبياً.. وقد حرص النظام البائد على ترسيخ تلك المعانى حتى أصبحت الغالبية الغالبة متأكدة من فكرة ثبات الحال فى مصر وأن أية محاولة للتغيير هى محكومة عليها بالفشل.. فكان الجدب والعقم والبرك الأسنة المتوحلة هو المظهر الفاضح الفاقع لنهر السياسة المصرية وكان انعكاساً طبيعياً لهذا الخمول والاستسلام الاضطرارى أمام مظاهر القمع وترسانة القوانين الجائرة على حقوق المصريين فى ممارسة إنسانيتهم وحقوقهم الطبيعية. واليوم والجميع يتساءل ما هذا الذى يحدث فى التحرير.. لماذا يتظاهرون إنهم بلطجية، إنهم أطفال الشوارع.. إنها المؤامرة.. نريد أن تنتظم الحياة، نريد الاستقرار، نريد أن نحمى مصر.. الجميع يطالب بمعرفة ما يحدث.. والجميع يتجاهل حقائق واضحة.. أن مصر بها ثورة.. والثورة تعنى مساراً غير عادى لما كانت عليه المسارات المختلفة قبل 25 يناير.. الثورة تعنى خروجاً عن المألوف والمتوقع.. من كان يصدق أن المصريين سوف يقومون بتغيير رأس النظام وإزالته، من كان يصدق أن رئيس مصر سوف يقبع فى قفص الاتهام.. وسوف يحاكم.. هذه المسائل عندما تطرحها يتفاعل معك الجميع ويقولون نعم لقد حدثت ثورة.. ولكنهم يتناسون أن الثورة لا تخلع رأس النظام فقط ولكنها تخلع كل النظام، الثورة لا تعنى إسقاطاً فحسب ولكن تعنى فى الوقت نفسه بناء لكائن جديد.. نظام عادل يمتلكه الجميع ويشارك فى صناعته.. ولهذا هناك انفجارات فئوية.. رفض للحلول التقليدية.. رفض للوجوه القديمة، رفض الالتفاف والتحايل على المستقبل.. رفض المساومات والتحالفات غير المعلنة، لماذا نجحت الثورة فى مصر فى خطوتها الأولى فى يوم 25 يناير خرجت الفئات المسيسة من الشباب الجديد الذى عرف وشاهد العالم من حوله حراً قادراً فاعلاً.. خرجت معظم القوى المسيسة فى مصر التى اعتادت الاحتجاج خرجت واحتجت. كان الخروج كثيفاً.. سالت الدماء فى السويس واستمرت معارك السويس من الثلاثاء للجمعة.. فكانت جمعة 28 يناير التى انضم فيها للفئات السابقة كل عامة الناس.. انضم هؤلاء الذين لا يجدوا مسكناً إنسانياً يأوون إليه.. هؤلاء الذين أنفقوا أعمارهم فى عشوائيات كئيبة مذلة للإنسان.. هؤلاء الذين أهدرت كرامتهم فى أعمال يمتهنوها من أجل سد رمق.. جيوش المتعطلين عن العمل.. انضم المصريون جميعاً أطفال الشوارع التائهين بلا مأوى.. جموع الغاضبين والناقمين من كل صوب وحدب.. فكان الانفجار الكبير وكان سقوط النظام.. الجميع علم وتعلم أن بإمكانه أن يفعل وأن يغير وأن يحتج.. والجميع تعلم أيضاً أن من حقه أن يعيد البناء وأن يخرج من رحم الثورة وطناً عادلاً حراً مملوكاً للجميع. ولكن ماذا حدث بعد تلك البدايات.. تشكلت لجنة التعديلات الدستورية برئاسة البشرى خليفة سليمان حافظ على الطريق نفسه الذى وضعه الرئيس المخلوع قبل تنحيته.. ثم كان الانقسام حول الاستفتاء.. ثم كان تلكؤ المحاكمات والتطهير.. ولولا استمرار الثورة وزئير الجماهير ما كانت محاكمة مبارك ومطاردة الفاسدين.. وما كان تغيير وزراء النظام البائد.. وهكذا حلت الثورة فى الميادين بالقاهرة وغيرها من المحافظات.. وتزايدت الدعاية المضادة للثورة فى الإعلام الرسمى وتزايدت لهجة الدعاء لحفظ مصر.. والإفلاس الاقتصادى..فى إطار التخويف والإرهاب النفسى لعموم المواطنين من فكرة استمرار الثورة.. ولا شك أن أعداداً كبيرة من أبناء الطبقة المتوسطة.. الموظفين الذين اعتادوا تلقى رواتبهم نهاية كل شهر.. العائدين من الخارج ومن دول النفط وما شكل لديهم استقرار مادى فضلاً عن انعكاس التعاليم الوهابية المتزمتة عليهم. أبناء الأفكار التقليدية المحافظة المعتادة على السكون وقد ساهم النظام البائد فى توسيع رقعة هذه الفئات كل هؤلاء لديهم تململ واضح ولديهم رؤية سلبية لمعنى الثورة ويمتلكون قلقاً مبالغاً من انقلاب أوضاعهم مما جعلهم فى حالة تبرم وضيق من أحداث وأمواج الثورة.. ولكن الثورة بطبيعتها مد وجزر.. صعود وهبوط.. سكون وانتفاض فهى كائن حى له انفعالات وطبيعة حالة الثورة تثير جزعاً وفزعاً وعدم انتظام.. حتى يصل الوطن إلى حالة من الاستواء والشعور لدى أبناء الثورة بالوصول إلى اقتسام عادل لكل مقومات الوطن المادية والمعنوية.. ولكن المشاعر السلبية المضادة للثورة هو ما يحرض النظام القائم والمتحالفين معه على تفعيلها.. وكذا تجاهل أبناء الطبقة المتوسطة لهؤلاء الراغبين فى الاقتسام وتلك الملايين التى أفرزها الفقر والقهر وانعدام أنظمة التعليم والصحة.. ومن ثم نتساءل فى بلادة من هم أطفال الشوارع..!! ويساعد أيضاً على إثارة تلك المشاعر السلبية تيار الدين السياسى وقد حرص على استثمار كارثة التعديلات الدستورية المجافية لمنطق الأشياء من وضع الدستور أولاً.. فإنه اليوم يحرص على المقاعد ويتمسك بها حتى ولو كان الطريق للبرلمان مملوءاً بدماء الشهداء وأبناء الوطن فى محمد محمود وقصر العينى.. وكذلك فإن النخب المصرية السياسية والثقافية والاجتماعية لا تستطيع تفهم وجود تحركات جماهيرية خارج نطاق سيطرتها أو معرفتها أو خارج نطاق مظلتها مما يجعلها مستنفرة تجاه تحركات الثورة. ولكن الثورة سوف تستمر وعلينا أن ننظر لما حدث فى بولندا ورومانيا وبلغاريا والمجر وأن نتفهم ونطمئن أن الطريق للاستقرار قد يستغرق بضع سنوات قلائل.. وأن الخروج من نفق الاستبداد والفقر والقهر وبناء الوطن من رحم الانفجار والثورة لابد أن يكون مصحوباً بتضحية وضريبة، فإن لم نكن نحظى بشرف الشهادة لأجل حرية الوطن وأبنائه فليس معقولاً ولا مقبولاً أن نتحول إلى معول هدم وعرقلة فى يد الثورة المضادة ضد الثوار والثورة وضد بناء الوطن الجديد الذى يمتلكه الجميع.