لم تكن تتوقع ولاء محمد، 26 سنة وهي ذاهبة لميدان التحرير للتعبير عن رفضها لاستمرار مبارك ونظامه أن ينتهي بها المطاف في المستشفى لتتلقى العلاج، بعد أن أصيبت في أحداث "الأربعاء الدامي" بحجر نتج عنه جرح عميق بأسفل الرأس. "ولاء" صاحبة الوجه الهادئ ذات الفكر المتحرر الثائر تعمل محاسبة بأحد البنوك بالقاهرة، وعلى الرغم من أنها حديثة في عملها هناك وليس لديها رصيد كاف من الإجازات إلا أنها قررت ألا تعطي اعتبارا لذلك ونزلت لميدان التحرير بداية من يوم 25 يناير الماضي وانضمت للمعارضين والمحتجين في جمعة الغضب والمسيرة المليونية يوم الثلاثاء، وأخيرا شاركت أمس الأربعاء في مظاهرات الاحتجاج على خطاب مبارك، ولكن في ذلك اليوم لم يتركها من يقال عنهم - مؤيدو مبارك – تعبر عن رفضها لهذا الخطاب واختاروا أن يرشقوها هي وزملاءها بميدان التحرير بالحجارة وقنابل المولوتوف مما أدى إلى إصابتها بجرح عميق في أسفل رأسها ترقد بسببه حاليا في مستشفى مصر الدولي بالدقي. وعلى الرغم من أنها الابنة الوحيدة لوالديها إلا أنهما كانا أول من شجعاها على الانضمام إلى صفوف المحتجين، فهما بوعيهما الناضج أدركا أن أمان "ولاء" والاطمئنان عليها ليس بجلوسها بجوارهما في المنزل وتجنب النزول إلى صفوف المحتجين، ولكن أمانها الحقيقي في أن تعيش في بلد يتمتع بالحرية خال من الأنظمة الفاسدة. 5 ساعات..5 شهداء "إصابة ولاء" ليس العنوان الوحيد الذي يمكننا أن نقرأه ونتوقف عنده في أحداث "الأربعاء الدامي"، ففي ميدان التحرير يمكننا أن نستمع إلى عشرات الحكايات أبطالها من الشباب ولا تخرج عناوينها عن البطولة، الشجاعة، الصمود في مواجهة البلطجة.. من بين هذه الحكايات ما يقصه علينا أحمد محمد، 25 سنة، والذي يصف الفترة من الواحدة صباحا وحتى السادسة من صباح الخميس ب"الساعات العصيبة"، يقول: "المواجهات اشتدت في هذه الساعات، كان البلطجية يتمركزون عند المتحف المصري وأسفل كوبري أكتوبر عند ميدان عبد المنعم رياض، كما اعتلوا العمارات المواجهة وقاموا باشعال النيران والقائها إلى أسفل، إلى جانب إطلاق الرصاص، هذه الفترة أجهدتنا، كنا نتقدم لصد هجمات البلطجية ثم نعود لتنظيم الصفوف ثم نتقدم مرة أخرى، وهكذا حتى أشرقت الشمس". ما يأسف له أحمد وكل من كان في الميدان هو سقوط 5 شهداء في هذه المواجهات، ورغم ذلك كان هناك إصرار منهم على الصمود، يقول: "يكفي أن أحد الشهداء وهو الشاب (كريم رجب) سقط أمامنا وهو بصحبة شقيقه، فما كان من هذا الأخ إلا أن أبلغ أهله ونقله للمستشفى، ثم عاد لميدان التحرير لكي يواصل النضال". خالتي فرنسا أما دعاء أحمد، 26 سنة، فتقول: "ليلة أمس كانت صعبة جدا، يكفي أننا محاصرون من كل مكان حولنا، فهناك 5 مداخل غير مؤمنة كان يسيطر عليها من يقولون إنهم مؤيدو مبارك، وحتى الصباح معرضون للإصابة أو القتل في أي وقت". وتشير دعاء إلى أن "البلطجية" الذين هاجموا ميدان التحرير لم يقتصروا على الرجال فقط "كان هناك نساء أيضا، هيئتهن أشبه ب(خالتي فرنسا)، بدأن في التوافد على الميدان منذ الصباح، رفضن أن تقوم الفتيات بتفتيشهن وأخذن يوجهن لهن الشتائم البذيئة". تضيف: "طوال ساعات اليوم لم نتذوق الطعام لأننا محاصرون، ولم نستطع التحرك لإحضار طعام إلا بعد المغرب، مشينا مسافات طويلة جدا ولم نجد طعاما إلا البسكوت، ولم نتذوق طعاما إلا عندما قام سكان التحرير بعمل بعض الماكولات والعصائر". تكمل: "نحن الآن في الميدان لن نغادره استعددا لجمعة الرحيل، ورغم أن البلطجية يتوافدون إلى الميدان حتى الآن، إلا أن جميع المتظاهرين في حالة صمود". مشهد مرعب باسل سمير، 24 سنة، يقول: "كنت في قمة سعادتي حين شاهدت تحضر المواطن المصري المتظاهر في ميدان التحرير الذي يجمع قمامته في السيارات المحترقة وينظف المكان من حوله، لكن سرعان ما اختفى المشهد الحضاري بقدوم بلطجية الحزب الوطني، استطاعوا الوصول لمنتصف الميدان وبدأوا في سبابنا بألفاظ نابية واتهمونا بالخيانة والعمالة لدول أجنبية، وحين بدأ البعض في التعامل معهم بنفس أسلوبهم، علت مكبرات الصوت تحثنا على عدم الانحدار إلى هذا الأسلوب". يكمل: "بعد مرور ساعة وجدت إحدى الأجنبيات تتقدم نحوي قائلة في زعر: (ماذا أفعل، مؤيدو مبارك يركبون خيولا وجمالا، عليّ أن أسرع لكى أنقذ نفسي)، لم تمنحني الفرصة لمساعدتها أو حتى الرد عليها، فالمشهد حقا كان مرعبا، خيول وجمال تقتحم ميدان التحرير تخترق صفوف المتظاهرين واللجان الشعبية كى تمكن البلطجية من عبور الميدان دون تفتيش، وبدأ سيل من الحجارة يلقى من الخارج على المتظاهرين الموجودين بالداخل، في البداية لم أتمكن من رؤية البلطجية حتى تسلقت أحد أعمدة الكهرباء لأرى بلطجية محملين على سيارة نقل مملوءة بالحجارة، يلقونها من مسافات بعيدة جدا وبمهارة عالية جدا". في هذا الوقت انقسم المتظاهرون لفئات عديدة، فتيات يجمعن الحجارة التى تلقى من الخارج في ملابسهن وتنقلها للمتظاهرين لإعادة إلقائها مرة أخرى على البلطجية، شباب يحاولون القبض على البلطجية –الذين يحملون كارنيهات الحزب الوطني- وتسليمهم لقوات الجيش، أخرون يحاولون الإمساك بالخيول والجمال المتسببة في حالة من الرعب والفزع لدى المتظاهرين. مشهدان في الميدان لبنى عفيفي، 30 سنة، تتحدث عن مشهد الخيول والجمال وهي تخترق الميدان قائلة: "صدمة لم نكن نتخيلها، لثوان قليلة جاء في خيال كل متظاهر عشرات الأسئلة.. ماذا يحدث؟، من هؤلاء؟، أين الجيش؟...، لكن لم يكن هناك وقت للإجابة، كان يجب التصرف، وهنا ظهرت شجاعة الشباب غير الطبيعية الذين أسقطوا من يعتلون الخيول والجمال". وتتحدث لبنى عن مشهدين ليلة أمس أحدهما سلبي والآخر إيجابي، تقول: "المشهد الأول هو مشهد صراخ الأطفال في الميدان المتواجدين بصحبة آبائهم وأمهاتهم المتظاهرين، حيث أصابهم الرعب من مشهد الخيول والجمال، ثم كان إصابة العديد منهم". تكمل: "أما المشهد الثاني فهو تهافت عشرات الأطباء الشباب على الميدان، ذكور وإناث، مسلمين ومسيحيين، قاموا بمجهود طبي هائل جدا وبإمكانيات قليلة جدا لإسعاف عشرات الجرجى، واتخذوا من الرصيف مكانا لعملهم". تضيف لبنى: "رغم أن الجرحى يزيدون على 20% من المتظاهرين، إلا أن روحنا المعنوية مرتفعة جدا، ولدينا إصرار كبير على إكمال ما بدأناه، فقط لأننا نشعر بالظلم، وإذا فكر أحدنا في التراجع للحظة، تكون دموع أسر الشهداء - الذين قتلوا ظلما- دافعا قويا له لاستكمال نضاله حتى إسقاط النظام".