رحب العديد من الاقتصاديين والمتابعين للشأن المصري بالقرار الذي اتخذه البنك المركزي في 3 تشرين الثاني (نوفمبر) بتعويم الجنيه، أي تحريره من أي سعر صرف ثابت وترك السعر يتحدد بقوى العرض والطلب. وجاء تعويم الجنيه جزءاً من حزمة إجراءات اشترطها صندوق النقد الدولي وتشمل رفع الدعم عن المحروقات وتطبيق ضريبة القيمة المضافة قبل منح مصر قرضاً بمقدار 12 بليون دولار على مدى ثلاث سنوات. وتأمل الحكومة المصرية بأن يعمل تعويم الجنيه لزيادة الصادرات وتشجيع السياحة وتدفق الاستثمارات الأجنبية التي ستؤدي إلى رفع معدلات النمو وإنعاش الوضع الاقتصادي. والسؤال الذي يجب طرحه هنا هو: هل كان قرار التعويم صائباً، وهل سيحقق فعلاً للاقتصاد المصري الظروف الملائمة لإنعاشه؟ لا ينصح عادةً بتعويم العملة في الدول التي لا تملك احتياطات كبيرة تستطيع استخدامها للحفاظ على سعر العملة الوطنية إذا تدهورت في مقابل الدولار، أو أي عملة أجنبية رئيسية في شكل تخرج فيه عن السيطرة، لذلك لا يعتبر تعويم العملة وصفة ينصح بها لدولة نامية تواجه العديد من المعوقات الإنتاجية ولا تملك كثيراً من الاحتياطات الأجنبية. وعادةً تستخدم التعويم الدول المتقدمة ذات الاقتصادات المتطورة وقدرات إنتاجية عالية تجلب لها احتياطات نقدية كبيرة. ولا يعتبر تعويم العملة الذي يؤدي إلى انخفاضها في مقابل العملات الأخرى ضماناً أكيداً لتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فالأخيرة يهمها قبل كل شيء العمل في مجال آمن ومستقر، وهذه حال غير متوافرة تماماً في مصر الآن، ومهما انخفضت أسعار الصرف فلن تكون حافزاً لتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وهو ما تسعى إليه مصر. وقد يشجع التعويم الاستثمار في الأوراق المالية، لكن الأخيرة تمثل استثمارات قصيرة الأمد وتسعى إلى الربح السريع وتكون أهدافها المضاربة في شكل رئيسي. أما عدم معرفة إلى ماذا سيؤول إليه سعر صرف الجنيه في السوق في المستقبل فسيجعل المستثمرين الأجانب يتريثون في الاستثمار. ويفترض أن يؤدي تعويم العملة إلى تشجيع السياحة التي تعتبر مصدراً مهماً للعملة الأجنبية في مصر، لكن السياحة التي انخفضت إيراداتها بنسبة 60 في المئة تحتاج إلى وضع أمني مستقر أيضاً. وعدم توافر ذلك يجعل انخفاض سعر الجنيه غير كاف لتشجيع السياحة خصوصاً بعد سقوط طائرتين واحدة روسية والثانية مصرية في ظروف غامضة. من ناحية نظرية يفترض أن يؤدي تعويم الجنيه الذي انخفض تجاه الدولار بمقدار الضعف، من سعر رسمي مقداره 8.8 جنيه إلى سعر حالي معدله 18 جنيهاً، إلى زيادة الصادرات وتقليص الواردات التي يعوض عنها بزيادة الإنتاج المحلي. لكن الأمر غير ذلك من ناحية عملية. فنسبة كبيرة من الصناعات المصرية كالصناعات الدوائية وصناعة الفولاذ وصناعات استخراج المعادن والغاز والطاقة تعتمد على مواد أولية مستوردة بما فيها مواد التغليف إلى حد يصل إلى 80 - 85 في المئة من قيمة المنتج النهائي. وهذا يعني أنَّ ارتفاع أسعار المدخلات المستوردة سيرفع من أسعار الصادرات ولا تعود الأخيرة جاذبة المستوردين الأجانب. وتعاني الصناعة المصرية مشاكل هيكلية إذ يشكو العديد من الصناعيين من غياب استراتيجية أو رؤية لتطوير الصناعة الوطنية، فغالبية الصناعات المصرية تتبع أسلوب التجميع الذي يستهلك عملة أجنبية أكثر ما يولّد، ولا توجد استراتيجية صناعية تعمل لتشجيع استعمال المنتجات المحلية في الإنتاج. ومنذ أن بدأ سعر الصرف في السوق السوداء يبتعد عن سعر الصرف الرسمي، توقفت العديد من المعامل عن الإنتاج، بينما عملت أخرى ب30 - 20 في المئة من طاقتها الإنتاجية. وبعدما أصبح سعر الصرف حراً ستعجز العديد من الصناعات عن شراء الدولار بالسعر الجديد بعد انتهاء مخزونها من المواد الأولية. وإذا أضفنا إلى ذلك ارتفاع أسعار المحروقات من الغاز والكهرباء، بعد إلغاء الدعم عنها، ستجد معظم الصناعات نفسها عاجزة عن الاستمرار في العمل. وطالبت نقابة مصنعي الأدوية من الحكومة إعطائها معاملة خاصة باحتساب الجنيه عند السعر الرسمي السابق 8.8، حتى تستطيع الاستمرار بأنشطتها الصناعية. وفي وقت تشجع الحكومة الصناعات الكبيرة والعملاقة، يرى الصناعيون أنَّ مصر في حاجة إلى تطوير الصناعات الصغيرة والمتناهية في الصغر لتحضير مدخلات محلية للصناعات المصرية وتقليص اعتمادها على المدخلات المستوردة. من هنا يبدو أنَّ تعويم الجنيه لن يؤدي إلى جعل الصادرات المصرية أكثر تنافسية ويزيد الطلب عليها، بل على العكس قد يؤدي الأمر إلى إغلاق بعض الصناعات أو توقفها عن العمل نهائياً وتسريح العمال. وسيضيف الأمر عبئاً على الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي بدأت تعاني من ارتفاعات كبيرة في أسعار السلع والخدمات تفوق قدرتها على التحمل. من هنا يبدو أنَّ تعويم الجنيه المصري لم يكن قراراً في محله وسيخلق مشاكل عديدة للسلطة النقدية والحكومة المصرية، ما قد يضطرها إلى التخلي عنه. رأى مقال سابق لكاتبة هذه السطور أن مصر في حاجة إلى تبني سعرين للصرف أحدهما ثابت لاستيرادات السلع والخدمات الأساسية والثاني يتحدد حسب العرض والطلب يستخدم للسياحة والصادرات والاستثمار الأجنبي وتحويلات العاملين. وبذلك تقضي مصر على السوق السوداء وتزيد من مدخولاتها من العملة الأجنبية من دون الحاجة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي. وتبين حالياً أنَّ الاتحاد الأوروبي قدم لمصر نصيحة مشابهة بهذا الصدد. نقلا عن صحيفة الحياة