على رغم أنه فى العقد الرابع من العمر، فإنَّه تحمل طوال تلك السنوات مشقة العمل ومرارته، ولم يفارق الأمل وجهه. يرى أن القادم أفصل، وأن كل شىء يهون من أجل أبنائه الصغار.. وأن العامل هو صاحب الفضل ورائد النهضة والبناء فى مصر، وأن هناك يدًا تبنى فى مصر ويدًا تخرب. تحمل العامل الظلم سنوات عجافًا، ولم ينل حقه على مدار عقود تخلت عنه الحكومة، وتركته فريسة للمرض، وتوحش الأسعار وغلاء المعيشة. يجلس فى تمام الساعة السادسة صباحاً ياسر محفوظ على مقهى العمال بمنطقة بولاق الدكرور، يشرب الشاى فى انتظار قدوم العمال، فى حين يتحرك المقاول، ويصطحب الجميع إلى مواقع العمل فى منطقة إمبابة، وبحلول الثامنة يصل الجميع إلى مواقع العمل. ثوان قليلة وينهمك ياسر وزملاؤه فى العمل يمضون وقتهم فى الضحك ليمر الوقت عليهم حتى ينسوا تعب العمل ومشقته. جلسوا فى بداية اليوم يتناولون الشاى بينما يقوم ياسر بتجهيز موقع العمل بتوصيل خرطوم المياه ورش الرمل والأسمنت، ثم يأتى آخر بالمعدات ويمسك ألواح الخشب (السقالات) بيده واحد تلو الآخر، حتى إذا ما شعر بالتعب والإرهاق جلس يلتقط أنفاسه. ذهنه شارد يفكر بتمعن فى الشغل أو يتبادل أطراف الحديث والمزاح مع الآخرين ليهون من مشقة العمل أو يجلس يشرب الشاى حتى إذا جاء وقت الغداء جلس الجميع حول مائدة الطعام البسيطة التى عادة ما تكون عبارة عن فول وطعمية وجبنة يعقبها وقت الراحة لمدة ساعة. وما إن تدق الساعة الخامسة أو السادسة مساء، حتى يعلن الجميع انتهاء موعد العمل والعودة إلى بيوتهم. يعود ياسر إلى بيته وقد أصابه من التعب ما أصابه.. يداه وملابسه مليئة بالأسمنت، ولكن الفرحة لا تفارقه برؤية أولاده الذين عادة ما تكون الفرصة أمامه ليجلس معهم يداعبهم ويشاهد معهم التليفزيون، يحاول أن ينسى متاعب العمل مع أبنائه. حب المهنة يقول ياسر فى حديثه عن حبه للعمل: «تركت المدرسة والتحقت بطائفة المعمار فى سن مبكرة، وكان حلمى أن أصبح مثل أبي لأن التعليم مش بيأكل عيش.. كان الصنايعى بيكسب زى الدكتور فى وقتنا الحاضر رغم أنى كنت شاطر فى المدرسة وكان عمرى 15 سنة، وبدأت أذهب مع والدى إلى العمل رغم أنه حاول منعى من العمل وإجبارى على العودة للمدرسة، ولكنى تحديت كل الظروف وتحملت مشقة العمل فى هذه السن الصغيرة، وتعلمت مهنة مبيض محارة فى وقت قياسى ثلاثة شهور.. رغم أن البعض يستغرق فى تعلمها عاماً أو أكثر.. ولكن حباً فيها اتقنتها بسرعة.. منذ ذلك الوقت تفرغت لها واعطيتها كثيراً.. والحمد لله كنت صنايعى بكسب كويس جداً، وعملت أحلى فلوس من صنعتى، وكان ذلك فى أواخر الثمانينيات حيث كان العامل يوميته ب5 جنيهات وكان كيلو اللحمة رخيصاً.. كانت الحياة حلوة وجميلة والأسعار رخيصة.. وكانت الفروق الاجتماعية بين الناس بسيطة والجار يحب جاره، ويساعده ويقف معه فى المناسبات المختلفة ويسانده فى أصعب الأوقات.. كان العامل يصحى مبكراً من أجل لقمة العيش الحلال، ولا يفكر فى المخدرات مثل شباب اليوم، وكان مصروف الأسرة فى ذلك الوقت 5 جنيهات يومياً، وكان فى بركة فى القرش.. النهاردة العامل يوميته 120 جنيه و100 جنيه ومش بيكفى بيته واحتياجات أبنائه.. أقل أسرة مصروفها اليومى 100 جنيه ما بين أكل ومصاريف الأبناء فى التعليم بخلاف أسعار الخدمات التى تلتهم الأسود والأبيض بدفع شهرياً 100 جنيه كهرباء وأحياناً تصل إلى 200 جنيه مع العلم أنه ليس لدى سخان أو غسالة أتوماتيك.. وكل ما لدى لمبات موفرة وثلاجة وتليفزيون، وغاز 40 جنيهاً شهرياً، كنت استهلك أنبوبة بوتاجاز شهرياً ب10 جنيهات وأدفع 70 جنيهاً مياه.. الحياة صعبة. التعليم فى الكبر ورغم أن «ياسر» لم يستكمل تعليمه فى الصغر، وخرج من المدرسة فى الصف الثالث الإعدادى حباً فى العمل وهروباً من الدراسة، فقد كان يرى فى والده الذى يعمل مقاولاً فى مهنة المعمار، مثلًا يحتذى به.. إلا أنه راوده الحلم مرة أخرى ليلتحق بالمدرسة بعد سنة الخامسة والأربعين ويكمل دراسته فى الصف الثالث الإعدادى، ثم مرحلة الثانوية حتى حصل على دبلوم تجارة. ويرى «ياسر»، أن عودته إلى التعليم هدفها أن يجد فرصة عمل بعد سنوات الشقاء فى مهنة المعمار، وتقدم سنوات العمر لعله يستريح فى يوم من الأيام.. وبحث عن عمل فى القطاع الخاص ثم التحق بشركة الجوهرة وتم تعيينه بالشهادة الابتدائية مندوباً وسائقاً. و«كان حلمى أن يحصل على الدبلوم حتى تتاح لى الفرصة للحصول على ترقية مثل زملائى». وأضاف: «تعرضت للإصابة بغضروف فى ظهرى عانيت منه كثيراً ولم أستطع الخروج للعمل بسببه لمدة شهور.. أجلس فى بيتى ولا أجد قوت يومى، ما اضطرنى للرجوع إلى التعليم لكى أحسن من ظروفى وأحوالى المعيشية الصعبة، والهدف الآخر حتى أشجع أبنائى فى التعليم وحب المذاكرة فى زمن أصبح التعليم فيه صعباً.. والشباب ليس لديه أى هدف فى الحياة ولا يجد فرص عمل بعد التخرج وليس لديه حب لاستكمال التعليم، وأن تصبح له مكانة فى المستقبل مثل الأجيال القديمة. الحياة صعبة الغلاء وارتفاع الأسعار فاق الخيال والحكومة بتأخذ من الفقير وسايبة الغني.. نفسى أعيش بالحلال وأأكل أولادى لقمة حلال.. مش عارف يوم بشتغل وعشرة من غير شغل.. أبويا ربانى على اللقمة الحلال من عرق جبيني.. شغال فى صنعتى منذ 29 سنة أتحمل مشقة العمل ومخاطره.. اليوم يمر عليّ بصعوبة، ولكن كله يهون من أجلى أولادي.. بنشوف الموت بعنينا أثناء العمل بنشتغل فى واجهة المنزل ونكون متعلقين فى الهواء وبعض زملائى سقطوا من فوق السقالة والخشب وماتوا ولم يجدوا من يساعدهم أو يقف مع أبنائهم.. لو تعرضت للإصابة فى العمل لا أجد تأميناً صحياً أو اجتماعياً أو أحداً يساعدني.. العامل والصنايعى مش من حقه فى بلدنا يتعالج ببلاش أو يحصل على معاش بعد تجاوزه سن الستين.. لو العامل أو الصنايعى حدثت له إصابة عمل وأصبح قعيد الفراش لا يجد من ينفق على أولاده ويأكلهم بنشتغل فى الدور العاشر.. وفى ارتفاعات شاهقة ونتحدى المخاطر من أجل لقمة العيش.. يوميتى فى الشغل 120 جنيهاً والصنايعية تركوا مهنتهم بسبب الركود اللى فى البلد واتجهوا لشراء التوك توك.. والمهنة أصبحت تنقرض.. والشباب يعزف عن تعلم المهنة أو حتى يرثها من والده لأن التوك توك بيجيب فلوس بيعمل 100 جنيه فى اليوم وشغله مستمر وبيعمل 50 جنيه فى الوردية والصنايعى يوم يشتغل وعشرة نايم فى البيت، يضطر يقعد على القهوة مع صحابه عشان يلاقى يومية أو يسأل عن شغل ولدى ثلاثة أبناء أكبرهم «سهير» حاصلة على دبلوم تجارة و«محفوظ» فى الصف الخامس الابتدائى مش عارف أصرف عليه المدرسة بتطالبنى ب180 جنيهاً ثمن مجموعات التقوية فى 4 مواد دراسية.. ومدير المدرسة والمدرسون لا يلتزمون باللائحة التى تنص على أن الطالب يدفع 20 جنيهاً فى المجموعة المميزة و15 جنيهاً فى المجموعة العادية و«نانسي» فى الحضانة مصاريفها 65 جنيهاً شهرياً.. كان نفسى أدخل أولادى مدارس خاصة ولكن ما باليد حيلة.. التعليم الحكومى مش كويس والطلاب مش بيتعلموا حاجة فى مدارس الحكومة.. هنجيب فلوس منين.. الصنايعى لو نام يوم من غير شغل مش هيلاقى ياكل يعمل إيه.. يشحت؟ بنتى تعبت منذ أسبوع لم أجد ثمن العلاج، ذهبت بها إلى مستوصف حكومى ودفعت تذكرة بجنيه مش هقدر أروح للدكتور.. ثمن كشفه 100 جنيه.. مش عارفين نعلم أولادنا ولا نعالجهم، أحد العمل الغلابة خد أولاده ووقف بيهم أمام القطار.. وآخر عرض أولاده للبيع.. هنروح فين؟.. ارتفاع الأسعار والدولار عاد على العامل بالخراب والدمار! مطالب مشروعة انتخبنا الرئيس «السيسي»، وفوضناه حتى ينصر الفقير ويصلح أحوال البلد، وخرجنا فى المظاهرات وقولنا «السيسى رئيسي»؟ أين الرئيس من عمال مصر؟.. ونطالب الرئيس «السيسي» بحل مشاكل العمال والجلوس معهم لأن لهم حقاً عليه.