«بعيداً عن السياسة وهي أقرب إليه من حبل الوريد» بعيداً قليلاً قليلاً عن حديث السياسة إلى تعميق فكرة الوجود بين شاب ضل الطريق وآخر عرف الطريق وبينهما قصة حياة فيها الأمل وفيها اليأس تحت عنوان: الصراع سُنة الوجود. ما أعظم الملاح حين يقود سفينته الى شاطئ النجاة، إن ذلك يتم إثر تجربة وممارسة وتمارين مع فهم الطبيعة: الطبيعة حين تبتسم والطبيعة حين تغضب، وكيف - وهو الملاح الماهر - يقف على سر ومكنون وخبايا الرياح إذا هبت والأعاصير إذا أحاطت بالسفينة التي يقودها أمام «أمواج عاتية كالجبال». وذلك كله يشير الى أن «صراع الانسان في مواجهة مشكلات الحياة» هي التعبير الصادق عن طريق الإسناد الى حياة ذلك «الملاح» وهو يعيش مع البحر الذي يحوطه، البحر إذا غضب والبحر إذا هدأت أمواجه، وهو في كل الحالات «خبير بأسراره عليم». وبلغة الشعر والشعراء: عجيب يا بحر ما رواه الناس عني وعنكا، أترى - ما زعموا - زوراً وبهتاناً وإفكا.. لعبت أمواج وهدأت عواصف وقالت كما قال شعرها: إيليا أبو ماضي وهوي صادق البحر ويكشف عن أسراره، إني لست ادرى وكيف تأتي الأمواج في كل مواني بحار العالم - لهفي. صوب عناق الشاطئ وفيها من الأحلام والاسرار والظاهر والباطن.. وكل المجهول.. إنها قصة ملاح ماهر يعرف أسرار الموج أي عرف بعضاً من اسرار هذا الوجود. وشاعر المنصورة الجميلة الحلوة و«الماح التائه» في «البحر الصغير» على محمود طه.. يناشد الهمة في الانسان ويثنى بالثناء والتقدير وجائزة المعرفة لأسرار البحار، حين يأتي الصباح ومعه الأمل مع العمل «ويا أيها الملاح قم شد القلوع».. إنها حكمة الدنيا، وكفاح الوجود حين يقاس الإنسان في ممشاة حياته بقصة ذلك الملاح الذي يمثل الكفاح المرير في الانتصار على كل ما يحوط هذه الحياة في رقتها وعذوبتها وفي غضبها وفي قسوتها تماماً كالربيع والأعاصير إذا هبت وإذا غضبت، وهذه هي «دروس الحياة» المعرفة: المعرفة كيف يواجه النسمة الرقراقة عند مولد كل صباح.. ويكف يواجه الموج العالي كالجبال حين تغضب الطبيعة ويصالح أمواجها.. والفرق هنا ما بين الملاح الماهر.. وذلك الذي يتفرج على أسباب الطبيعة في محنته أو صمته أو لا مبالاة، فرق بين من يعرف أسرار الكون فيعايشها بالمعرفة والعمل، وبين من ينظر اليها نظرة عابرة وإذن «تلك عقبى الدار». وهنا الطبيعة قف بنا يا ساري لأريك صنع العظيم الباري كل الذي شرحناه وعرضنا أمره إن هي إلا تطلعات وخلجات ولمسات شاعر جالس على شاطئ الحياة في ظل شجرة مورقة مخضرة بالأمل، ومن مكانه يخاطب الوجود ويفلسفها ويخرج منها بدرس حقيقي عن «مكانة الإنسان»: أي انسان، وهو يشرح ويفلسف آيات الطبيعة في حسنها وبهجتها وأيضاً في غضبها وعنفوانها تماماً كالانسان: في «صمته حكمة، وفي غضبه فلسفة، وفي حياته رواية، وفي حركتها ما بين الايجابية والسلبية» تماما لأنه جزء لا يتجزأ من مكنون الطبيعة، وهى التي أعلنها منذ فجر التاريخ الفيلسوف الرائع زينون القبرصي تحت عبارة: «عش وفقاً للطبيعة».. بمعنى عليك أيها الانسان العاقل أن ترى بعين فاحصة خبيرة أن البشرية - حسب قانون الطبيعة - تلتقي «بنفس المولد ونفس المصير» ومن هنا «المولد واحد وشاطئ الموت عنده يلتقي الجميع، ولا فرق بين حاكم أو محكوم ما بين غني واسع الثراء أو بين فقير معدم ولكن مشى على جسر الحياة تماماً.. تماماً. وهذه الفلسفة هى التي دفعته والفلاسفة الانسانيون من بعده «ينادون بوحدة العالم.. لا حدود ولا سدود.. انما هى الأخوة العالمية في المدينة العالمية». ويأتي الإنسان عبر هذا الوجود وعليه أن يختار.. أو يترك الأقدار بديلة عنه في الاختيار.. وإنه - إن - شاء أو أراد يمكن تلخيص وجوده ما بين الاختيار أو عدم الاختيار وهي - أي الحياة - عبارة عن «خطى مشيناها» والنهاية هي القدر المحتوم.. والنتيجة واحدة وإن تعددت الأسباب.. هذا فتى يقول ويختصر حياته قائلا وما أروع ما قال: «حياتي قصة بُدئت بلحن سماوي له غنيت وامرأة جميلة».. وأما صاحبي يخاطب محبوبته متعالياً: «هنا ستموتين هنا.. وأما أنا فسيبقي شعري الباقي».. وأما آخرهم فقد أخذه التيار - تيار الحياة بعيداً عن شاطئ الحياة - تماماً كما عبر عنه أبناء الحياة.. «شراع تاه في بحر شديد الموج عربيد».. وانتهت حياته بين أمواج الوجود.. وما عاد له من ذكرى إلا أغنية حزينة عند كل مساء يرتلها «عصفور ضل طريقه من سرب الطيور». وعنده تبدأ قصة الحياة من جديد ونقول مع الشعراء: «أيها الملاح قم شد القلوع».. الدكتور محمود السقا