إذا اقتربت من شق الثعبان فستجد فى انتظارك ثلاثة أشياء.. عيون ترقب حركاتك وسكناتك.. وغبارًا أبيض ينزع رئتيك ويغرقهما فى بحور التحجر، وشبابًا يسرعون إليك طالبين وظيفة.. مع أول خطوة لى داخل الشق، اقترب منى واحد من هؤلاء.. كان شابا نحيلا، قمحى اللون، يرتدى جلبابا بلديا بنى اللون.. بشرته ولهجته تقولان إنه صعيدى، وملامح وجهه تشير إلى أنه فى العقد الثالث من عمره.. جاءنى مسرعا طالبا عملا، ولما أخبرته بأننى زائر للمكان ولست من العاملين فيه، تغيرت نبرة صوته، وتبدل حاله من طالب عمل إلى مسكين يشكو ضعف قوته وقلة حيلته وحاجته إلى «أى مساعدة» لكى يأكل! المنظر يتكرر، مع كل وافد لشق الثعبان- حسبما أكد لى إيهاب عبدالله، أحد العاملين فى الشق- مبررا ذلك بحالة الكساد التى ضربت الشق ومن فيه منذ شهور، فتراجعت عمليات البيع والشراء بشكل كبير. وحالة الكساد فى الشق، لا تحتاج لدليل، فقط انظر حولك، وراقب عمليات البيع والشراء، أو حتى راقب السيارات التى تجرى فى الشوارع، وبعدها ستكتشف أن البيع والشراء شبه متوقف، والسبب طبعا ارتفاع الأسعار، التى قفزت 40% خلال الأسابيع الأخيرة. وإذا تجاوزت كل ذلك، وبدأت السير فى شوارع الشق الضيقة والمتعرجة كالثعابين، سيصدمك حالة النخيل المزروع على جانبى بعض الطرق، فرغم أن النخيل هو أحد أقوى الأشجار وأكثرها تحملا وصبرا، وقدرة على الحياة فى أصعب البيئات، إلا أن حال الشق أصعب من أن يتحمله هذا النبات الصابر الصبور، ولهذا مالت رؤوس كثير من النخل، وماتت مخنوقة بغبار الرخام.. وإذا كان الغبار قد فعل هذا بالنخيل الباسقات، فلك أن تتخيل ما الذى يمكن أن يفعله بالعمال وبالمترددين على المكان. وهكذا يدور الزمان فى شق الثعبان ما بين هبوط وصعود، منذ أن صار المكان مقصدا لصناع الرخام والجرانيت .. فقبل ذلك كان شق الثعبان عبارة عن مناطق جبلية، ولما عرضت محافظة القاهرة على الأهالى أن يقيموا مقابرهم فى المكان، رفضوا بشدة، واستنكروا أن تعرض المحافظة عليهم إقامة المقابر فى منطقة جبلية وعرة يصعب الوصول إليها أو السير فيها. ولكن الحال تغير فى المكان بعدما رأى فيه البعض مزايا كثيرة لصناعة الرخام والجرانيت خاصة لقربه من الجبل، وشيئا فشيئا صارت المنطقة كمغناطيس يجذب إليه مصنعى الرخام، ولما بدأوا العمل هناك فوجئوا بوجود الكثير من الثعابين، وبأن كل الطرق ضيقة وملتوية، ومتعرجة المدقات، ومن هنا أطلقوا على المكان اسم شق الثعبان، وظل الاسم باقيًا ومستمرًا، حتى الآن رغم أن الثعابين لم يعد لها وجود هناك! وعاما بعد آخر زاد الصناع فى شق الثعبان حتى وصل عددها إلى 2000 ورشة ومصنع، فى المنطقة الممتدة من شرق طريق الأوتوستراد بحى طرة وبعمق 6 كيلو متر تقريبًا حتى حدود محمية وادى دجلة شرقا، وهى منطقة تقارب مساحتها نحو 1000 فدان.. هذه الورش والمصانع تخصصت فى صناعة الرخام والجرانيت، تنقل إليها الكتل الكبيرة من الرخام والجرانيت من محاجر رأس غارب والعين السخنة والمنيا، وأسوان والأقصر وفى الشق يتم تقطيعها وتلميعها تصنيعها وبيعها محليا أو تصديرها إلى الخارج. ونالت منطقة شق الثعبان شهرة عالمية ومحلية فى صناعة وتصدير الرخام والجرانيت، حتى أنها تحتل المرتبة الرابعة عالميا فى قائمة مناطق صناعة الرخام فى العالم. وتصدر مصر نحو 3 ملايين طن رخام خام سنويا بقيمة 5 مليارات جنيه وهذا الخام يتم تصنيعه فى الخارج وإعادة تصديره إلى مصر وغيرها من دول العالم بما يزيد على 4 أضعاف سعر الخام أى بأكثر من 20 مليار جنيه. وأكدت دراسات اتحاد الجيولوجيين العرب العلمية أن 75% من الخام المستخرج فى مصر سنويا يتم إهداره ولا تتم الاستفادة سوى من 25% فقط. الرخام المصرى ليس له نظير فى العالم سوى فى السعودية فقط ولهذا يتهافت الصينيون على الرخام المصرى وعاما بعد آخر يتزايد تسللهم إلى مصر من اجل الرخام وهم يحققون من وراء ذلك أرباحا طائلة. المتر المكعب من بلوك بعض أنواع الرخام الخام يصل سعره إلى 3 آلاف جنيه مصرى، فإذا تم تقطيعه إلى مكعبات رقيقة فإنه يستخرج منه نحو 45 لوحًا حجم كل منها متر مربع، ويباع هذا المتر ب 190 جنيهًا، وبالتالى فان سعر المتر المكعب بعد التلميع والمعالجة يصل إلى 8550 جنيهًا أى أن سعر البلوك بمجرد تقطيعه يرتفع إلى نحو 3 أمثال سعره الخام. ورغم أن منطقة شق الثعبان تقع فى قلب القاهرة إلا أنك لا تلمح وجودا للحكومة داخل الشق، اللهم إلا فى مدخل المنطقة حيث يقف موظف الكارتة ليحصل 6 جنيهات من كل سيارة نقل صغيرة تخرج من الشق محملة بالرخام والجرانيت، ويرتفع المبلغ ليصل إلى 60 جنيهًا لعربات التريلا.. وغير تحصيل الرسوم لن تجد للحكومة أثرا فى شق الثعبان!