سيدة لا يتعدى عمرها ال48 عامًا تستوجب عليها مهنتها أن تتعامل مع الأموات بصورة يومية وبإيمانها القوى وطمأنينة نفسها الراضية بقضاء الله عز وجل تنجز عملها على أكمل وجه، ففي لحظة ما يتطلب منها الذهاب من حي لآخر لتغسيل جثمان متوفى وسترته حتى يصل لمثواه الأخير مع اختلاف أعمارهم، وبوقوفها أمام المتوفي ترى الدنيا صغيرة بأعينها لاستسلام الجثمان لأفعالها، فتبدأ بتحريكه يمينًا ويسارًا لإتمام الغسل الشرعي. وعادة ما تعيش لحظات قاسية تأثر فى حالتها النفسية وكونها أم لثلاثة أولاد يزداد الأمر حدة ومرارة، إذ يتوجب عليها تغسيل أطفال فى عمر الزهور لا يتعدوا الأيام أو الشهور، علاوة على الجثمانين المتقطعة أو المحروقة أو الغارقة...تلك هى المغسلتية "أم عمر". وفى محاولة من محرري الوفد للوصول لإحدى مغسلات الموتى، قمنا بالتوجه لحي السيدة زينب ليستقبلنا حانوتى المنطقة محسن نصر لنصل من خلاله للمغسلاتية التى تعمل معه، لنتحدث معها عن تفاصيل حياتها الأسرية كونها تتعامل مع الأموات كل يوم، وهل تأثرت بها أو عليها أم لا؟ مغسلة موتى منذ 9 سنوات جاءت بدايتها مع تغسيل الموتى منذ تسع سنوات وفي نيتها أن تكون لابتغاء وجه الله تعالى وليس لها أجر بعينه فما يدفعه أهل المتوفية يقال عليه في عرفهم "صدقة بار وذمة" لغسل الميت وكل شخص حسب إمكانياته. وتأتي مهنة المغسلتية كباقي المهن التي يمكن أن يتوارثها الأبناء لتقول أم عمر أن أجدادها حانوتية وأنها كانت ربة منزل وحين واجه زوجها ضيقة مالية قررت الوقوف بجانبه والنزول مع خالتها التي تعمل مغسلة موتى بأحد المستشفيات ولها مكتب بإحدى المناطق الشعبية، فعلمتها المهنة وساندتها حتى وثقت أنها قادرة على تحمل مسئولية تلك المهنة والتى تتطلب قوة أعصاب وتحمل الموقف". وجاء رد فعل زوجها بالرفض في البداية خوفًا عليها من تأثر نفسيتها من مشقة المهنة ومواقفها الصعبة، لتبدأ رحلتها الفعلية حين تركتها خالتها وحدها لتغسل أحد الجثامين بالمستشفى فراودها شعور الرهبة والخوف الممزوجان بشعور المسئولية فرهبة الموت تحاوطها ورهبة الموقف تزيدها، لتجد جسدها يرتعش ولكن واجبها المهني طغى على ذلك. وبدأت بغسل المتوفية الغسل الشرعي الذي أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بعد الانتهاء منه بكيت وأغلقت الموبايل الخاص بها حتى وصلت منزلها. أصعب المواقف واستكملت المغسلاتية، أن أكثر المواقف الصعبة ببداية عملها حين توجب عليها غسل جثمان محلل فكان الموقف شديد، وبهذه الحالة لا يتم غسل المتوفى مثل الجثمان الطبيعي، ولكن يتم تيممه فقط مثل الغرقان والمحروق ثم تضع مشمع قبل الكفن لستر الأمانة نفسها ولا يظهر فيها حالاتها. وقامت "أم عمر"، بتغسيل جثامين كثيرة منهم المسنين والشباب والأطفال، ونفسيتها تتأثر على حسب حالة المتوفية ولكنها ترهق أكثر وتتألم بقسوة حين تقوم بغسل أطفال خاصة صغار السن والرضع قائلة" اكتر حاجة بتوجع قلبي وبتأثر في نفسيتي أوي لما أغسل أطفال". وبسئوالها عن أدعية بعينها تدعوها فى حالة التغسيل ، تقول "اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا" تلك هي الدعوة الملازمة لها عند تغسيل المتوفين. الحياة عبرة أما عن نظرتها للدنيا بعد امتهانها تلك المهنة، تقول:" أثناء امتداد المتوفى أمامي للاستعداد للغسل، أرى بنى البشر لا حول لهم ولاقوة، أجسادهم معي وأرواحهم بالسماء ولا يستطيعون الرجوع للحياة مرة أخرى، فالحياة عبرة لمن يعتبرها، وربنا طالما قدرني أني استر أماناته يبقى هو سخرني لده". وببسمة تعلو شفاهها تحدثت عن أولادها الثلاثة أكبرهم 23 عاما وأصغرهم 11 عاما، ودائمًا ما تكون أعصابها مشدودة نتيجة لحالات الوفاة التى تراها طوال اليوم ولكنها تحاول الفصل فى لحظة دخولها المنزل لتبدأ يومها بشكل جديد مع زوجها وأولادها وتتعامل كأم فقط، قائلة: "لو اتعاملت بمهنتي في بيتي نفسيتي هتأثر على بيتي ومش هنجح في الاتنين". وتابعت:" وأولادي في الأول مكنوش مستوعبين المهنة لحد ما فهموا وقدروا ده ولا يستعيبوا ما اقوم به فهي مثل كل مهنة بل متفاهمين ذلك وفخورين به"، وعن حلمها وهي صغيرة تقول "كان نفسي اطلع مضيفة طيران بس الحمد لله، لكن علمت أولادي حتى وصلت الكبرى للمرحلة الجامعية وبحاول احققلهم احلامهم. وعن اختلاف حياتها قبل المهنة وبعدها، تؤكد أنها زادت من اهتمامها بتقديم النصائح بصورة مبسطة لأولاده بالالتزام بأداء الصلاة، قائلة:"الدين ترغيب مش ترهيب ودايما ما أقول لهم ربنا بيحب عبده اللحوح، ربنا بيحب يسمع صوتكم في الدعاء والصلاة هي الصلة بين العبد وربه لازم تحافظوا عليها". مواقف قاسية وتعرضت "أم عمر" لمواقف أسرية مؤثرة في حياتها، أهمها حين اختلفت ابنتها الكبرى مع أصدقائها فى يوم ما بسبب مهنتها، فقامت بدعوتهم بالمنزل واستضافتهم بطريقة لائقة بها تم تغيير مفهومهم عن مهنة المغسلاتية. والموقف الآخر كان على قلبها أشد قسوة لتغسيلها جثمان أخت زوجها، ولكنها كالعادة قامت بكبح مشاعرها وأتممت الغسل على أكمل وجه، وبعد ذلك أنهارت نفسيًا لصعوبة الموقف، لافتة إلى أن غسل الأقارب أشد حزنًا من أي شخص آخر خاصة لحضورها سكرات الموت بجوارها. ولكنها في ذات الوقت لم تخيل أنها تستطيع تغسيل شخص مقرب منها كأمها قائلة: "لم اتخيل وقتها وقع الموقف عليا هيكون إيه هقدر ولا لاء". وأوضحت، أنها فى بعض الأحيان تتعرض لإهانات من أقارب الموتى لهول الصدمة عليهم وبصبر وسلوان تتحملهم كونها تعلم ما يشعورن به لتعرضها له كل يوم، ولم يأت على خاطرها لو لبرهة واحدة أن تترك مهنتها، قائلة: "أنا اعمل ابتغاء لوجه الله واستر الأمانة حتى أجد من يسترني". بخصوص مشكلاتها الأسرية ناتجة عن مهنتها خاصة وأنها تطلب فى أي وقت، قائلة: "مش هختار الوقت اللي بيجي فيه الشغل بتاعي لأنه غالبًا الوقت بيتأخر ولكن زوجي بيقدر ده عشان هى مهنة إنسانية في المقام الأول ". وهذه المهنة أهم صفاتها الشخص الكتوم والأمين على كل شيء يراه، ف"أم عمر" كل يوم تغسل أكثر من حالة وتؤمن بحرمة الموت وتكتم أسرار الموتى التي تغسلهم ولا تتحدث عنها وحين يثير فضول أحد معرفة شيء يكون ردها "الله وحده من يحاسب عبده سواء كان عبد صالح أو عاصي". وصيتها وكانت وصيتها لبناتها أنهم هم من يقفوا على غسلها بعد أن توفيها المنية، أما نصيحتها لهم فقالت "بأن يتقوا الله في كل شيء في حياتهم لأن لا شيء يبقى للبني آدم بعد موته إلا عمله". شاهد الفيديو..