تكريم مجلس اتحاد طلاب جامعة المنيا الأهلية    وزير التموين يستعرض جهود ضبط الأسواق وتوافر السلع    ميرتس يبدي تحفظا حيال إسهام بلاده في تأمين هدنة محتملة في أوكرانيا    الذكاء الاصطناعي يتوقع الفائز في مباراة النصر والاتحاد    بسبب السحر.. شاب يحاول قتل شقيقته بالقليوبية    المشدد 15 عامًا لمالك محل أحدث لزوجته عاهة مستديمة في القليوبية    الآلاف يشيعون جثمان الطفل "أدهم" ضحية أصدقائه في كفر الشيخ - فيديو وصور    أوس أوس يطلب من جمهوره الدعاء لوالدته: «ادعوا لها تقوم بالسلامة»    ننشر تفاصيل ختام فاعليات مهرجان أسوان الدولى لأفلام المرأة فى دورته التاسعة    ماذا قالت الناقدة ماجدة خيرالله عن حفل زفاف رنا رئيس؟    عمر طلعت مصطفى: ننسق مع وزارة الشباب والرياضة للاستفادة من الفعاليات الكبيرة للترويج لسياحة الجولف    جوندوجان يأمل في بداية مسيرته التدريبية كمساعد لجوارديولا    التايكوندو يتوجه للإمارات للمشاركة في بطولة العالم تحت 14 عام    تقرير: دي ليخت يقترب من الغياب أمام أتليتك بلباو    محافظ الفيوم يتابع موقف أراضي الدولة المستردة وآليات استغلالها بالشكل الأمثل    محافظ سوهاج يتفقد تركيب الأطراف الصناعية بمستشفى الهلال الأحمر | صور    مصر واليونان توقعان الإعلان المشترك بشأن الشراكة الاستراتيجية بين البلدين    بيدري مهدد بالعقوبة من يويفا بسبب تصريحاته ضد حكم قمة الإنتر وبرشلونة    روسيا تعتزم استضافة رئيسي الصين والبرازيل وآخرين بمناسبة ذكرى يوم النصر في الحرب العالمية    مبيعات أجنبية تهبط بمؤشرات البورصة بختام جلسة اليوم.. فما الأسباب؟    كانييه ويست ينهي مقابلته مع بيرس مورجان بعد أربع دقائق من بدايتها (فيديو)    ما حكم طهارة وصلاة العامل في محطات البنزين؟.. دار الإفتاء تجيب    وكيل وزارة الصحة بالشرقية يتفقد الخدمة الطبية بالزوامل المركزى    جامعة كفر الشيخ تشارك في منتدى «اسمع واتكلم» بمرصد الأزهر لمكافحة التطرف    ضبط 3507 قضية سرقة تيار كهربائى خلال 24 ساعة    "الشباب في قلب المشهد السياسي".. ندوة تثقيفية بالهيئة الوطنية للانتخابات | صور    عدوان الاحتلال الإسرائيلي على طولكرم ومخيميها يدخل يومه 101    "التعليم" تعلن إطلاق مسابقة للمواهب في مدارس التعليم الفني    5 أبراج تُعرف بالكسل وتفضّل الراحة في الصيف.. هل أنت منهم؟    خلافات مالية تشعل مشاجرة بين مجموعة من الأشخاص بالوراق    بينها «أخبار اليوم» .. تكريم رموز الصحافة والإعلام في عيد العمال    وزير البترول: التوسع الخارجي لشركة "صان مصر"على رأس الأولويات خلال الفترة المقبلة    البابا تواضروس يستقبل وكيل أبروشية الأرثوذكس الرومانيين في صربيا    أوبرا الإسكندرية تقيم حفل ختام العام الدراسي لطلبة ستوديو الباليه آنا بافلوفا    كندة علوش: دوري في «إخواتي» مغامرة من المخرج    قطاع الفنون التشكيلية يعلن أسماء المشاركين في المعرض العام في دورته 45    تعرف على وضع صلاح بين منافسيه في الدوري الإنجليزي بعد 35 جولة    محافظ الدقهلية يلتقي المزارعين بحقول القمح ويؤكد توفير كل أوجه الدعم للفلاحين    إطلاق صندوق لتحسين الخدمة في الصحة النفسية وعلاج الإدمان    حزنا على زواج عمتها.. طالبة تنهي حياتها شنقا في قنا    مدبولي يُكلف الوزراء المعنيين بتنفيذ توجيهات الرئيس خلال احتفالية عيد العمال    وظيفة قيادية شاغرة في مصلحة الجمارك المصرية.. تعرف على شروط التقديم    وائل غنيم في رسالة مطولة على فيسبوك: دخلت في عزلة لإصلاح نفسي وتوقفت عن تعاطي المخدرات    وزارة الأوقاف تعلن أسماء المقبولين لدخول التصفيات الأولية لمسابقة القرآن الكريم    المراجعات النهائية للشهادة الإعدادية بشمال سيناء    سحب 49 عينة سولار وبنزين من محطات الوقود بالإسكندرية لتحليلها    آخر تطورات مفاوضات الأهلي مع ربيعة حول التجديد    ضبط المتهمين في واقعة تعذيب وسحل شاب بالدقهلية    مصر ترحب باتفاق وقف إطلاق النار في اليمن مع الولايات المتحدة    زيادة قدرتها الاستيعابية.. رئيس "صرف الإسكندرية يتفقد محطة العامرية- صور    «مستقبل التربية واعداد المعلم» في مؤتمر بجامعة جنوب الوادي    بتكلفه 85 مليون جنيه.. افتتاح مبنى امتداد مركز الأورام الجديد للعلاج الإشعاعي بقنا    عضو مجلس الزمالك: كل الاحتمالات واردة في ملف زيزو    أسامة ربيع: توفير الإمكانيات لتجهيز مقرات «الرعاية الصحية» بمواقع قناة السويس    اليوم.. الرئيس السيسي يتوجه إلى اليونان في زيارة رسمية    ما حكم إخراج المزكى زكاته على مَن ينفق عليهم؟.. دار الإفتاء تجيب    الأزهر يصدر دليلًا إرشاديًا حول الأضحية.. 16 معلومة شرعية لا غنى عنها في عيد الأضحى    عاجل- مصر وقطر تؤكدان استمرار جهود الوساطة في غزة لوقف المأساة الإنسانية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أشرف حسن البارودى: عندما تسلم خطاب بلوغه سن المعاش.. قال: أنا النهارده مت
أبى.. الذى لا يعرفه أحد
نشر في الوفد يوم 17 - 09 - 2016


- جاهز يا حسن يا ابنى؟ - جاهز يا محمد أفندى.
- ده سعد باشا زغلول بنفسه، هيحضر الحفل، بيض وشنا أدامه، ده زعيم الأمة الله يرضى عنك»!
- حاضر يا أستاذ! كان هذا حوارًا دار بين محمد أفندى مدرس مادة اللغة العربية ومشرف جماعة الخطابة بمدرسة «عابدين» الثانوية، وبين الطالب حسن البارودى. نحن الآن عام 1915. السلطان حسين كامل فى قصر عابدين يملك ولا يحكم. والمندوب السامى البريطانى فى قصر الدوبارة يحكم ولا يملك. والحرب العالمية الأولى بدأت منذ شهور، والقاهرة تخضع للأحكام العرفية، والمواطن المصرى يعانى من ارتفاع الأسعار - بعد نشوب الحرب - سعر السكر وصل الثلاثة أرطال منه إلى 6 قروش صاغ. وصفيحة الجاز ب18 قرش صاغ، وكيلة القمح ب14 قرش صاغ. وصحيفة الأهرام تباع ب5 مليمات وخمسة أرغفة.
عيش بلدى بقرش صاغ، والرغيف الشامى وصل سعره إلى خمسة ملاليم. الأسعار نار.. والناس تشكو.. لكنها الحرب التى تغير الأحوال ومصائر العباد.. فى هذه الظروف تقرر مدرسة عابدين الثانوية إقامة احتفالية كبرى، يحضرها زعيم الأمة سعد باشا وتقرر إدارة المدرسة أن يلقى الطالب المفوه، وصاحب الأسلوب المميز فى الإلقاء «حسن البارودى» كلمة المدرسة - حضر سعد باشا.. بدأ الحفل.. صعد الطالب وبدأ كلمته.. الحضور صامتون ينتبهون، وسعد باشا «يهز» رأسه إعجابًا وفرحًا بهذا الفتى صاحب الصوت المميز القوى. تصفيق حاد من الحضور بعد الكلمة.. يطلب سعد باشا أن يأتى إليه هذا الطالب: أفندم.. اسمى حسن.. يرد سعد باشا.. اسمك حسن.. وصوتك حسن.. وأنا سعيد برؤيتك اليوم.. دعنى أقول لك إنك لو اشتغلت بالمحاماة عندما تكبر.. فتأكد أنك ستنجح فى كل مرافعاتك بحجة قولك، وقوة صوتك.. اتفضل يا ابنى.. ربنا يوفقك، يعود الطالب الذى حاز على ثقة زعيم الأمة إلى بيته، وهو طائر من فوق الأرض من شدة فرحه، وأثناء عودته لمنزله، يحدث نفسه قائلاً: سعد باشا يرانى محامياً.. لكنى أرانى -أو أنا أريد أن أكون- ممثلًا، وفى النهاية الممثل يقول كلمة.. والمحامى يقول كلمة.. والهدف من وراء الكلام هو الوصول إلى كلمة الحق والعدل، فلتكن كلمتى بحثًا عن الحق والعدل على خشبة المسرح وليس فى قاعة المحكمة.. وبالفعل تحقق له ما أراد.
فى هذه الحلقة من سلسلة حوارات «أبى.. الذى لا يعرفه أحد».. جاء على ذهنى الفنان حسن البارودى صاحب الدور المميز فى فيلم «الزوجة الثانية» الذى أرخ فيه للشخصية التى تستعمل سلاح «النفاق» السياسى تحت عباءة الدين مستخدماً شعار المرحلة -وكل مرحلة- «قال الله.. وقال الرسول» ليصل إلى هدفه.. والهدف عنده -كما هو فى أى عصر- هو إرضاء السلطة سواء كانت على حق أو على باطل. اتصلت بالابن د. أشرف حسن البارودى، وهو أستاذ جامعى يدرس علم السياحة والإدارة. أهلاً وسهلاً.. هكذا جاء رده عبر الهاتف. الصوت قطعة من حنجرة أبيه، نفس النبرات والوقفات والسكنات، والطريقة والأسلوب، اتفقنا على اللقاء، جلسنا سوياً فى اللحظة والمكان الذى توعدنا عليه. شخصيته تحمل الثقافة فى نبرات الصوت، والملامح منقولة من ملامح الأب، ومن الواضح اهتمامه بملبسه وشكله وهيئته، فهو -بحكم عمله كأستاذ جامعى- يدرك أنه عليه أن يكون قدوة فى الجوهر والشكل أمام المجمع. اتفضل يا أستاذ هات ما عندك، قلت: تحب تشرب إيه؟ رد: أنت ضيفى.. قلت شاى بالنعناع، دقائق وجاء لنا «الجرسون» وعلى يده عصير الليمون والشاى.. وبدأنا الكلام.
أبى.. كان رجلاً محباً للحياة.. طيب القلب يعشق التمثيل، ويرى أن الفن رسالة عظيمة هدفها إسعاد البشر، منذ نعومة أظافره، وهو يبحث عن ذاته التى يعرف أنها لن تعيش ولن تدوم إلا على خشبة المسرح، ففى المرحلة التعليمية الأولى فى حياته وهو يبحث عن ذاته، ويثقف نفسه، ويتعلم ويتقن اللغتين العربية والإنجليزية، لأنه كان يجهز نفسه لمشواره القادم، مشوار التمثيل، ولقد نجح فيما سعى إليه، أتقن اللغة الإنجليزية واللغة العربية التى كان فيها ذا لسان فصيح، وأيضاً يمتلك حجة القول، والمخزون الثقافى الذى ساعده فيما بعد عندما عمل بالفن خاصة الوقوف على خشبة المسرح.
ولد حسن البارودى فى 19 نوفمبر سنة 1898 فى حى الحلمية بالقاهرة. بدأ حياته الفنية هاوياً، ثم التحق بفرقة كونها حافظ نجيب عام 1902، ثم انتقل إلى فرقة عزيز عيد 1922 وبعدها انتقل مع فرقة جورج أبيض، وعينه يوسف وهبى فى فرقته عام 1924 بمرتب 12 جنيهاً، ولم يكن تعيينه فى الفرقة ممثلاً، بل ملقن، واستمر ستة شهور حتى تصادف وغاب أحد أفراد الفرقة فقام فى اللحظة الأخيرة بأداء دوره. وكانت هذه نقطة انطلاقه فرفع يوسف وهبى راتبه إلى 25 جنيهاً ثم انضم للمسرح القومى براتب 16 جنيهاً، وظل بالمسرح القومى حتى رحيله، حصل على وسام الفنون عام 1962 وكرمته الدولة فى عيد العلم، تزوج مرتين، الأولى من الفنانة رفيعة الشال وله منها ابنة اسمها أميرة، ثم الزوجة الثانية من خارج الوسط الفنى وله منها ثلاثة أولاد (انتصار - أشرف - أمينة).
فى نهاية مشوار حياته سُئل فى حديث لمجلة الكواكب عدد أكتوبر 1966 ماذا لو عادت بك الأيام.. ماذا كنت تحب أن تكون؟ رد: ممثل مسرحى..! هذا الرد يؤكد عشق هذا الرجل للمسرح.. هذا العشق الذى جعله يضحى بحبه الأول فى الحياة من أجل عيون المسرح.. عن ذلك يقول لمجلة الكواكب (نفس العدد): لقد أعجبت بى فتاة وصارحتنى بإعجابها.. نشأت علاقة حب بيننا دامت سبع سنوات، وكنت أتلق منها رسالة كل صباح، وأخيراً -ومن حبها لى- طلبت وعرضت علىّ الزواج، فوافقت بشرط أن أترك التمثيل.. فتركتها هى! التضحية يصعب تكرارها!
عدت للابن د. أشرف حسن البارودى.. وقلت له: إلى هذا الحد كان حبه للمسرح؟ قال: أبى كان بالفعل المسرح كل حياته.. وأنا أذكر أنه حتى فى أيامه الأخيرة، التى وهن فيها البصر، والتى كان يجد فيها صعوبة فى القراءة والحفظ، كان يصر على الوقوف على خشبة المسرح، ويؤدى دوره رغم صعوبة ذلك عليه بسبب ضعف البصر. لكن حب المسرح كان عنده أقوى حتى من حبه لنفسه وصحته. قلت له: هناك رواية تقول إنه عندما ضعف بصره واحتاج أن يسافر إلى الخارج رفضت وزارة الثقافة وقتها بسبب عدم وجود ميزانية.. فقام بالاتصال بسيدة الغناء أم كلثوم وطلب منها التدخل لدى الدولة، حتى يتمكن من السفر لإجراء العملية.. ما صحة هذه الرواية؟ قال: صحيحة 100٪، عندما قرر الأطباء ضرورة السفر، لم توافق وزارة الثقافة.. هنا قرر أبى أن يتصل بالسيدة أم كلثوم.. وكان هو من رواد صالونها الثقافى الذى كانت تقيمه فى بيتها، وكانت تقول إن صوته تغنى على المسرح ولا يتكلم» وقتها بالفعل أجرت اتصالاتها على أعلى مستويات سياسية، وفى أقل من 24 ساعة كان كل شىء معداً ومرتباً لسفره، وبالفعل سافر وأجرى العملية وعاد بعدها للوطن.. وأيام بعد أيام مرت عليه.. والبصر يعانده.. وصل عناده معه إلى أن غاب تماماً فى آخر أيامه.
من المسرح الذى ظل يقف عليه، حتى فقد بصره إلى السينما التى قدم فيها عشرات الأفلام ذات المضمون الهادف والرسالة الصحيحة.. تركت الابن يسترجع ذكرياته مع أبيه قليلاً.. واتجهت إلى فيلم يُعد علامة من علامات السينما المصرية.. فيلم الزوجة الثانية من إخراج صلاح أبوسيف، فى هذا الفيلم يقدم حسن البارودى شخصية «مبروك».. ذلك المعمم الذى ينافق «حضرة العمدة» الذى لعب دوره النجم الراحل صلاح منصور أمام الراحل شكرى سرحان، والنجمة سعاد حسنى، وتبلغ ذرة النفاق فى هذا المشهد.
- «أصل العمدة عايز يناسبك»؟
- يناسبنى أنا.. فى مين؟ فى عائشة بنتى؟
- فاطمة؟!
- فاطمة مرتى.
- طلقها!
- آه.. اتجوز غيرها.. البلد مليانة بنات حلوة.
- اعقل يا أبوالعلا
- أعقل.. هو أنتم خليتم فىّ عقل.
- فى شرع مين؟
- يرد مبروك قائلاً: «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.. وأولى الأمر منكم» ويشير إلى العمدة.. هذه الكلمات البسيطة التى ألقى بها إلينا حسن البارودى فى الفيلم، أراد من خلالها أن يقول إن آفة مجتمعاتنا هى النفاق، وبيننا من ينافق باسم الدين، ومن ينافق باسم الوطنية، ومن ينافق باسم الإنسانية، وبيننا من ينافق من أجل النفاق دون أن يطلب منه أحد أن ينافق، فيما يبدو «النفاق» -أو هكذا أتصور- يعد ميراث نتوارثه عبر أجيال، ليخدم أنظمة الحكم، سواء كانت أنظمة ملكية أو أنظمة رئاسية أو تحت عباءة دينية.. لقد أكد لنا الفنان حسن البارودى أن «النفاق» سلعة صالحة لكل زمان، وفى كل مكان ومع أى حكام. المنافق يظل شعاره «أنا أنافق إذن أنا موجود»! وتلك هى المأساة!
عدت للابن الذى فرغ لتوه من فنجان شاى بعد عصير الليمون الذى طلبه فى بداية اللقاء.. وقلت له: كيف كان أسلوبه فى تربية أولاده؟ رد: الذى ربى وعلم هى أمى رحمة الله عليها.. كانت هذه السيدة تدرك مبكراً، أنها زوجة لفنان لا يعرف ولا يحب ولا يهتم إلا بفنه. من هنا عهدت على نفسها مسئولية تربية الأولاد والإشراف الكامل على تعليمنا.. وأبى.. فى النهاية يأخذ تقريراً مفصلاً منها عنا، هذا نجح.. هذا ذهب.. هذا عاد.. وهكذا.
قلت: لماذا لم يتجه أحد فيكم إلى التمثيل؟ رد: أبى كان له طلب واحد عندنا، وهو ألا نقترب من التمثيل.. قلت لماذا؟ قال: إشفاقاً منه علينا، هو كان يرى أن التمثيل عملية شاقة -لاحظ نحن نتحدث عن زمن لم تكن حدثت فيه التغيرات التكنولوجية فى صناعة التمثيل كالتى نراها اليوم- ومتعبة ومرهقة إلى أبعد حد، لذلك كان يقول لنا.. افعلوا ما تروه محبباً إليكم فى حياتكم العملية.. فأنا ليس لى اعتراض على أى مهنة أو دراسة تتجهون إليها، المهم هو أن تبتعدوا عن التمثيل، لذلك اتجهت أنا إلى الدراسة الأكاديمية فى علوم الإدارة والسياحة وأختى تعمل بإحدى شركات السياحة الكبرى.. والأخت الثالثة ربة منزل.. وهذه ابتعدت تماماً عن العمل.
- قلت من أقرب أصدقائه فى الوسط الفنى؟ رد: الفنان الراحل حسين رياض.. كان «عشرة» عمره.. معاً تحركا فى محراب الفن، ومعاً قدما حياتهما للمسرح.. وأنا لم أر أبى بكى إلا مرة واحدة وكانت هذه المرة عندما رحل الفنان حسين رياض وكان وقتها فى الإسكندرية يعمل فى مسرحية وحاول فريق العمل إخفاء خبر رحيل حسين رياض عنه.. لكن بالصدفة عرف قبل صعوده للمسرح.. وكان فى الدور موقف يتطلب منه البكاء.. فى هذه الليلة ظل يبكى حتى بكى معه كل من فى المسرح.. بعد العرض قلت له: ما كل هذا البكاء.. قال: كنت أبكى على صديقى، وحبيبى ورفيق رحلتى عم حسين.. الله يرحمه. وأيضاً كان من المقربين منه الفنان فاخر فاخر ومحمود المليجى وعبدالمنعم إبراهيم وتوفيق الدقن، وأمينة رزق وزكى رستم وأحمد علام وغيرهم من نجوم الزمن الجميل.
«إن صوته يساوى مليون جنيه» كان هذا رأى المخرج الأمريكى «جورج راتوف» وقال عنه الناقد الراحل عبدالفتاح البارودى فى عموده بالأخبار «للنقد فقط» لم يكن الفتى الوسيم أو الفتى المدلل ومع ذلك أوصلته قيمته الفنية إلى مستوى النجم الأول فى أى فيلم أو أى مسرحية حتى ولو كان دوره من أدوار الكومبارس.
عدت للابن وقلت: هل كان يشعر فى نهاية الرحلة أنه لم يحظ بحقه من الشهرة والنجاح؟ رد: بالعكس كان سعيداً بما قدمه، وكان راضياً بما وصل إليه، لم تكن الشهرة تعنيه، ولا جمع المال يشغله.. الذى كان فقط يحرص عليه هو فنه وكلمته التى يقولها، ويقدمها للأجيال الجديدة. وكان يظهر ذلك فى حبه لزملائه من الفنانين.. التواصل بينهم لا ينقطع والزيارات -خارج العمل- كانت مستمرة.
عام 1965 جاء ساعى البريد إلى منزل الفنان حسن البارودى وطلب منه تسلم خطاب مسجل بعلم الوصول.. سأله من أين يا ابنى هذا الخطاب؟ رد: من إدارة المسرح القومى.. تسلم الخطاب.. وودع ساعى البريد.. ووقف يفتحه.. فوجد فيه كلمات قليلة تقول له «اجلس فى بيتك».. اليوم أصبحت على المعاش! أسند الرجل ظهره للحائط خلفه.. وتحامل على نفسه.. وعاد إلى صالة منزله.. وجلس وهو يلقى بالخطاب بجواره.. ثم دار فى ذهنه مشوار حياة.. كان هذا المشوار هو المسرح.. اليوم يقولون له.. قف هنا.. لم تعد قادراً على الوقوف على خشبته.. أوشك دموعه أن تغادر عينيه.. لو أنه تماسك بعض الشىء.. وهو يقول: منذ متى كان للفنان عمر للحياة والعمل.. وعمر للرحيل والجلوس فى البيت.. الفنان.. فنان.. ما دام حياً.. الفنان ليس -كخيل الحكومة- يضرب بالنار عندما يخرج للمعاش.. الفنان عطاء متجدد، ليس مرتبطاً بعمر أو بزمن.. فى هذه اللحظة دخل عليه ابنه أشرف.. فقال له: شفت يا أشرف.. الفنان عندنا بقى زى خيل الحكومة.. نظر إليه ابنه وهو يواسيه دون أن يعلق على كلامه.. قلت للابن: هل تذكر هذا اليوم؟ رد: كان بالفعل يوماً عصيباً عليه، خاصة وهو ما زال لديه القدرة على العطاء.. سنوات مرت على هذا المشهد.. بعدها رحل الفنان حسن البارودى.. بعدما قدم للفن حياته منذ الصغر.. من أجل التمثيل ترك الدراسة فى المرحلة الثانوية وعمل فى محل طرابيش.. من أجل التمثيل ترك حبيبته.. من أجل التمثيل فقد بصره.. من أجل التمثيل عاش حسن البارودى.. وفى نهاية الرحلة مات.
.. ولكن قبل أن يموت ترك لنا كلمات كان قد ألقاها على مسامع «المواطن أبوالعلا» فى فيلم الزوجة الثانية.. قال فه فيها: «متعصلجش يا أبو العلا».. انطاع يا ابنى.. والله لما ننده على مدنة محد هيسمعنا. داحنا غلابة.. الأكابر بس همه اللى بيتسمع كلامهم.. همه اللى يأمروا وإحنا اللى بنسمع وننفذ». إحنا الغلابة.. وهمه الأكابر.. (50) سنة مرت على هذا القول.. وما زال صوت الفنان حسن البارودى يذكرنا بأن «الغلابة غلابة».. و«الأكابر.. أكابر».
وفى النهاية يبقى السؤال.. أيهما أفضل لنا أن نستمع لنصائح مبروك فى فيلم «الزوجة الثانية» ونعرف أننا «غلابة»!! ولن يسمع صوتنا أحد سواء حتى وإن تغيرت مصر من الملكية إلى الجمهورية.. أم «نعصلج» مثل أبوالعلا رغم علمنا أن العمدة «هيتزوج فاطمة» سواء رضينا أو لم نرض..؟ الحياة اختيار!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.