محافظ أسيوط يؤكد على استمرار رفع كفاءة الإضاءة وتدعيم الشوارع بمركز منفلوط    مباحثات مصرية إفريقية لتعزيز التعاون في التعليم العالي والبحث العلمي    سعر كرتونه البيض الأبيض والأحمر اليوم السبت 6ديسمبر 2025 فى المنيا    مصر تبحث مع وكالة الطاقة الذرية الاستخدامات النووية السلمية بمحطة الضبعة وملف إيران    انتهاء الفصل الدراسي الأول للصفين الأول والثاني الابتدائي 30 ديسمبر في عدة محافظات بسبب انتخابات مجلس النواب    خالد جلال يدعم منى زكي بعد مشاهدة فيلم «الست»    «الشروق» تسلط الضوء على «حياتي» لأحمد أمين تزامنا مع احتفاء معرض القاهرة للكتاب بمرور 140 عاما على ميلاده    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 6-12-2025 في محافظة الأقصر    بحضور وزير الأوقاف بدء المؤتمر العالمي لافتتاح المسابقة العالمية للقرآن الكريم في "نسختها ال32"    الرئاسة في أسبوع.. السيسي يوجه بإطلاق حزمة التسهيلات الضريبية الثانية.. يشهد افتتاح المعرض الدولي (إيديكس 2025).. يهنئ منتخب الكاراتيه.. ويؤكد الموقف المصري الثابت والداعم للقضية الفلسطينية    أسعار الخضروات اليوم السبت 6-12-2025 في الأقصر    وزير الري يستعرض موقف أعمال حماية الشواطئ المصرية    إجراءات مشددة لضبط تحديث بيانات بطاقة الرقم القومي 2025، وهذه غرامات التأخير    مصر ترحب بتجديد ولاية وكالة الأونروا ل3 سنوات    كأس العرب.. منتخب مصر يواجه الإمارات في لقاء تصحيح الأوضاع    ماذا قدم الفراعنة أمام منتخبات المجموعة السابعة قبل كأس العالم 2026    بيراميدز يسعى لمواصلة انتصاراته في الدوري على حساب بتروجت    لاعب بلجيكا السابق: صلاح يتقدم في السن.. وحصلنا على أسهل القرعات    منتخب مصر المشارك في كأس العرب يواجه الإمارات اليوم بحثا عن الانتصار الأول    مدرب نيوزيلندا يتحدث عن مواجهة مصر بكأس العالم (ريل)    مدبولي يوجه بتكثيف جهود منظومة الشكاوى الحكومية باعتبارها أحد المحاور الرئيسية    النشرة المرورية.. سيولة وانتظام بحركة السيارات في القاهرة والجيزة    فرق غوص متطوعة تصل مصرف الزوامل بالشرقية للبحث عن التماسيح (صور)    القومي للمرأة ينظم فعاليات الاجتماع التنسيقي لوحدات المرأة الآمنة بالمستشفيات الجامعية    وزير الري يتابع أعمال حماية الشواطئ المصرية للتعامل مع التأثيرات السلبية لتغير المناخ    متحف التحرير يكشف دور الجعارين عند الملوك القدماء    الموت يفجع الفنان أمير المصري    أسعار اللحوم الحمراء اليوم السبت 6 ديسمبر    أسعار البيض اليوم السبت 6 ديسمبر 2025    برعاية السيسي.. انطلاق الجلسة الافتتاحية للمسابقة العالمية للقرآن الكريم    بجوائز 13 مليون جنيه.. انطلاق المسابقة العالمية للقرآن الكريم اليوم    «الصحة» تشارك في الجلسة الافتتاحية للدورة السابعة للمجلس العربي للسكان والتنمية ببغداد    وزارة الصحة تعلن تفاصيل الإصابات التنفسية فى مؤتمر صحفى غدا    الصحة: مبادرة الكشف المبكر عن الأنيميا والسمنة والتقزم هدفها بناء جيل صحي    بيل غيتس: الابتكار والذكاء الاصطناعي أمل لإنقاذ حياة ملايين الأطفال    بعتيني ليه تشعل الساحة... تعاون عمرو مصطفى وزياد ظاظا يكتسح التريند ويهيمن على المشهد الغنائي    "قتل اختياري".. مسلسل يفتح جرحًا إنسانيًا عميقًا ويعود بقضية تهز الوجدان    أولى جلسات محاكمة عصام صاصا فى مشاجرة ملهى ليلى.. اليوم    اليوم.. أولى جلسات محاكمة المتهمين في قضية رشوة الضرائب الكبرى    استكمال محاكمة 32 متهما في قضية اللجان المالية بالتجمع.. اليوم    ميرتس يدعو لتقاسم أوروبي موحّد لمخاطر الأصول الروسية المجمدة    رئيس وزراء الهند يعلن عن اتفاقية مع روسيا ومرحلة جديدة من التعاون الاقتصادي    مروة قرعوني تمثل لبنان بلجنة تحكيم مهرجان الكويت المسرحي بدورته 25    عائلة أم كلثوم يشاهدون العرض الخاص لفيلم "الست" مع صناعه وأبطاله، شاهد ماذا قالوا (فيديو)    إخماد حريق داخل شقة سكنية فى مدينة 6 أكتوبر دون إصابات    إجراءات صارمة بعد فيديو السخرية من مدرسة الإسكندرية    مصر والإمارات على موعد مع الإثارة في كأس العرب 2025    رغم العزوف والرفض السلبي .. "وطنية الانتخابات" تخلي مسؤوليتها وعصابة الانقلاب تحملها للشعب    حفل توقيع كتاب «حوارات.. 13 سنة في رحلة مع البابا تواضروس» بالمقر البابوي    قائمة أطعمة تعزز صحتك بأوميجا 3    كأس العالم - دي لا فوينتي: ترشيح إسبانيا للفوز باللقب خطر عليها    قوات الاحتلال تعتقل عددا من الشبان الفلطسينيين خلال اقتحام بلدة بدو    كندا ترفع سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب    رويترز: تبادل إطلاق نار كثيف بين باكستان وأفغانستان في منطقة حدودية    تفاصيل مثيرة في قضية "سيدز"| محامي الضحايا يكشف ما أخفته التسجيلات المحذوفة    نتنياهو بعد غزة: محاولات السيطرة على استخبارات إسرائيل وسط أزمة سياسية وأمنية    أزمة أم مجرد ضجة!، مسئول بيطري يكشف خطورة ظهور تماسيح بمصرف الزوامل في الشرقية    ننشر آداب وسنن يفضل الالتزام بها يوم الجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أشرف حسن البارودى: عندما تسلم خطاب بلوغه سن المعاش.. قال: أنا النهارده مت
أبى.. الذى لا يعرفه أحد
نشر في الوفد يوم 17 - 09 - 2016


- جاهز يا حسن يا ابنى؟ - جاهز يا محمد أفندى.
- ده سعد باشا زغلول بنفسه، هيحضر الحفل، بيض وشنا أدامه، ده زعيم الأمة الله يرضى عنك»!
- حاضر يا أستاذ! كان هذا حوارًا دار بين محمد أفندى مدرس مادة اللغة العربية ومشرف جماعة الخطابة بمدرسة «عابدين» الثانوية، وبين الطالب حسن البارودى. نحن الآن عام 1915. السلطان حسين كامل فى قصر عابدين يملك ولا يحكم. والمندوب السامى البريطانى فى قصر الدوبارة يحكم ولا يملك. والحرب العالمية الأولى بدأت منذ شهور، والقاهرة تخضع للأحكام العرفية، والمواطن المصرى يعانى من ارتفاع الأسعار - بعد نشوب الحرب - سعر السكر وصل الثلاثة أرطال منه إلى 6 قروش صاغ. وصفيحة الجاز ب18 قرش صاغ، وكيلة القمح ب14 قرش صاغ. وصحيفة الأهرام تباع ب5 مليمات وخمسة أرغفة.
عيش بلدى بقرش صاغ، والرغيف الشامى وصل سعره إلى خمسة ملاليم. الأسعار نار.. والناس تشكو.. لكنها الحرب التى تغير الأحوال ومصائر العباد.. فى هذه الظروف تقرر مدرسة عابدين الثانوية إقامة احتفالية كبرى، يحضرها زعيم الأمة سعد باشا وتقرر إدارة المدرسة أن يلقى الطالب المفوه، وصاحب الأسلوب المميز فى الإلقاء «حسن البارودى» كلمة المدرسة - حضر سعد باشا.. بدأ الحفل.. صعد الطالب وبدأ كلمته.. الحضور صامتون ينتبهون، وسعد باشا «يهز» رأسه إعجابًا وفرحًا بهذا الفتى صاحب الصوت المميز القوى. تصفيق حاد من الحضور بعد الكلمة.. يطلب سعد باشا أن يأتى إليه هذا الطالب: أفندم.. اسمى حسن.. يرد سعد باشا.. اسمك حسن.. وصوتك حسن.. وأنا سعيد برؤيتك اليوم.. دعنى أقول لك إنك لو اشتغلت بالمحاماة عندما تكبر.. فتأكد أنك ستنجح فى كل مرافعاتك بحجة قولك، وقوة صوتك.. اتفضل يا ابنى.. ربنا يوفقك، يعود الطالب الذى حاز على ثقة زعيم الأمة إلى بيته، وهو طائر من فوق الأرض من شدة فرحه، وأثناء عودته لمنزله، يحدث نفسه قائلاً: سعد باشا يرانى محامياً.. لكنى أرانى -أو أنا أريد أن أكون- ممثلًا، وفى النهاية الممثل يقول كلمة.. والمحامى يقول كلمة.. والهدف من وراء الكلام هو الوصول إلى كلمة الحق والعدل، فلتكن كلمتى بحثًا عن الحق والعدل على خشبة المسرح وليس فى قاعة المحكمة.. وبالفعل تحقق له ما أراد.
فى هذه الحلقة من سلسلة حوارات «أبى.. الذى لا يعرفه أحد».. جاء على ذهنى الفنان حسن البارودى صاحب الدور المميز فى فيلم «الزوجة الثانية» الذى أرخ فيه للشخصية التى تستعمل سلاح «النفاق» السياسى تحت عباءة الدين مستخدماً شعار المرحلة -وكل مرحلة- «قال الله.. وقال الرسول» ليصل إلى هدفه.. والهدف عنده -كما هو فى أى عصر- هو إرضاء السلطة سواء كانت على حق أو على باطل. اتصلت بالابن د. أشرف حسن البارودى، وهو أستاذ جامعى يدرس علم السياحة والإدارة. أهلاً وسهلاً.. هكذا جاء رده عبر الهاتف. الصوت قطعة من حنجرة أبيه، نفس النبرات والوقفات والسكنات، والطريقة والأسلوب، اتفقنا على اللقاء، جلسنا سوياً فى اللحظة والمكان الذى توعدنا عليه. شخصيته تحمل الثقافة فى نبرات الصوت، والملامح منقولة من ملامح الأب، ومن الواضح اهتمامه بملبسه وشكله وهيئته، فهو -بحكم عمله كأستاذ جامعى- يدرك أنه عليه أن يكون قدوة فى الجوهر والشكل أمام المجمع. اتفضل يا أستاذ هات ما عندك، قلت: تحب تشرب إيه؟ رد: أنت ضيفى.. قلت شاى بالنعناع، دقائق وجاء لنا «الجرسون» وعلى يده عصير الليمون والشاى.. وبدأنا الكلام.
أبى.. كان رجلاً محباً للحياة.. طيب القلب يعشق التمثيل، ويرى أن الفن رسالة عظيمة هدفها إسعاد البشر، منذ نعومة أظافره، وهو يبحث عن ذاته التى يعرف أنها لن تعيش ولن تدوم إلا على خشبة المسرح، ففى المرحلة التعليمية الأولى فى حياته وهو يبحث عن ذاته، ويثقف نفسه، ويتعلم ويتقن اللغتين العربية والإنجليزية، لأنه كان يجهز نفسه لمشواره القادم، مشوار التمثيل، ولقد نجح فيما سعى إليه، أتقن اللغة الإنجليزية واللغة العربية التى كان فيها ذا لسان فصيح، وأيضاً يمتلك حجة القول، والمخزون الثقافى الذى ساعده فيما بعد عندما عمل بالفن خاصة الوقوف على خشبة المسرح.
ولد حسن البارودى فى 19 نوفمبر سنة 1898 فى حى الحلمية بالقاهرة. بدأ حياته الفنية هاوياً، ثم التحق بفرقة كونها حافظ نجيب عام 1902، ثم انتقل إلى فرقة عزيز عيد 1922 وبعدها انتقل مع فرقة جورج أبيض، وعينه يوسف وهبى فى فرقته عام 1924 بمرتب 12 جنيهاً، ولم يكن تعيينه فى الفرقة ممثلاً، بل ملقن، واستمر ستة شهور حتى تصادف وغاب أحد أفراد الفرقة فقام فى اللحظة الأخيرة بأداء دوره. وكانت هذه نقطة انطلاقه فرفع يوسف وهبى راتبه إلى 25 جنيهاً ثم انضم للمسرح القومى براتب 16 جنيهاً، وظل بالمسرح القومى حتى رحيله، حصل على وسام الفنون عام 1962 وكرمته الدولة فى عيد العلم، تزوج مرتين، الأولى من الفنانة رفيعة الشال وله منها ابنة اسمها أميرة، ثم الزوجة الثانية من خارج الوسط الفنى وله منها ثلاثة أولاد (انتصار - أشرف - أمينة).
فى نهاية مشوار حياته سُئل فى حديث لمجلة الكواكب عدد أكتوبر 1966 ماذا لو عادت بك الأيام.. ماذا كنت تحب أن تكون؟ رد: ممثل مسرحى..! هذا الرد يؤكد عشق هذا الرجل للمسرح.. هذا العشق الذى جعله يضحى بحبه الأول فى الحياة من أجل عيون المسرح.. عن ذلك يقول لمجلة الكواكب (نفس العدد): لقد أعجبت بى فتاة وصارحتنى بإعجابها.. نشأت علاقة حب بيننا دامت سبع سنوات، وكنت أتلق منها رسالة كل صباح، وأخيراً -ومن حبها لى- طلبت وعرضت علىّ الزواج، فوافقت بشرط أن أترك التمثيل.. فتركتها هى! التضحية يصعب تكرارها!
عدت للابن د. أشرف حسن البارودى.. وقلت له: إلى هذا الحد كان حبه للمسرح؟ قال: أبى كان بالفعل المسرح كل حياته.. وأنا أذكر أنه حتى فى أيامه الأخيرة، التى وهن فيها البصر، والتى كان يجد فيها صعوبة فى القراءة والحفظ، كان يصر على الوقوف على خشبة المسرح، ويؤدى دوره رغم صعوبة ذلك عليه بسبب ضعف البصر. لكن حب المسرح كان عنده أقوى حتى من حبه لنفسه وصحته. قلت له: هناك رواية تقول إنه عندما ضعف بصره واحتاج أن يسافر إلى الخارج رفضت وزارة الثقافة وقتها بسبب عدم وجود ميزانية.. فقام بالاتصال بسيدة الغناء أم كلثوم وطلب منها التدخل لدى الدولة، حتى يتمكن من السفر لإجراء العملية.. ما صحة هذه الرواية؟ قال: صحيحة 100٪، عندما قرر الأطباء ضرورة السفر، لم توافق وزارة الثقافة.. هنا قرر أبى أن يتصل بالسيدة أم كلثوم.. وكان هو من رواد صالونها الثقافى الذى كانت تقيمه فى بيتها، وكانت تقول إن صوته تغنى على المسرح ولا يتكلم» وقتها بالفعل أجرت اتصالاتها على أعلى مستويات سياسية، وفى أقل من 24 ساعة كان كل شىء معداً ومرتباً لسفره، وبالفعل سافر وأجرى العملية وعاد بعدها للوطن.. وأيام بعد أيام مرت عليه.. والبصر يعانده.. وصل عناده معه إلى أن غاب تماماً فى آخر أيامه.
من المسرح الذى ظل يقف عليه، حتى فقد بصره إلى السينما التى قدم فيها عشرات الأفلام ذات المضمون الهادف والرسالة الصحيحة.. تركت الابن يسترجع ذكرياته مع أبيه قليلاً.. واتجهت إلى فيلم يُعد علامة من علامات السينما المصرية.. فيلم الزوجة الثانية من إخراج صلاح أبوسيف، فى هذا الفيلم يقدم حسن البارودى شخصية «مبروك».. ذلك المعمم الذى ينافق «حضرة العمدة» الذى لعب دوره النجم الراحل صلاح منصور أمام الراحل شكرى سرحان، والنجمة سعاد حسنى، وتبلغ ذرة النفاق فى هذا المشهد.
- «أصل العمدة عايز يناسبك»؟
- يناسبنى أنا.. فى مين؟ فى عائشة بنتى؟
- فاطمة؟!
- فاطمة مرتى.
- طلقها!
- آه.. اتجوز غيرها.. البلد مليانة بنات حلوة.
- اعقل يا أبوالعلا
- أعقل.. هو أنتم خليتم فىّ عقل.
- فى شرع مين؟
- يرد مبروك قائلاً: «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.. وأولى الأمر منكم» ويشير إلى العمدة.. هذه الكلمات البسيطة التى ألقى بها إلينا حسن البارودى فى الفيلم، أراد من خلالها أن يقول إن آفة مجتمعاتنا هى النفاق، وبيننا من ينافق باسم الدين، ومن ينافق باسم الوطنية، ومن ينافق باسم الإنسانية، وبيننا من ينافق من أجل النفاق دون أن يطلب منه أحد أن ينافق، فيما يبدو «النفاق» -أو هكذا أتصور- يعد ميراث نتوارثه عبر أجيال، ليخدم أنظمة الحكم، سواء كانت أنظمة ملكية أو أنظمة رئاسية أو تحت عباءة دينية.. لقد أكد لنا الفنان حسن البارودى أن «النفاق» سلعة صالحة لكل زمان، وفى كل مكان ومع أى حكام. المنافق يظل شعاره «أنا أنافق إذن أنا موجود»! وتلك هى المأساة!
عدت للابن الذى فرغ لتوه من فنجان شاى بعد عصير الليمون الذى طلبه فى بداية اللقاء.. وقلت له: كيف كان أسلوبه فى تربية أولاده؟ رد: الذى ربى وعلم هى أمى رحمة الله عليها.. كانت هذه السيدة تدرك مبكراً، أنها زوجة لفنان لا يعرف ولا يحب ولا يهتم إلا بفنه. من هنا عهدت على نفسها مسئولية تربية الأولاد والإشراف الكامل على تعليمنا.. وأبى.. فى النهاية يأخذ تقريراً مفصلاً منها عنا، هذا نجح.. هذا ذهب.. هذا عاد.. وهكذا.
قلت: لماذا لم يتجه أحد فيكم إلى التمثيل؟ رد: أبى كان له طلب واحد عندنا، وهو ألا نقترب من التمثيل.. قلت لماذا؟ قال: إشفاقاً منه علينا، هو كان يرى أن التمثيل عملية شاقة -لاحظ نحن نتحدث عن زمن لم تكن حدثت فيه التغيرات التكنولوجية فى صناعة التمثيل كالتى نراها اليوم- ومتعبة ومرهقة إلى أبعد حد، لذلك كان يقول لنا.. افعلوا ما تروه محبباً إليكم فى حياتكم العملية.. فأنا ليس لى اعتراض على أى مهنة أو دراسة تتجهون إليها، المهم هو أن تبتعدوا عن التمثيل، لذلك اتجهت أنا إلى الدراسة الأكاديمية فى علوم الإدارة والسياحة وأختى تعمل بإحدى شركات السياحة الكبرى.. والأخت الثالثة ربة منزل.. وهذه ابتعدت تماماً عن العمل.
- قلت من أقرب أصدقائه فى الوسط الفنى؟ رد: الفنان الراحل حسين رياض.. كان «عشرة» عمره.. معاً تحركا فى محراب الفن، ومعاً قدما حياتهما للمسرح.. وأنا لم أر أبى بكى إلا مرة واحدة وكانت هذه المرة عندما رحل الفنان حسين رياض وكان وقتها فى الإسكندرية يعمل فى مسرحية وحاول فريق العمل إخفاء خبر رحيل حسين رياض عنه.. لكن بالصدفة عرف قبل صعوده للمسرح.. وكان فى الدور موقف يتطلب منه البكاء.. فى هذه الليلة ظل يبكى حتى بكى معه كل من فى المسرح.. بعد العرض قلت له: ما كل هذا البكاء.. قال: كنت أبكى على صديقى، وحبيبى ورفيق رحلتى عم حسين.. الله يرحمه. وأيضاً كان من المقربين منه الفنان فاخر فاخر ومحمود المليجى وعبدالمنعم إبراهيم وتوفيق الدقن، وأمينة رزق وزكى رستم وأحمد علام وغيرهم من نجوم الزمن الجميل.
«إن صوته يساوى مليون جنيه» كان هذا رأى المخرج الأمريكى «جورج راتوف» وقال عنه الناقد الراحل عبدالفتاح البارودى فى عموده بالأخبار «للنقد فقط» لم يكن الفتى الوسيم أو الفتى المدلل ومع ذلك أوصلته قيمته الفنية إلى مستوى النجم الأول فى أى فيلم أو أى مسرحية حتى ولو كان دوره من أدوار الكومبارس.
عدت للابن وقلت: هل كان يشعر فى نهاية الرحلة أنه لم يحظ بحقه من الشهرة والنجاح؟ رد: بالعكس كان سعيداً بما قدمه، وكان راضياً بما وصل إليه، لم تكن الشهرة تعنيه، ولا جمع المال يشغله.. الذى كان فقط يحرص عليه هو فنه وكلمته التى يقولها، ويقدمها للأجيال الجديدة. وكان يظهر ذلك فى حبه لزملائه من الفنانين.. التواصل بينهم لا ينقطع والزيارات -خارج العمل- كانت مستمرة.
عام 1965 جاء ساعى البريد إلى منزل الفنان حسن البارودى وطلب منه تسلم خطاب مسجل بعلم الوصول.. سأله من أين يا ابنى هذا الخطاب؟ رد: من إدارة المسرح القومى.. تسلم الخطاب.. وودع ساعى البريد.. ووقف يفتحه.. فوجد فيه كلمات قليلة تقول له «اجلس فى بيتك».. اليوم أصبحت على المعاش! أسند الرجل ظهره للحائط خلفه.. وتحامل على نفسه.. وعاد إلى صالة منزله.. وجلس وهو يلقى بالخطاب بجواره.. ثم دار فى ذهنه مشوار حياة.. كان هذا المشوار هو المسرح.. اليوم يقولون له.. قف هنا.. لم تعد قادراً على الوقوف على خشبته.. أوشك دموعه أن تغادر عينيه.. لو أنه تماسك بعض الشىء.. وهو يقول: منذ متى كان للفنان عمر للحياة والعمل.. وعمر للرحيل والجلوس فى البيت.. الفنان.. فنان.. ما دام حياً.. الفنان ليس -كخيل الحكومة- يضرب بالنار عندما يخرج للمعاش.. الفنان عطاء متجدد، ليس مرتبطاً بعمر أو بزمن.. فى هذه اللحظة دخل عليه ابنه أشرف.. فقال له: شفت يا أشرف.. الفنان عندنا بقى زى خيل الحكومة.. نظر إليه ابنه وهو يواسيه دون أن يعلق على كلامه.. قلت للابن: هل تذكر هذا اليوم؟ رد: كان بالفعل يوماً عصيباً عليه، خاصة وهو ما زال لديه القدرة على العطاء.. سنوات مرت على هذا المشهد.. بعدها رحل الفنان حسن البارودى.. بعدما قدم للفن حياته منذ الصغر.. من أجل التمثيل ترك الدراسة فى المرحلة الثانوية وعمل فى محل طرابيش.. من أجل التمثيل ترك حبيبته.. من أجل التمثيل فقد بصره.. من أجل التمثيل عاش حسن البارودى.. وفى نهاية الرحلة مات.
.. ولكن قبل أن يموت ترك لنا كلمات كان قد ألقاها على مسامع «المواطن أبوالعلا» فى فيلم الزوجة الثانية.. قال فه فيها: «متعصلجش يا أبو العلا».. انطاع يا ابنى.. والله لما ننده على مدنة محد هيسمعنا. داحنا غلابة.. الأكابر بس همه اللى بيتسمع كلامهم.. همه اللى يأمروا وإحنا اللى بنسمع وننفذ». إحنا الغلابة.. وهمه الأكابر.. (50) سنة مرت على هذا القول.. وما زال صوت الفنان حسن البارودى يذكرنا بأن «الغلابة غلابة».. و«الأكابر.. أكابر».
وفى النهاية يبقى السؤال.. أيهما أفضل لنا أن نستمع لنصائح مبروك فى فيلم «الزوجة الثانية» ونعرف أننا «غلابة»!! ولن يسمع صوتنا أحد سواء حتى وإن تغيرت مصر من الملكية إلى الجمهورية.. أم «نعصلج» مثل أبوالعلا رغم علمنا أن العمدة «هيتزوج فاطمة» سواء رضينا أو لم نرض..؟ الحياة اختيار!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.