الحمد لله أن لم يعد لدينا ما نطلبه فى دنيانا، خاصة وقد وهن العظم منا واشتعل الرأس شيبا، إلا شهادة حق للتاريخ، تؤكد أن ثقافة «المقاومة» كان صوتها متوافرا والحمد لله، قبل قيام ثورة يناير، بما يصل إلى ست وعشرين عاما، وكان غير المأسوف عليه قد وصل فى عمر حكمه إلى ثلاث سنوات، حيث وصفت سنواته الأولى بأنها سنوات بيضاء، اتسم فيها بالطهر، حيث هيأ الله سبحانه وتعالى لمثلنا، ومن المؤكد أن هناك غيرنا الكثير، أن نبصر البذور الجنينية للقهر والاستبداد والفساد، فى سنوات الطهر والنقاء المزعومة. ففى موسم انتخابات مجلس الشعب عام 1984، نشر الأهرام تقريرا عن لقاء المخلوع بأعضاء وقيادات الحزب المنحل، عبر فيه عن جملة من الآراء والأفكار التى استفزتنى بشدة، فإذا بى أهرع إلى أوراقى لأكتب نقدا لها، بعنوان (عفوا سيادة الرئيس).. لم أدر إلى أى جهة يمكن أن أتوجه إليها لنشر المقال، حيث لم تكن موجة النقد قد وصلت إلى مقام الرئاسة، وهكذا، كان المقال مجرد «تنفيس» عما غلت به مشاعرى، على هذه التصريحات الموغلة فى الباطل.. لكن الظروف ما لبثت أن أتاحت لى وصول مقالى إلى جريدة الأهالى، عبر الراحل الدكتور عبد العظيم أنيس، فإذا بالجريدة تضع عنوان المقال «مانشيت» رئيسيا، أعلى الصفحة الأولى.. فقد كان مبارك قد ذكر أن «الجماهير هى صاحبة الحزب الوطنى الديمقراطى الحقيقية وهى التى تلتف حوله»!! عبرت عن سخريتى بهذا القول، مشيرا إلى أن السادات كان قد أعلن عن تشكيل هذا الحزب، وهو على قمة السلطة «ومن المعروف أن الذين يلتفون حول حزب تتم إقامته عن طريق رئيس الدولة، أثناء توليه منصبه، من أى نوع هم.. فالقلة تكون من المخلصين، والكثرة مع الأسف تكون من طوابير المرتزقة والمنافقين، وأصحاب المصالح وطلاب المناصب، وكافة فئات المنتفعين». وفى عدد تال من الأهالى نشرت لى مقالا آخر، فى الفترة نفسها بعنوان (لماذا نطالب بتحييد الرئيس؟)، اتخذت مما انتشر على صفحات الصحف، وعبر الإذاعات ،وشاشات التليفزيون، من تغطية لزيارات لمبارك، إلى بعض الأماكن، داعيا من خلالها للحزب المنحل، وشرحت: كيف أن طبيعة الثقافة الاجتماعية فى بلادنا – حتى ذلك الوقت – تكاد أن تقوم على تلك العبارة الفلكورية الموغلة فى السخرية التى تقول «إن زرت بلد، ولقيت أهلها بيعبدوا العجل.. حِشّ، وارمى له»، وكيف أن هذا يعنى تسخير جهاز الدولة لخدمة حزب، مما يسد السبل أمام الأحزاب الأخرى، فى تكافؤ الفرص! وتساءلت فى المقال نفسه».. ومن الناحية التنفيذية، كيف يكون الكم الأكبر من قيادات العمل التنفيذى من الحزب الوطنى، ونتصور إمكان أن تسير الأمور موضوعية وطبيعية؟ فالوزراء والمحافظون ورؤساء الجامعات وغالبية العمداء، ورؤساء المواقع والقطاعات الاقتصادية، بحكم مناصبهم وبحكم القانون، يملكون «الفعل»، وبالتالى فكأنهم هنا يسخرون ميزانية الدولة والجهاز الحكومى لخدمة ( الحزب)، أما أحزاب المعارضة فهى لا تملك مليما من ميزانية الدولة، ولا تسيطر على مواقع العمل». ثم تنشر الأهالى لنا فى 18/9/1985 مقالا آخر بعنون (آخر من يعلم)، انتقدت فيه قول مبارك فى خطاب أول مايو 1985، حيث عاب على البعض أنهم يكتبون وهم لا يعلمون الحقائق كاملة عما يكتبون، وبالتالى يصدرون أحكاما خاطئة نتيجة لذلك، حيث تساءلت: «وإذا كان قول سيادته صوابا من غير شك، إلا أن السؤال الذى يطرح نفسه هو : ومن الذى يتحمل المسئولية هنا إذا كانت القيادة السياسية نفسها هى التى لا تتيح كل الحقائق للناس، ولا تسمح منها إلا بالقدر الذى تريده هى لا بالقدر الذى يحتاجه الكاتب، أو القدر الذى يجب ان يتاح للناس معرفته؟». ونشرت الأهالى لنا كذلك فى عددها الصادر فى 20/11/1985 مقالا ناقدا لخطاب ألقاه مبارك فى افتتاح دورة مجلسى الشعب والشورى، حيث تحفظت على ما لاحظته من نزعة «لفظية»، و«بلاغية» على الخطاب، حيث حفل بالعديد من العبارات ذات الرنين اللفظى العالى، مثل «لن تخضع مصر لأعتى الجبابرة.. ولو كان جالسا على عرش سليمان الحكيم» و «ولو ملك كنوز الأرض ومفاتيح الجاه والسلطان»!! ونبهت فى المقال نفسه، إلى أن مبارك، وهو يسوق دعاويه عن «ديمقراطية» حكمه، نجده يلحقها أيضا وبإلحاح واضح باتهامات صريحة وإدانات صارخة لأصحاب الآراء المخالفة بأنها محاولات « قميئة» و «عرجاء» و «خيالات» تنطلق من «نفوس مريضة»، فضلا عن وصف هذه الآراء دائما بأن «حاقدة» وأنها «عملية»، و«تقبض من الخارج»! وفى عددها الصادر فى 4/3/1986، نشرت جريدة الشعب التى كان يصدرها حزب العمل مقالا بعنوان (المايسترو)، تركز على نمط الحكم القائم فى مصر، وكيف أن من يقف على رأس النظام هو أشبه بالمايسترو، حيث تتعلق أيدى العازفين بحركة يده، يمينا ويسارا، إلى أعلى وإلى أسفل.. وهكذا، وأن عازفا واحدا لو حاول أن يعزف نغمة مخالفة سوف يُعتبر عزفه « نشازا»، حتى لو كان اللحن المعزوف عن طريق المايسترو أغنية شعبية، وكانت نغمة المخالف، مقتبسة من سيمفونية لبيتهوفن..لابد أن يُنظر إليه باعتباره، نشازا! وأبرز ما جاء به المقال « فى مثل هذا التنظيم، لابد أن تفرز قيم واتجاهات، تعلى من شأن السلطة والحكم والقوة والجاه، ويسود منطق التسلق والوصولية.. فى التنظيم الهرمى، لا تستطيع أن تصل إلى أعلى إلا إذا وضعت قدميك على آخر يكون أسفل منك، وإلا إذا جعلت رأسك مطية لمن هو أعلى منك». ثم تجيء الخاتمة، والتى هى دعوة صريحة إلى الثورة، على الشكل الهرمى للنظم المستبدة: «لكنك تستطيع، وسط أكداس السلبيات والعيوب التى تكمن فى مثل هذا التركيب، أن تلمح خاصية، لو وعاها الجميع لتغير شكل التركيب، وهذه الخاصية، تكمن فى أنه بدون الناس (اللى تحت)، لم يكن (اللى فوق)، ومن ثم فمن الذى يجب أن يحكم ويسيطر ويوجه؟».