حسين سرى المصدر الوحيد للواقعة الملفقة نقلها لمحكمة الثورة من خلف ستارة كريم ثابت فى مذكراته: «النحاس باشا» طلب من الملك أن يعتبره مثل والده لا يمل ذوو التوجهات الناصرية من الافتراء، وتسويقه، والترويج له يميناً ويساراً، مواصلين جريمة تزوير التاريخ لخدمة معبودهم الثمين، وإضفاء البطولة والعظمة عليه وتشوية كُل زعيم آخر. آخر السقطات استقبلها الجمهور قبل يومين فى برنامج إذاعي على شبكة نجوم إف إم، يُقدمه الإعلامى يوسف الحُسينى، حيث استضاف يوسف القعيد، الكاتب والأديب، وعضو مجلس النواب، الذى تحدث عن حكايات المثقفين فى عهد «عبدالناصر» مُمجداً ومُعظماً ومشيداً ومزوراً التاريخ، باعتبار العصر هو عصر الحُريات الأول. وكُل ذلك اعتاده الناس من صوت ناصري أحادي لا يرى سوى زمن ناصر، ولا يعرف إلا أيامه، لكن ما كان صادماً هو أن يكرر يوسف القعيد سرد أكذوبة ثبت افتراؤها لوصم مصطفى باشا النحاس، زعيم الوفد بالوهن والخضوع للملك «فاروق». قال يوسف القعيد لجمهور الإذاعة، إن مصطفى النحاس قبّل يد الملك «فاروق» فى مشهد عام، وهو تشويه متعمد لصفحات نضال السياسى الأنبل فى تاريخ مصر. إن يوسف القعيد، باعتباره من جمهور المُثقفين، يعلم تماماً أصل تلك الفرية التى رددها البعض بسطحية، ودون تحقق لإيجاد مُبرر لمنح ثوار يوليو الحق فى اضطهاد زعماء الوفد، وقمع التعددية الحزبية. لقد طُرحت القصة المُلفقة لأول مرة فى أقوال حسين باشا سرى، رئيس وزراء مصر الأسبق خلال شهادته فى محاكمة الثورة، والمُدهش أنه يقول إن ذلك تم فى صالون القصر الملكى، وإنه الوحيد الذى شاهده؛ لأنه كان يختبئ خلف الستارة، وهو أمر مُستحيل عملياً فى ظل وجود رجال القصر وحاشية فاروق وما أكثرها. ويؤرخ حسين باشا سرى لتلك القُبلة الملفقة فى سنة 1950، عندما تم تشكيل حكومة الوفد الأخيرة فى الوقت الذى كان عُمر النحاس باشا فيه يتجاوز السبعين عاماً، بينما كان عُمر فاروق ثلاثين عاماً، وهو ما يعنى عملياً استحالة أن يقوم سياسى فى عُمر والد الملك بتقبيل يده، خاصة أنه لم يفعلها فى حفل تنصيب الملك عندما كان النحاس رئيساً للوزراء سنة 1937. فضلاً عن ذلك، فإن مواقف النحاس والملك فاروق كانت دائماً مُتعارضة؛ لأن الوفد وزعيمه مثلا السُلطة الجامحة والمقيدة لتطلعات الملك واستبداده واعتداءاته على الدستور. وربما من أبرز مواقف مصطفى النحاس فى التصدى لتحويل الدين كأداة لتحقيق أهداف سياسية موقفه الرافض لتنصيب الملك فاروق فى احتفال دينى وقوله إنه ليس أحرص على الإسلام منه، لكن الإسلام ليس به سلطة روحية. ويحكى كريم ثابت فى مُذكراته، أن الملك فاروق كان يكره النحاس باشا بشدة؛ لأنه قال له فى أول لقاء بينهما عقب وفاة الملك فؤاد عبارة جرحت كبرياءه كملك وهى: عليك أن تعتبرنى من الآن وصاعداً بمثابة والدك تماماً، فهل قائل مثل هذه العبارة يُقبل يد الملك؟ والمعروف أن حسين سرى، المصدر الوحيد للحكاية المُلفقة، كان يكن كراهية شديدة لحزب الوفد وزعيمه؛ لأنه كان دائماً البديل الشعبى له، فقد خلفت حكومة الوفد حكومته فى فبراير 1942، كما خلفت حكومته سنة 1950، وهو ما كان يدفعه إلى التقول على مصطفى باشا النحاس والتشنيع عليه. فضلاً عن ذلك، فإن الظروف التى روج فيها حسين سرى لتلك الواقعة كانت ظروفاً استثنائية، حيث جرت فى ظل محاكمات الثورة التى حلت فيها الكوميديا محل الجد، ووصل الأمر إلى قيام هيئة المحكمة بتوجيه أسئلة للمتهمين والشهود حول العلاقات النسائية وقصص الغرام. ولم يكُن من بد للراحل محمد حسنين هيكل أن يعيد نشر الحكاية فى بعض كُتبه باعتبارها واقعة حقيقية. والمؤسف أن يكرر يوسف القعيد ذلك التوجه، فى زمن تطغى فيه الأكاذيب وتروج فيه المفتريات، وتختلط الرؤى، ويغدو الحق باطلاً، وينقلب الظلم إلى فعل خير.