يواصل الغزالى على ربط المعرفة والتوحيد وأن هذه العقيدة هى لب التوحيد: «كل قلب هو بالفطرة صالح لمعرفة الحقائق لأنه أمر ربانى شريف فارق سائر جواهر العالم بهذه الخاصية والشرف وإليه الإشارة فى قوله عز وجل: (إنا عرضنا الأمانة...) إشارة إلى أن له خاصية تميز بها عن السموات والأرض والجبال وصار مطبقاً لحمل أمانة الله تعالى وتلك الأمانة هى المعرفة والتوحيد، ويرجح الراغب الأصفهانى العقل إذ به تحصل معرفة التوحيد وتجرى العدالة وتعلم حروف النهجى وكل ما فى طوق البشر تعلمه، وفعل ما فى طوقهم من الجميل وبالعقل فضل على كثير من خلقه، مفردات القرآن. 6 - أما أبوحيان الأندلسى، له رأى شمولى فى الأمانة: كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهى وشأن دين ودنيا، وقد وافقه على هذا التعميم كل من القرطبى والطبرى والنسفى والشوكانى والألوسى. 7 - وقيل إن الله لما خلق هذه الأجرام، خلق فيها فهماً وقال لها: إنى فرضت فريضة وخلفت جنة لما أطاعنى فيها، وناراً لمن عصانى فيها، فقلن نحن مسخرات لما خلقتنا لا نحتمل فريضة ولا نبغى ثواباً ولا عقاباً، ولما خلق آدم عرض عليه ذلك فاحتمله وكان ظلوماً لنفسه جهولاً بوخامة عاقبته، الألوسى ص 22 ص 98. 8 - ومن أقوال المتأخرين فى تفسير الأمانة، قول الشيخ طنطاوى جوهرى يقول: «إن الأمانة كل ما أوتمنتم عليه من قول أو عمل أو مال أو علم، وبالجملة كل ما يكون عند الإنسان من النعم التى تفيد نفسه وغيره، وإن الخطاب موجه إلى الناس عامة وإلى الحكام وولاة الأمور. ويؤكد العقاد هذا المعنى فى معرض استشهاده للآية: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون)، يقول: فهى تشمل كل ما يرعاه الإنسان من عهد وذمة، وهذا هو معنى الأمانات فى سورة الأنفال، وعلى هذا المعنى..إجمالاً يفهم كل تبليغ خوطب به الناس عامة وإن تنزلت هذه الآراء على تنوعها واختلافها فى تعريف وتفسير مدلول الأمانة سواء الجانب المادى فى المعاملات المالية من ديون وودائع، أو ما هو خاص بأمانة الجوارح وحفظها من كل سوء بأن نعرضها لتعذيب أو قتل أو امتهان أو بيع، فإساءة استخدام جوارحنا فى أى صورة من صور الإساءة أو سوء الاستخدام يعتبر امتهاناً لما ائتمننا الله عليه، ولهذا فالإسلام يحرم الانتحار، أو التجارة والتكسب ببعض أجزاء السم صيانة لهذه الأمانة - أمانة الجوارح وتعظيماً لإنسانية الإنسان، وأن الإقبال على ما ظهر منها وما بطن لهو إساءة وخيانة لأمانة الجوارح وشدد الله على ارتكاب الرذائل تكريماً للإنسان وصيانة له. وأما ما جاء فى تفسير الأمانة بأنه العقل فهو يتسق مع الأقوال السابقة، لأن الله كرم الإنسان به على سائر المخلوقات وبواسطته استطاع أن يهيمن على البر والبحر، ويؤكد «العقاد» أهمية العقل ومسئوليته، فيقول: «... وعنده أمانة العقل التى تهديه إلى عملها.. وما من كائن غير الكائن العاقل يوصف بالظلم والجهل من يصبح أن يوصف بالعدل والمعرفة، ومن يصح أن يسأل عن فعل يريده فى الحالين». وأن الخائن للأمانة يكون شأنه شأن البهائم، وهذا وصف من الله: «أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً». وما هو عذر الإنسان فى التقصير؟!، وقد خلقه الله وهيأه بفطرته لحملها، ومنحه العقل والشرع لكى يضىء بهما طريق الحق، وما يلبق بأمانات وإنسانيته ويأخذ على عاتقه المسئولية التى هى من مقتضيات الخلافة من حق التصرف فى أمور الدنى والدنيا دون جوراً وظلم، وأن يتذكر الإنسان أن هذه الأمانة ستكون شاهدة عليه يوم القيامة: «إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً»، فأمانة الجوارح ودورها فى مساءلة الإنسان ومسئوليته عنها فى كيفية استخدامها ما جاء فى الحديث: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه؟ وعن عمله فيما عمل؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ وعن جسمه فيما أفناه؟»، رواه الترمذى. فأمانة إنسانية الإنسان وتكريمه مرهوناً بتمسكه بالفضائل والقيم الحميدة، والبعد عن كل ما يتنافى مع كرامته، فارتفع الإسلام بالإنسان إلى أرقى صورة وأسمى بداية وأعظم وظيفة حتى يكون أهلاً لشرف الخلافة، وحديثنا غداً سوف ينصب على المسئولية التى تقتضى الإرادة الحرة، وإلى الغد إن شاء الله.