كانت له ملامح نبوغ مبكر تراه العين فلا تخطئه، تكسو ملامح وجهه آيات الرضا والخشية والوقار، له وجه ممسوح مستطيل يميل إلى السمرة فى وجنتيه احمرار ينم عن قوة وعافيه وفى عينيه خشوع دائم ودامع وكأنما خلقتا لينظر بهما إلى نفسه لا إلى الناس وشفتان غليظتان كأنهما خلقتا لتوقير آيات الوحى، كان طويل العنق عريض المنكبين قوى الساعدين قليل الكلام دائم الصمت إلا من مراجعة القرآن الكريم، له صوت واضح مميز قوى النبرات له عذوبة وتطريب تتغلب فيه نغمة الحزن على الفرح تلك صفاته الحسية التى وراها التراب ولا تزال قائمة بمعانيها سابحة بجلالها إلى يوم القيمة. كانت طبقات صوت الشيخ محمد صديق المنشاوى نادرة تنسجم مع الآيات وهو يعلو ويهبط، ويتعرج ويتموج ويخوض بحاراً وانهاراً من المقامات، يكسوها الحزن أحياناً ويملأها الفرح مراراً، يغطيها الوقار والهيبة والجلال والعظمة، كان يقرأ وكأن الوحى يهبط سلسلاً من السماء ينجذب إليه المسلم وغير المسلم وتصغى إليه الأسماع والأفئدة ويتجاوب مع صداه الزمان والمكان. ولد فى بيت علم وفضل فى بلدة (المنفشأة) من أعمال مديرية سوهاج فى 20 يناير 1920 اعتنى به والده هو وشقيقه الأكبر أحمد وقام والدهما بتحفيظهما القرآن ثم ألحقهما بالشيخ محمد أبو العلا فتعلما أحكام التجويد ثم ألحقهما بالشيخ محمد السعودى ليتعلما علم القراءات فستأجرا لهما مسكناً بالقاهرة ويزورهما بين الحين والآخر حتى أتما إتقان القرآن حفظاً وتجويداً وتفسيراً، وكان الشقيقان متحابين لا يكاد ينفصل أحدهما عن الآخر إلى أن رحل أحمد إثر حادث أليم فترك ذلك حزناً دفيناً فى قلب شقيقه محمد وترك الحزن بصمته على صوت الشيخ محمد فى القراءة حتى استيأس كل من أراد تقليده فليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة كما يقول المثل . طلب من الشيخ محمد صديق المنشاوى التقدم للإذاعة فرفض كما رفض أخيه من قبل إلى أن كانت سنة 1953 فى شهر رمضان المبارك وكانت ليلة مباركة حيث انتقلت الإذاعة إليه بعد أن سمعت عنه وكانت الإذاعة فى ذاك الوقت فتية عفية تجوب الكفور والنجوع للبحث عن مواهب جديدة فرصدت الشيخ وهو يقرأ فى إحدى قرى الصعيد فسجلت له ثم دعته ليكون ضمن القراء المعتمدين إلا أنه رفض بشدة إلى أن أقنعه أحد الوجهاء من صعيد مصر فتعاقد مع الإذاعة ومنذ ذلك التاريخ وصوت الشيخ يعبر الأفاق ليدخل كل قطر وكل مدينة وكل قرية وكل بيت لينعم المسلمون بصوت الوحى على مدار الليل والنهار.. يقول الدكتور عمر المنشاوى ابن الشيخ محمد وهو أستاذ بكلية العلوم بجامعة الأزهر: كان أبى رحمه الله كثير البكاء من خشية الله خاصة مع نفسه أسس مسجده ثم ابتنى فوقه مسكننا الذى نعيش فيه فى مصر الجديدة وأطلق عليه مسجد الشيخ صديق المنشاوى براً بوالده وهو على قيد الحياة وكان أغلب وقته يقضيه فى المسجد يؤم المصلين ويتلو آيات الله آناء الليل وأطراف النهار ولا يترك المسجد إلا إذا كان مدعواً فى حفلة أو مأتم، فكان أبى رحمه الله شديد التواضع، أتاه مرة وهو بالمسجد رجال ليحيى لهم مأتماً وقالوا له أأنت بواب العمارة أم خادم المسجد؟ قال بل خادم المسجد. ما تريدون؟ قالوا نريد الشيخ محمد صديق المنشاوى. قال: انتظروا سأخبره، ثم صعد إلى مسكنه فغير ملابسه وقابلهم فى زينته دون أن يجرح لهم مشاعر. ويضيف الدكتور عمر: كاد له بعض منافسيه فى التلاوة مرة فدسوا له السم فى الطعام إلا أن الطاهى عندما رآه ارتعدت مفاصله وأصر إليه فى إذنه أن الطعام مسموم فلا تأكل منه فاعتذر الشيخ عن الطعام فأقسموا عليه فأخذ لقمه من العيش وقال براً بيمينكم فأنا لا أتناول الطعام خارج البيت. وكاد له أحد الشيوخ مرة وهو يقرأ فى مأتم فأعطى عامل الميكرفون رشوة ليدعى أن الميكرفون به عطل عندما يبدأ الشيخ محمد فى التلاوة، فما كان من الشيخ محمد إلا أنه نحى الميكرفون جانباً وقام واقفاً وأخذ يقرأ وهو يمشى بين الصفوف حتى اختتم الليلة بكاملها فما كان من الشيخ الآخر إلا أنه انصرف فوراً. زار الشيخ المنشاوى معظم دول العالم الأوروبى والأمريكى والآسيوى وعاش حياته لا يحمل خصومات ولا أحقاداً ولا ضغائن بل كان كالكلمة الطيبة بين جميع أقرانه. طلب منه الملك محمد إدريس السنوسى ملك ليبيا أن يخصص له قصراً ملكياً ويجرى له راتباً ضخماً ويعيش معه فى ليبيا إلا أنه أعتذر بلطف فأهداه ساعة كانت قد صنعت له خصيصاً وليس لها نظير فى العالم فأعتذر الشيخ لكن الملك أصر على أن يقبلها فقبلها متأثراً. وطلب منه الملك محمد الخامس أن يعطيه الجنسية المغربية ويجرى عليه عيشة الملوك فأعتذر مفضلاً الإقامة بمصر. كان للشيخ المنشاوى الفضل بإرادة الله سبحانه وتعالى أن تقوم الإذاعة المصرية بتسجيل القرآن الكريم مرتلاَ فأقترح على المسئولين ثم سافر إلى السعودية فسجل الشيخ الحصرى أولاً ثم كان هو ثانياً بعد عودته. ويعد تسجيل الشيخ المنشاوى للقرآن الكريم مرتلاً هو من أكثر التلاوات استماعاً فى البيوت والنوادى والمقاهى والشوارع وفى جميع البلدان الإسلامية.. ثم أصيب الشيخ محمد صديق المنشاوى بمرض العصر وهو (دوالى المريء) وظل يشتد عليه مع بداية عام 1967 والأطباء يحذرونه من القراءة إلا أنه جاد بأفضل وأعذب القراءات حتى وافته المنية فى 20 من شهر يوليو سنة 1969 عن عمر 49 سنة بعد أن ملأ طباق الأرض نوراَ وسروراَ وترك مزماراَ من مزامير داود يتردد صداه فى المشرق والمغرب فى الأرض وفى السماء وفى البحار وفى المحيطات وفى المقاهى والشوادر والمحلات والشوارع والمنازل أينما حللت تسمع صوت الوحى بحنجرة المنشاوى رحمه الله وغفر له.