رحل فداءً للكلمة، ودفع عمره لإعلاء الحق.. حمل أفكاره على عاتقيه، وعمره في يديه، لتقضي هذه الأفكار على حياته، تاركًا ما خطته يداه من مقالات قادته للهلاك، ومن كتب أفنى لأجلها عمره، وأفكار دافع عنها لآخر رمق.. أنه الكاتب والمُفكر "فرج فودة" الذي تحل ذكرى وفاته اليوم الأربعاء. آمن "فودة" طوال حياته التي بدأت عام 1945، بالعلمانية والمدنية، ونادى بفصل الدين عن الدولة، ورفض تستر السياسة خلف الإسلام، وسخر قلمه وكتابته لهذه الأفكار، الذي ظل يدعوا إليها طوال حياته. من قرية الزرقا بمحافظة دمياط.. ولد "فرج" والتحق بكلية الزراعة، وحصل على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد الزراعي، عام 1967، وظهرت عليه علامات الثورة والحمية من صغره فقد شارك في مظاهرات الطلبة الغاضبة عام 1968 واعتقل لعدة أيام في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. عقب تخرجه.. دخل الكاتب والمُفكر عالم السياسة سريعًا، حيث حاول تأسيس حزب باسم "المستقبل"، وكان ينتظر الموافقة من لجنة شؤون الأحزاب التابعة لمجلس الشوري، ولكن صراعه مع جبهة علماء الأزهر، التي كانت تشن هجومًا كبيرًا عليه، وقف عائقًا أمامه بعدما طلبت الأخيرة من شؤون الأحزاب بعدم الترخيص لحزبه. ولم تكتف بذلك بل وأصدرت هذه الجبهة عام 1992 بيان في "جريدة النور" كفرت خلاله الكاتب المصري، وأباحت قتله، ورغم ذلك ولم ييأس فودة، وقام بتأسيس الجمعية المصرية للتنوير في مدينة نصر. وخاض من خلال هذه الجمعية معركة مع الجماعات الإسلامية، بسبب حمله لأفكار معارضة لهم، حيث أثارت كتابات "شهيد الكلمة" كما عُرف، جدلًا واسعًا بين المثقفين والمفكرين ورجال الدين، واختلفت حولها الآراء، بعدما طالب بفصل الدين عن السياسة والدولة. وسخر مؤلفاته رقم قلتها لهذه الأفكار، حيث كان لها صدى كبير سواء على مؤيديه أو معارضيه، فكانت كتبه التي وصل عددها إلى 12 كتابًا، بمثابة سلاحه الذي يحارب فيه إرهاب الجماعات الإسلامية، ويرصد ويوثق لمخالفة أحاديثهم للدين، وينبه إلى سعيهم المستمر لتشويه صورة الإسلام. ومن أشهر كتبه: "الحقيقة الغائبة، زواج المتعة، حوارات حول الشريعة، الطائفية إلى أين؟، الملعوب، نكون أو لا نكون، الوفد والمستقبل، حتى لا يكون كلامًا في الهواء، النذير، الإرهاب، حوار حول العلمانية، قبل السقوط". ونتيجة لهذه الأفكار دفع فودة حياته ثمنًا لها، باغتياله عام 1992، بعدما سلطت الجماعات الإسلامية عليه شابان، وقفا في انتظراه على دراجة بخارية أمام الجمعية المصرية للتنوير، أثناء خروجه منها بصحبة ابنه أحمد وصديق آخر. وانطلق الشابان بالدراجة البخارية، وأطلق إحدهما الرصاص من رشاش آلي، فأصاب فودة إصابات بالغة في الكبد والأمعاء، بينما أصاب صديقه وابنه إصابات طفيفة، وهربوا. وعلى الرغم من ذلك انطلق السائق الخاص للمُفكر خلف المجرمين، وأصاب الدراجة البخارية وأسقط أحد القتلة من فوقها، وارتطمت رأسه بالأرض، وألقت الشرطة القبض عليه حينها، أما الشاب الثاني فقد تمكن من الهرب. حملت سيارة إسعاف المُفكر إلى المستشفى، وكانت آخر كلماته: "يعلم الله أنني ما فعلت شيئًا إلا من أجل وطني"، وأجروا له عملية جراحية لمدة 6 ساعات، إلا أنه لفظ بعدها أنفاسه الأخيرة ولم يُكتب له النجاة. لقى فودة مصرعه، بعد أيام من مناظرة له بمعرض الكتاب مع الشيخ محمد الغزالي، والتي خرج بعدها الغزالي ليتهمه بالارتداد، ولقب من بعدها باسم صاحب "المناظرة التي قتلت صاحبها". وافتتح مناظرته قائلًا: "أنه لا أحد يختلف على الإسلام الدين، لكن المناظرة اليوم حول الدولة الدينية، وبين الإسلام الدين، والإسلام الدولة رؤية واجتهاد، فالإسلام الدين في أعلى عليين، أما الإسلام الدولة فهو كيان سياسي وكيان اقتصادي وكيان اجتماعي يلزمه برنامج تفصيلي يحدد أسلوب الحكم". وعلق على هذا الحادث الشيخ الأزهر محمد الغزالي قائلًا: "أن قتل المرتد يجوز، وقتل فرج فوده هو تطبيق لحد القتل للمرتد؛ لأن الإمام فشل في تطبيقه". وأصر الغزالي في محاكمة قتلة فودة، على اتهامه بأنه مرتد عن الدين ووجب قتله، فيما أثارت اعترافات قاتله ضجة واسعة حينها، وقتما سأله القاضي عن دافعه لقتله، فأجاب أنه قتله لأنه كافر، فسأله القاضي ومن أين عرفت ذلك؟، ليرد القاتل إنه لا يقرأ ولا يكتب.