كنت طفلاً في المرحلة الابتدائية في منتصف سبعينيات القرن الماضي حين التقيتُ لأول مرة بالمفكر الكبير الراحل أنيس منصور والغريبة أن يتم هذا اللقاء في بلدتنا بسيون وليس في القاهرة وكانت المناسبة دعوة علي الغداء في منزلنا الريفي علي شرف محافظ الغربية في ذلك الوقت «عمي» الراحل العظيم وجيه أباظة والكاتب الصحفي الكبير جلال الحمامصي (أستاذ الوالد وأبيه الروحي) وكذلك أمد الله في عمره الكاتب الكبير محسن محمد وغيرهم وتقدمتُ امام الضيوف ليقول لي الوالد سلم علي عمك أنيس يا أحمد وبقيت وسطهم قليلاً إلي ان غادرت وبالطبع لم أدرك وقتها قيمة هذه الشخصيات ولكن ظل الحدث متوارياً في الذاكرة إلي أن أتي زمن الفهم والتقدير ومرت سنوات والتحقتُ بقسم الفلسفة بكلية الآداب في جامعة عين شمس وساعتها عرفت من هو أنيس منصور حين بدأت قراءة كتب الفلسفة خاصة الفلسفة الوجودية التي كان أحد دعاتها وشارحيها أستاذنا الراحل الكبير وبدأت في دخول عالم أنيس منصور المبهر الذي لا يحده حد من المعرفة أو سقفاً من العلم أو أرضاً من الثقافة كان أنيس منصور في نظر جيلنا هو العالم الموسوعي الذي يذكرنا بابن رشد والفارابي والجاحظ وغيرهم الذين جمعوا بين الفكر والفلسفة وعلم الكلام والموسيقي والتاريخ معاً كانت تستغرقه حكمة الفلاسفة في الاستماع وتلقي المعرفة والثقافة كما كان طائراً بارعاً محلقاً يسعي نحو رحابة الفكر الطليق والحكمة المطلقة وضالته هي نفس ضالة كل الفلاسفة انها الحقيقة التي لاهم يوماً عرفوها علي إطلاقها ولاهم يئسوا يوماً من البحث عنها لذا وجدناه يتقلد عباءة المفكر الرحالة المغامر وامتطي صهوة جواد الفلسفة الجامح وطاف بلاد العالم في مائتي يوم يلهث وراء ضالته المجهولة التي ليس لها عنوان ولا مكان وبعد أن تخرجت في قسم الفلسفة وبدأت رحلة البحث عن تحقيق الذات والعمل في مجال الصحافة والادب جمعت شتات فكري قلتُ أذهب الي زميل الدراسة أنيس منصور فربما يعملُ خاطراً لرفيق الدراسة والفلسفة وكان وقتها يرأس تحرير مجلة أكتوبر واستقبلني عمي أنيس بالترحاب والتشجيع وذكرته بأنني مثله خريج قسم الفلسفة ومن نفس الجامعة فإذا به يرد علي بأنه تعرض لموقف مشابه ولكن بشكل أخر إذ إنه بعد سنوات طويلة من تخرجه قابل أحد المسئولين الذي أراد أن يعرفه بأستاذه القديم في الفلسفة وكان اسمه أيضاً د. منصور وقال له أعرفُك علي شبيهك في الاسم والقسم والجسم وتضاحك الجميع ولأن عمي أنيس اشتهر بأنه أشهر مثقف حكاء في مصر فقد توطدت العلاقة الثقافية والروحية بينه وبين الوالد الراحل الكريم الذي كان معروفاً أيضاً بحكاياته التاريخية والاجتماعية المثيرة والطريفة التي لا تنتهي وقد ترسخ لسنوات طويلة لقاء سنوي رمضاني في منزلنا بمصر الجديدة يجمعهما معاً وسط باقة من المثقفين والمفكرين أمثال المؤرخ الكبير د عبد العظيم رمضان والسيدة جيهان السادات ود.مصطفي الفقي والإعلامي حمدي قنديل وأ. نبيل زكي وأ. سعيد سنبل ومفيد فوزي الذي كتب يوماً في صباح الخير معرباً عن إعجابه الشديد وتقديره لتلك الصداقة الروحية والحوارات الثقافية التي تجمع بين أنيس منصور وجمال بدوي. لقد اكتشف أنيس منصور أن ضالته الهاربة هي مصر وشخصيتها قيمتها ومكانتها وأن العثور علي هذه الهاربة يتطلب جهداً ذهنياً فائقاً واستنزاف شرايين المخ. بما تحويه من حياة ودماء ونبض تتناقص قوته مع قراءة آلاف الكتب ومتابعة ملايين الاخبار وتأريخ آلاف المواقف والاحداث ليس فقط لنعرف من هي مصر ولكن الاهم أن نفهم من هي مصر وكان شأنه في ذلك شأن جمال بدوي وعرف الاثنان أنهما قد صرفا العمر واستنزفا العقل في محاولة فهم مصر حتي وهنت أوردة الفكر والذاكرة في جسديهما، الأمر الذي أدي مع تقدم السن الي حدوث مشاكل صحية بالمخ خاصةً بالنسبة للوالد فصار يعاني من مشاكل بتصلب شرايين المخ ولأن أ. أنيس يعلم تماماً أن أول وأكثر ما يمرض في جسد المفكرين والفلاسفة هو عضو المخ لكثرة ما أرهق في الإجهاد الفكري والذهني وهو طريق يؤدي في النهاية الي إما توقف المخ عن العمل أو الموت وهما بالنسبة للمفكر سواء لذلك فلست أنسي الموقف الاخير لعمي أنيس في زيارته الاخيرة للوالد بالمستشفي وهو علي فراش المرض بتصلب شرايين المخ وبرفقته المحامي الكبير فريد الديب إذ كان تعليقه الذي كتبه علي كارت شخصي منه أحتفظ به لدي حتي الآن تعليقاً فلسفياً وطريفاً إذ كتب يقول (سلامتك ياجمال.. أدي أخرة المشي البطال!) وبالطبع كان المقصود من المشي البطال هو طريق الفكر والثقافة والتاريخ الذي مشياه سوياً وصرفا فيه شبابهما الي أن يأتي ذلك الزمن الذي يعلن فيه المخ عن تصلبه عن التفكير وقتها يظهر السؤال الكبير والاخير ماذا يبقي للمفكر إذ توقف عقله عن التفكير وعجز عن ملاحقة الحقيقة وقتها ندرك كما أدرك أ. أنيس مع جمال بدوي أن الحقيقة الوحيدة الصادقة قد قاربت علي الحضور ليغيب الجسد وتعود الروح إلي خالقها الذي أنشأها أول مرة ليرحل المفكر والفيلسوف في هدوء تاركاً خلفه صدقةٌ جارية بالعلم فياضة بالمعرفة سيالةٌ بالفكر ندعو الله أن ينفعنا بها وبما تركه لنا عمي أنيس رحمه الله.