صرخة أخرى بشأن ما يجري في سوريا من مذابح ضد المدنيين اطلقتها "نافي بيلاي" المفوضة العليا للأمم المتحدة لحقوق الإنسان حيث دعت الأسرة الدولية إلى اتخاذ تدابير عاجلة جماعية وحاسمة لحماية المدنيين في سوريا، معربة عن تخوفها من اندلاع "حرب أهلية". هذه الدعوة من المسؤولة الدولية تزامنت مع دعوة أخرى إنسانية أطلقها سموأمير قطر مؤخرا بضرورة توقف أعمال القتل في سوريا، وهي دعوة مهمة من حاكم عربي ينطق بالحق، وبما يجب أن يقال في مثل الوضع المؤلم، وهو الكلام الذي يجب أن يقوله الحكام العرب الآخرون في صوت واحد ودون مواربة أو خجل لإنقاذ شعب عربي من المجزرة، بل وإنقاذ سوريا نفسها كدولة باتت مرشحة للدخول فعلا في آتون حرب أهلية قد تفتتها ليس بفعل مؤامرات خارجية إنما بسبب معالجات النظام الأمنية العنيفة للازمة منذ انطلاقها وعدم استماعه للنصائح الكثيرة التي وجهت له من الأشقاء والأصدقاء وحتى ممن يعتبرهم أعداء بضرورة الحل السياسي القائم على الإصلاح السياسي الديمقراطي والإقلاع عن الحل الأمني الذي لن يجدي أبدا والذي يقود البلاد والعباد إلى التهلكة، ووضع سوريا البائس الآن يغني عن أي قول. لكن النظام الذي يعاند لم ولن يستجيب لمثل هذه الدعوات لأنه يعلم أن نهاية حكمه العائلي الطائفي ستكون في أي إصلاح جاد وحقيقي، فالشعب السوري - سواء الذي يتجرأ منه ويخرج للشارع ويقدم روحه قربانا للحرية، أو الذي مازال على خوفه من هذه الوحشية - يرفض البقاء تحت حكم هذا النظام أكثر من ذلك. القمع الوحشي من النظام السفاح أسفر خلال 7 أشهر من عمر الثورة السورية المجيدة عن سقوط أكثر من ثلاثة آلاف قتيل منهم 190 طفلا. والحاصل أن الشعب يتظاهر سلميا لإسقاط الحكم المتخلف، والنظام لا يعرف غير القتل، ولا حل لديه إلا القوة المفرطة الغشومة، فلم يمر يوم خلال تلك الأشهر من دون سقوط قتلى، بجانب الاعتقالات والتعذيب والمفقودين وهم بأعداد هائلة، أما الجحيم الذي يحيا فيه السوريون فهو قصة أخرى، واستغرب كيف يعيش الناس هناك في ظل هذا النظام المرعب اللانساني الذي لا يهمه التضحية بكل المواطنين مقابل أن تبقى عائلة الحكم التي أورثت نفسها بلدا عظيما صاحب تاريخ وحضارة فحولته الى بلد متخلف موحش متصحر سياسيا وفكريا وثقافيا طاردا لأبنائه معزولا عن محيطه العربي والإسلامي منبوذا دوليا يغرق الآن في بركة من دماء الأحرار. أيام الثورة ستطول لان السوريين مصرون على انتزاع حريتهم مهما كان عدد شهدائهم، والنظام المكروه من شعبه مصِرّ على وحشيته، ولهذا لم يعد مقبولا أكثر من ذلك أن يظل العرب على صمتهم وان يظل الغرب يتحدث عن عقوبات لا تجدي، وإعداد مشروعات قوانين إدانة بمجلس الأمن تسقط بتواطؤ اثنتين من عتاة الدول الاستبدادية في العالم: روسيا والصين، وتخاذل مخجل من ثلاث دول ديمقراطية تدافع وتحمي نظاما ديكتاتوريا بشعا هى: الهند وجنوب إفريقيا والبرازيل. الغريب أن قادة هذه الدول منتخبون من شعوبهم في تجارب ديمقراطية حرة نزيهة بينما هم ينافحون عن حاكم ورث المنصب بقهر الجهاز الأمني العائلي ولم ينتخب بحرية من شعبه مثلهم، بل ويقتل هذا الشعب الذي يقول له الآن في أوسع استفتاء شعبي: "ارحل"، لا نريدك أكثر من ذلك. أصعب تغيير في الربيع العربي يحدث في سوريا لأن التغيير لا يواجه نظاما امنيا عتيدا فقط كما كان الأمر في تونس ومصر وليبيا واليمن إنما الجديد والخاص به انه يواجه تحالفا ثلاثيا من الحكم السلطوي الاستبدادي المليشياوي هو تحالف: سوريا وإيران وحزب الله. الأطراف الثلاثة متحالفة ومتعاضدة لمواجهة انتفاضة السوريين وإفشالها مهما كلف ذلك من أثمان. ذلك أن سقوط الأسد ونظامه يعني فقدان إيران أهم حليف عربي لها، وأهم موطئ قدم استراتيجي حيوي لها تدعم من خلاله حزب الله وتمده بالمال والسلاح، ومن خلاله تتمدد في الفضاء العربي، أما حزب الله فانه مع سقوط الأسد سيكون ظهره مكشوفا وسيفقد طوق الحماية الأقرب له وسيكون في ذلك سقوطه هو الآخر وانعتاق لبنان من سطوته المرعبة. هذا التحالف الخطير المدمر للمنطقة مرتبط ببعضه البعض مثل حبات العقد فإذا انفرطت حبة النظام السوري فان الباقي سيتساقط فورا لذلك تدعم طهران وحزب الله حليفيهما الأسد بكل ما يملكان من إمكانيات مادية ومالية وعسكرية ولوجستية حتى يبقى ولو ضعيفا. من مصلحة الغرب قبل الشعب السوري تفكيك هذا الحلف أو إنهائه، والمدهش أن الأمريكان والأوروبيين الذين هم في عداء صريح معه، ويجاهرون ليلا ونهارا بخطورة إيران وحزب الله على الأمن والاستقرار والسلم العالمي، وهم بذلوا محاولات عديدة وقدموا الإغراءات لسحب سوريا بعيدا عنه أو لفك ارتباطها به لكنهم فشلوا، لما جاءتهم الفرصة مع اندلاع الاحتجاجات فإنهم ظلوا متكاسلين حتى عن إدانة صريحة للنظام القاتل في دمشق، وهم لليوم غير قادرين على التأثير الفعال على هذا النظام لإيقافه عن القتل، ويبدو أنهم غير قادرين أيضا على ابتداع تحركات وحلول إقليمية تدعم المتظاهرين لإحداث هزة وخلخلة عنيفة للنظام تطيح به. من هنا لابد من تحرك عربي إقليمي دولي أكثر فاعلية تحت عنوان حقيقي وهو حماية المدنيين من بطش النظام الذي يرتكب جريمة ضد شعبه ويشن حربا صريحة عليه ويقتل المدنيين وبينهم أطفال ونساء ويفتك بالمظاهرات السلمية وهذا اعتداء صارخ على حق التظاهر السلمي المكفول بالاتفاقيات والمواثيق والحقوق الإنسانية الدولية التي وقعت عليها الحكومة السورية. الشعوب لا يجب أن تترك هكذا تحت رحمة الأنظمة السلطوية وتحت رحمة الطغاة لتفعل بها ما تشاء وإلا ما قيمة الأممالمتحدة ومجلس الأمن؟. النظام السوري استنفد كل الفرص التي أتيحت له فقد كان المجتمع الدولي سخيا معه في التعامل معه برفق وفي نصيحته بالكف عن الحلول الأمنية والدخول في عملية سياسية مقنعة لكنه أصبح الآن خطرا داهما على شعبه وعلى جيرانه وعلى المنطقة وبالتالي فالمبررات موجودة لإيقافه عند حده بكل الوسائل في مهمة إنسانية ضرورية . البعث العراقي الصدامي لم يسقط إلا بحرب شبه عالمية في عام2003 وسبقتها حرب أخرى في عام 1990 لإخراجه من الكويت علاوة على سلسلة من العقوبات والضربات العسكرية، ومن دون استخدام القوة كان سيظل باقيا لليوم بغض النظر عما جرى للعراق من كوارث بعد زواله. ونظام القذافي لم يكن ليسقط إلا بحرب وهو ما فعله" الناتو". ونظام دمشق هو الضلع الثالث لمثلث الأنظمة العربية الأشد استبدادا ووحشية ولن يتغير من نفسه ولن يسقط بسهولة إلا بتضييق الحصار عليه وعلى حلفائه وإنتاج وسائل فعالة لحماية المدنيين بمشاركة عربية تركية دولية، وقد آن أوان ذلك بعد ثمان أشهر من القتل المتواصل. فهل يتجاسر العرب للبدء في اتخاذ ترتيبات مع تركيا والغرب لإنقاذ سوريا كدولة وشعب من نظام هو من مخلفات الحرب الباردة وصار خطرا على الجميع وذلك لمواصلة تطهير المنطقة العربية من أسوأ أنظمة حكم أنتجتها بعد الاستقلال؟.