فى عام 1988 أسعدنى القدر أن أستقبل الأستاذ أنيس منصور فيلسوف الصحافة فى مكتب أستاذى المرحوم مصطفى شردى عندما كان قادماً للقائه بمقر الوفد القديم بالمنيرة، وحدث تأخير للمرحوم شردى وهو قادم من معشوقته بورسعيد، تعدى اللقاء أكثر من ساعة و كانت فرصة رائعة أن أتجاذب أطراف الحديث مع الأستاذ الفيلسوف فى شتى مناحى الحياة السياسية والصحفية، كنت أطرح عليه الأسئلة وكان يجيبنى بكل حب وترحاب، وتملؤه السعادة من تلميذ من أبناء شردى الذين صنع بهم مدرسة «الوفد» الصحفية.. وتمنيت لو أن الأستاذ شردى تأخر أكثر حتى انتهز الفرصة فى الحديث مع الراحل الكريم أنيس منصور. وانتهى اللقاء فور قدوم الراحل العظيم شردى، وعندما هممت بالانصراف والاستئذان ليختلى الصديقان ببعضهما، فاجأنى أنيس منصور بسؤاله الأول كم تتقاضى راتباً فى «الوفد»؟!، وعندما قلت له ان راتبى لا يتعدى المائة والخمسين جنيهاً!.. فاجأنى بالسؤال الثانى وكم كتاباً تشتريه وتقرأه؟!.. وانتهى اللقاء بقرار من المرحوم «شردى» بمضاعفة راتبى، وكان حدثاً تاريخياً لى أن وافق الزعيم خالد الذكر فؤاد سراج الدين على هذه الزيادة الكبيرة. يرحم الله الجميع «سراج الدين» و«شردى» و«منصور»، تلك القمم التى أنجبتها مصر، هذه القامات العالية تشعر الإنسان بالزهو والفخر والاعتزاز، أن كان فى يوم من الأيام قريباً منها وتتلمذ على يديها، وتعلم منها العزة بالنفس والإيمان الراسخ بالمواقف والالتزام بالمبادئ والثبات على الحق مهما تعرض المرء للمحن والمصائب والكوارث. رحم الله أنيس منصور الذى طوّع اللغة له، فكان ظاهرة مختلفة فى كل ما يتناول من أدب فكر، تفوح منه رائحة الفلسفة بعمقها الشاسع وفكر مستنير، وسيظل نبراساً لكل من يأتى بعده يهتدى به فى عوالم الكتابة الصحفية والفكرية.. هو ظاهرة فريدة فى عالم الكتابة والفكر والأدب خاصة أدب الرحلات، كان الراحل الكريم خفيف الظل ويتميز بخفة دم وخلق رفيع، قلما تجده الآن فى عالم الصحافة،وكان يواجه الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، لأنه كان موسوعة فكرية وعلمية افتقدها كثير من الصحفيين الآن. رحم الله أنيس منصور الذى كان يغذى عقله ووجدانه بالقراءة المستمرة التى افتقدها كثير الآن من حملة الأقلام، ويعتمدون على القشور من المعرفة فى زمن «الإنترنت».. رحم الله أنيس منصور الذى يشعرنى الآن أن عالم الكتابة والصحافة يذرف دماً بدلاً من الدموع على فراق هذا الرجل، وأن جرحاً غائراً أصاب صاحبة الجلالة، ويحتاج الى زمن طويل حتى يلتئم.. رحم الله أنيس منصور الإنسان الذى أخذ بيد الكثيرين فى عالم المعرفة والصحافة والإعلام، سواء ممن تتلمذوا مباشرة على يديه أو من خلال أفكاره وآرائه. مصر الآن فى حالة حزن، فالراحل ليس أى أحد إنه أنيس المعرفة والفكر والرأى الفلسفى العميق، والكاتب الماهر بأصول الكلمة فى موضعها.. يرحم الله أنيس منصور ويلهمنا الصبر على فراقه وعلى انقطاع قلمه وإنا لله وإنا إليه راجعون.