أنا وجيلي الذي تخطي الستين من العمر وكانوا يسمونه جيل عبدالناصر أتذكر مقولة المرحوم يوسف السباعي علي رأس مقاله الأسبوعي في مجلة المصور « إن هذا الجيل جاء علي موعده مع القدر». عندما أري الآن شباب مصر ينتفض فجأة وينشط سياسياً ويدعو إلي شعارات الحرية والعدالة والكرامة وطوال السنوات الماضية كنت أبحث عن هذا الجيل وأتهمه بالخمول السياسي والسلبية وأقارن بينه وبين جيلي الذي تربي علي الشعارات القومية العربية والعدالة الاجتماعية والحرب ضد الاستعمار وارفع رأسك يا أخي فقد مضي عهد الاستبداد وكنا نتغاضي عما يدور حولنا من كل ألوان الطيف من الاستبداد السياسي وانتهاك كافة الحريات والمحرمات وكان الشعب كله يعلم عن المعتقلات الكثيرة المليئة بعشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين من أقصي اليسار إلي أقصي اليمين ونعلم عن التعذيب ونعلم عن سلب الأموال وشقق وقصور واعطائها للمحاسيب وذكرني هذا بمحاكمة وزير العدل الألماني في عهد هتلر أثناء محاكمات نورمبرج عندما ترافع عنه محاميه قائلا ان الرجل لم يكن يعلم عما يحدث من اعتقالات في ظلمات الليايي والتعذيب والقتل فوقف الوزير السابق غاضباً قائلاً إن كلام محاميه غير صحيح لأننا جميعاً في ألمانيا كنا نعلم ما يدور حولنا من ظلم وانتهاكات وسكتنا عنه وكنا لا نسأل عن الجار الذي اختفي فجأة ربما خوفاً من نفس المصير أو فقط جبناً. أذكر في صيف 1966 عندما اعتقل والدي وأخذوه الي معتقل أبو زعبل وكنت وقتها طالباً شاباً في كلية الطب لم أبلغ بعد العشرين من عمري وكنت أذهب يومياً الي معتقل أبو زعبل حاملاً عموداً صغيراً من الطعام بناءً علي قرار الزعيم جمال عبدالناصر بأكل خاص للمعتقل شوكت التوني وكنت أعاني يومياً في المواصلات الي أبو زعبل وأنا أعلم أن والدي لن يأكل هذا الطعام لأن معه آلافاً من المعتقلين السياسيين يأكلون طعام المعتقل الرديء وكنت يومياً أري سيارة نقل المعتقلين تأتي بأعداد جديدة من المعتقلين وينزل السائق وينادي علي البوابة «الإيراد الجديد» وأيضا كان لي تصريح زيارة لوالدي داخل عنبر المعتقلين حيث قابلت شخصيات كثيرة كانت تسألني عن الأحوال في البلاد وتحملني رسائل الي أسرهم ومنهم وفديون من جنازة النحاس باشا مثل الأستاذ علي سلامة سكرتير مساعد حزب الوفد فيما بعد والأستاذ عيسي العيوطي مؤسس بنك النيل فيما بعد والدكتور نور الدين رجائي أستاذ القانون وغيرهم كثيرون عليهم رحمة الله وبعد عام نقل والدي الي معتقل مزرعة طرة وألغيث تصاريح الزيارة والطعام وكانت أهمية عمود الطعام انني كنت أخبئ رسائل لوالدي في كيس نايلون تحت الطعام أما في طرة فكنت أقابل عسكرياً من المعتقل أسبوعياً في شارع معين في المعادي أمام صيدلية معينة وأتلقي منه رسالة من والدي وأعطيه خمسة جنيهات في المقابل وكان هذا المبلغ كبيراً آنذاك وحيث إن الدولة بعد مصادرة ممتلكاتنا وأموالنا كانت تصرف لنا ستين جنيهاً شهرياً وكنا ننفق أربعين جنيهاً منها علي مصروفات والدي والباقي كنا ننفقه علي حياتنا اليومية. بعد نقل والد الي طرة كنت أذهب الي وزارة الداخلية ادارة المباحث العامة «أمن الدولة فيما بعد» وأقابل الضابط المختص بالمعتقلات وأعطيه ملابس ورسائل لوالدي يقرؤها أولا ويشطب منها ما لا يعجبه وكان الأمر لا يخلو من طرافة كمثال والدتي رحمها الله اعطتني بطيخة ثقيلة لأرسلها لوالدي عبر وزارة الداخلية وحاولت اقناعها بهدوء أن هؤلاء لا يقبلون بطيخة ولكنها كانت تعاتبني لأن والدي بعد زواجه منها في حقبة الأربعينيات اعتقل عدة مرات وكان معتقلا في سجن الأجانب وكانوا يرسلون له كل أصناف الطعام والفاكهة فأجبتها بأن هذا كان يحدث في زمن الاحتلال البريطاني أما نحن الآن ففي زمن الاحتلال المصري وأخذت البطيخة وذهبت الي المباحث العامة ونظر إليَّ صول الاستقبال وسألني ما هذا الذي معك فأجبته بأنها بطيخة فأمرني أن أحملها في يدي ولا أضعها علي الأرض وبعد ساعة ونصف الساعة من الوقوف حاملاً البطيخة شخط فيَّ قائلاً «انت فاكر أبوك في المصيف ولا إحنا خدامين أبوك تبعتله بطيخ خد البطيخة وغور من وشي» طبعاً في ظروف أخري كنت أطحت بالبطيخة في وجهه ولكن للضرورة أحكام أذكر مرة زمام معتقل أبو زعبل وأنا انتظر ومعي عامود الأكل أن خرجت من بوابة المعتقل كوكبة من الجنود حاملين عصياً وطلبوا مني ومن أهالي سجناء الليمان الدخول في غرفة ضيقة خارج الليمان أشبه بعشة الفراخ وتستوعب خمسة أفراد علي الاكثر وكنا أكثر من خمسين فرداً لأن الباشا شعراوي جمعة وزير الداخلية سيزور الليمان وبعد ثلاث ساعات داخل الغرفة وكدنا نختنق داخلها خرجت عاضباً مستعداً لأي رد فعل فلم أجد أحداً وكانت الزيارة قد انتهت منذ ساعة ونسوا وجودنا. في يوم آخركنت أقابل الضابط الخاص بالمعتقلات في ادارة المباحث العامة فإذا به يصيح في وجهي : انت فقدت عقلك ولا عاوز تحصل أبوك، فسألته لماذا فأجابني بأنني داخل كلية الطب أثناء فترة الامتحانات أطلقت لحية قصيرة وكنت أؤدي الصلاة في مسجد الكلية فاستغربت قائلا له ما العيب فيما فعلته فقال لي: يابني أنت خطواتك محسوبة عليك فلا تؤذ نفسك وأباك، عجبت وقتها من الزميل الذي أرسل هذا التقرير عني من داخل الكلية وتفاهة ما أرسل. في يوم 3 مايو 1967 توفي عمي أبو المجد فجأة عن عمر يناهز التاسعة والأربعون وكان له تاريخ طويل في الجهاد الوطني وكان في هذه الفترة حزيناً مهموماً لما حدث لشقيقه الأكبر ولما حدث للأسرة كلها من دمار شامل واتصل يومها النائب العام المرحوم محمد عبدالسلام وكان صديقاً لوالدي وأبلغنا أن الرئيس عبدالناصر قد أذن لوالدي بالخروج من المعتقل من العاشرة صباحاً حتي العاشرة مساءً لدفن عمي وتلقي العزاء وخرج والدي صباحاً ومعه حراسة مشددة وذهب إلي منزل عمي ومنعتنا الحراسة من الجلوس معه أو التحدث إليه وفي المساء في جامع عمر مكرم جلس والدي في ركن ومعه الحراسة يتلقي العزاء وجاء المهندس سيد مرعي وكيل مجلس الأمة وقتها وكان صديق العمر لعمي ووالدي وبكفي الرجل وكان الرئيس عبد الناصر في نفس اللحظة يقضي واجب العزاء في السرادق بجوارنا ومعه كوكبة الحكم كلها وكان الفقيد أحد الضباط الأحرار اسمه المستكاوي علي ما أتذكر وبعد قليل تحرك موكب عبدالناصر والمشير عامر من أمامي فنظرت وقتها الي السماء وكان والدي يركب السيارة عائداً الي محبسه وطلبت من الله سبحانه وتعالي عدالته فيما يحدث من ظلم في حق عباده وكان هذا يوم 4 مايو 1967 وبعد شهر بالضبط جاء 5 يونيو 1967 وللحديث بقية.