بقلم: أمينة النقاش منذ 1 ساعة 31 دقيقة كنت واحدة من بين من عارضوا فكرة التعدد النقابى في مصر، لأسباب منها مشاهدتى عن قرب لتجارب التعدد النقابي في لبنان ودول المغرب العربي، والتي انتهت بجعل العمل النقابى ساحة لتصفية الحسابات السياسية والجهوية والعقائدية والمذهبية، بعد أن أباحت القوانين لعدد قليل من الأفراد - مهما كانت ضآلته - الحق فى تشكيل نقابة، فساد نمط الثنائيات النقابية التي أفسحت الطريق لنقابة للأمازيج وأخري للعرب في نفس القرية أو المدينة أو الإقليم، ونقابة للشيعة وأخرى للسنة، وثالثة لليسار وأخرى لليمين، وهكذا وبدلاً أن يثرى هذا التعدد والتنوع فى الحياة النقابية، كان فى واقع الأمر عائقاً أمام فاعليتها، ومصدراً من مصادر التوتر والصراع بين أطرافها، لكنني برغم ذلك تلقيت بفرح غامر نبأ موافقة الإدارة العامة للعمل النقابي بوزارة القوى العاملة والهجرة علي إشهار نقابة المعلمين المستقلة، كممثل ومفاوض وحيد عن جموع المعلمين المصريين، كأول نقابة عمالية، للتفريق بينها وبين نقابة المعلمين التي تأسست عام 1955، وبقيت في العهود الجمهورية الثلاثة، رهينة لتحكم وهيمنة السلطة التنفيذية، إذ أصبح وزير التربية والتعليم على امتداد نحو خمسين عاماً، هو نفسه نقيب المعلمين في خلط فاضح بين صاحب العمل والعامل، وبين الإدارة التي تملك سلطة الثواب والعقاب، وبين النقابة التي تصون المهنة وتطورها وتحمي مصالح أعضائها من تجاوزات الإدارة وتغولها، أو انتقاصها لحقوق هؤلاء الأعضاء. مصدر الفرح، أن فئة المعلمين التي يزيد عددها علي أكثر من مليون فرد، قد أصبحت لها ذراع نقابية مستقلة للدفاع عن حقوقها الاجتماعية والاقتصادية التي طال إهمالها، والعدوان عليها، والاستخفاف بالدور الوطني والتربوى والتثقيفى الذى تقوم به في تنشئة الأجيال، وهو استخفاف تاريخي أشار إليه الدكتور طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، وهو يتحدث عن أوضاع المعلم الأولي أو الإلزامى الذى يشغل في الحياة الاجتماعية المصرية مركزاً متواضعاً من الناحية المادية، ثم يطلب إليه أن يشيع فى نفوس أبنائنا العزة والكرامة والحرية والاستقامة، ويقول طه حسين: «لا أعرف شراً علي الحياة العقلية في مصر من أن يكون المعلم، كما هو الآن عندنا سيئ الحال منكسر النفس، محدود الأمل، شاعراً أنه يمثل أهون الطبقات علي وزارة المعارف شأناً». فرحت بنقابة المعلمين المستقلة التي آن لها أن ترفع مظالم طال أمدها، وأصبحت عضواً مؤسساً في الاتحاد العام للنقابات المستقلة الذى يضمها إلي جانب نقابة الضرائب العقارية ونقابة الفنيين الصحيين، وأصحاب المعاشات، لكنني اختلفت مع دعوتها للإضراب العام للمعلمين، الذى رفع شعار: «عام دراسى جديد بلا معلمين». إذ بدت الفصول الدراسية الخاوية من الأساتذة والتلاميذ مع بدء العام الدراسى الجديد مثيرة للألم والغضب، أكثر من التعاطف، ففى مهنة كالتعليم دون غيرها، ينبغى أن تجرى المواءمة بين سير العمل وبين وسائل الاحتجاج التدريجى، بمنهج لا تتصادم فيه الحقوق، حق المعلمين في أوضاع معيشية كريمة، وحق التلاميذ في تلقى العلم، وحق المجتمع في أن تنضبط العلاقة بين مؤسساته وفئاته وأفراده، علي قاعدة الشعور بالواجب والمسئولية، التي تدفع الآخرين إلي احترام الحقوق، كى نبعث في الذهنية المصرية من جديد، نموذج المدرس الصالح صاحب الرسالة، الذى دعا أمير الشعراء أحمد شوقى إلي تبجيله: «قف للمعلم وفه التبجيلا... كاد المعلم أن يكون رسولاً» بعث صورة المدرس الصالح، الكفء، صاحب الرسالة، هو إحدي المهمات الأساسية لإصلاح منظومة التعليم في مصر، بعد أن غشيها التباس وتدهور وفقدان للثقة خلال العقود الماضية. هذه الصورة التي تألقت في عقود الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، والتي تمثلت في جيل من المعلمين الآباء، كانوا قناديل لإنارة العقول ونشر جذور الثقافة في القري المصرية، ومد الجامعات المصرية بكثيرين من الرموز والأعلام ممن بروزوا فيما بعد. كان من بين هؤلاء والدي الأديب والشاعر الإقليمى «عبدالمؤمن النقاش»، الذى عمل معلماً إلزامياً، بعد أن حصل علي شهادة «كفاءة المعلمين»، التى أتاحت له أن يدرس بشكل تفصيلي العلوم الشرعية، وفتحت له المجال لدراسة عميقة لتاريخ الأدب العربى والإسلامى . كان والدى - رحمه الله - واحداً من هؤلاء المعلمين الإلزاميين، الذين لم يمنحهم الله غنى ولا ثروة مادية من أي نوع، لكن منحهم القدرة علي التحمل والرضا بالمقسوم، والشغف بالثقافة والمعرفة، والولع بمهنة المعلم. ألف والدى كتاباً بعنوان «شرح مناهج التعليم الإلزامي» أحدث دوياً فى الوسط التعليمى، وامتدحه الكاتب الصحفي محمد فهمي عبداللطيف في إحدي مقالاته بصحيفة «أخبار اليوم» باعتباره كتاباً مهماً، كلفت نسخة الكتاب والدي قرشين، وحين نصحه أحدهم ببيعه بسعر أعلي من ذلك رفض وقال «إن العلم صدقة». ولأن العلم صدقة، فقد كان والدي يجمع أبناء قريته «منية سمنود» - الواقعة علي الشاطئ الشرقى للنيل بالقرب من مدينة المنصورة - لمراجعة الدروس للطلاب مجاناً، ولأنه كان قد تعود أن يصرف ما يأتيه من مال قليل علي تربية الأبناء وشراء الكتب، والابتعاد بمهنته كمربٍ ومعلم عن أن يشوبها أي شائبة تبعدها عن دورها الرسالى الذى كان يقدسه، فقد كان يبيع مكتبته إذا ضاق به الحال، وحين يفتحها الله عليه بعض الشىء، يعود ليملأها بالكتب من جديد، ومع أنه ظل طوال عمره غارقاً في الديون، فقد رفض ككثيرين غيره من الآباء المعلمين، أن يتربح من مهنته، رغم الغبن الوظيفى الذى طاله بسبب انتمائه التاريخي لحزب الوفد، من قبل حكومات الأقلية، التي لم يكن لها من هم، سوي العصف بالسياسات الاجتماعية التي تقررها حكومات الوفد فى وزارة المعارف لصالح المعلمين. الدور الذى لعبه المعلم الإلزامى في القري المصرية فى النصف الأول من القرن الماضى، لم يلتفت إليه أحد بما يكفى، وكان أبى واحداً من هؤلاء الجنود المجهولين الذين تسلحوا بالعلم والثقافة والموهبة وسط ظروف قاهرة من الفقر والأمية والتخلف فنثروا علمهم وثقافتهم لإنارة العقول، ورفعوا مكانة المعلم إلي مصاف الأنبياء، وعودة هذه المكانة هي مهمة كل الأطراف.