نشرت جميع الصحف البريطانية الأربعاء الماضي obituary (مرثية تتضمن سيرة الحياة المهنية) رجل الدولة والدبلوماسي، السكرتير العام السابق للأمم المتحدة الدكتور بطرس بطرس - غالي. شرطة الربط بين «بطرس - غالي»، كان رحمه الله يصر عليها كلقب العائلة (وليس «غالي») جده الأكبر بطرس - غالي باشا رئيس وزراء مصر (1908 - 1910 حتى اغتاله إبراهيم نصيف الورداني – إسلاموي متطرف درس الصيدلة في إنجلترا). المرثية obituary (ديسك خاص بعدد من المحررين في الصحيفة البريطانية) يشترط فيها الدقة البالغة كوثيقة يرجع إليها المؤرخون. التزمت كل الصحف بالدقة، بينما أخطأت «بي بي سي» بشكل فاضح بقولها «أول عربي يتولى منصب السكرتير في الأممالمتحدة». دليل على عدم قيام القسم المسؤول في هيئة الإذاعة البريطانية بالبحث المعلوماتي. معروف أن الترشيح لمنصب السكرتير العام لا يتم حسب الجنسية القومية (هندي أو برتغالي)، أو عرقيا (كأسود أو أبيض) بل جغرافيا بالتناوب بين القارات في دورة عشر سنوات. الدورة الأولى - 1946 - 1961 أوروبا: تريجيف لي النرويجي، فداج همرشلولد السويدي؛ الثانية آسيا 1961 - 1971 يو ثانت من بورما (ميانمار) ؛ الثالثة أستراليا 1971 - 1982 كورت فالدهايم؛ الرابعة أميركا الجنوبية 1982 - 1991 خافيير بيريز دي كويللار. للدورة الخامسة 1992 - 2002 رشح بطرس - غالي عن قارة أفريقيا (أكمل كوفي أنان من غانا بقيتها) كالسادس في تاريخ السكرتارية العامة. والوصف الصحيح معلوماتيا «أول أفريقي» بدلا من تضليل قراء الموقع والمستمعين والمشاهد ب«أول عربي» فلم يكن مرشح مجموعة عرقية أو سياغرافية كالجامعة العربية بل مرشح قارة جغرافية. استرسلت في المقدمة، لأن المرثية مهمتها تنوير المتلقي لا تضليله كمسودة للتاريخ تحية لذكرى بطرس - غالي المحامي أستاذا في القانون الدولي الذي اهتم بأدق التفاصيل كحرف جر، أو فصلة بين جملتين ربما تغير المعنى وتفرق بين كسب أو خسارة القضية. عندما رشحته مصر في 1991 (بدعم كل دول أفريقيا بلا استثناء، التي اعتبرته بطلا أفريقيا زار جميع دولها – ولعب دورا مهما في مفاوضات الإفراج عن نيلسون مانديلا في نهاية الثمانينات، وكان دينامو تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية قبل 54 عاما) لمنصب السكرتير العام؛ تآمرت أميركا وبريطانيا لحجب ترشيحه كمرشح فرنسا والمجموعة الفرنكوفونية. وكانت تقارير الصحافتين البريطانية والأميركية معادية لتدعم منافسه الأمير صدر الدين أغاخان، رئيس مفوضية اللاجئين والصديق الشخصي للرئيس جورج بوش الأب. صحيفة (الإندبندنت، وكنت محررا في الشؤون الخارجية بها) اتخذت موقفا مخالفا بدعم ترشيح بطرس - غالي. ليس لأنه صديقي منذ الستينات، بل تفضيلا لبرنامجه للسلام العالمي والمنحاز لفقراء العالم بتضامن وتعاون أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا. شرح البرنامج كله في أكثر من ساعتين في بداية صيف 1991 في فندق الهيلتون القديم في القاهرة. استخدم تعبير «النظام العالمي الجديد» وقسم مراحل تطور الأممالمتحدة من الحرب الكورية (1950 - 1953) فالحرب الباردة بإنشاء حائط برلين، فمبادرات غورباتشوف بالانفتاح وعودة الديمقراطية لأوروبا الشرقية وحرب الخليج لتحرير الكويت. قال إن العالم اليوم في حاجة إلى «مدير عام» لإدارة العالم كحركة تعاون دولي في بداية عصر عولمة لتطوير عصر (استمر 800 عام) للدولة القومية استعدادا لدخول عصر «العالم كقرية صغيرة».. وكان هذا قبل بداية تشعيب (من شعبية) الإنترنت بخمس سنوات. ولد بطرس غالي في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 1914 في القاهرة لأسرة أرستقراطية قبطية، لعبت دورا أساسيا في سياسة مصر المعاصرة، وتعتبر أهم عظام الهيكل الذي تكون منه جسم الدبلوماسية المصرية وسياستها الخارجية لأكثر من قرن. فوالده يوسف بطرس - غالي كان وزيرا للمالية في حكومتين في نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات إبان حكم الملك فؤاد الأول أثناء ازدهار الديمقراطية البرلمانية الدستورية التعددية في مصر (1922 - 1954). درس في السوربون في باريس وحصل منها على دكتوراه 1949 وأكملها بالقانون الدولي في جامعة كولومبيا بنيويورك. أتقن الفرنسية والإنجليزية وله مؤلفات كثيرة باللغتين بجانب العربية بمستوى طه حسين – وكان كثيرا ما يصحح أخطائي في العربية. وكان متسامحا لأنه نشأ في مصر المتعددة الثقافات. ورغم موقف الكنيسة القبطية المصرية المتشدد من إسرائيل، تزوج بطرس - غالي الشاب من ليا نادلر، من عائلة نادلر اليهودية المصرية التي أنشأت مصانع الشوكولاته والحلويات، ومن مؤسسي الرأسمالية الوطنية المصرية في نهضة مصر الاقتصادية مع طلعت حرب باشا في العشرينات، ومن الأسر اليهودية التي ساهمت بتمويل ودعم ثورة 1919 والوفد المصري بزعامة سعد زغلول باشا. كسب بطرس - غالي احترام وثقة الصحافيين، ودللوه حبا «بو بو». وأذكر لقاءات ومكالمات تليفونية وكان يفضلoff the record briefing حول سياسات الرئيس الراحل أنور السادات وكلمته التاريخية في الكنيست الإسرائيلي في القدس في نوفمبر 1977. ودون شروحه لصعب علينا فهم استراتيجية السادات (وكان بطرس - غالي متشددا في أدق التفاصيل، ليس كمناهض للتسوية السلمية، بل بطبيعته كمحام ويتخذ الحيطة لضمان أفضل مكاسب سياسية لمصر والتدقيق مع الخصم لدرجة أن السادات قال له «كفاية بقى يا بيتر.. انت عايز تبوظ الصفقة ولا إيه؟»). لم تكن هناك سياسة موحدة معلنة إذ اختلفت المؤسسات المصرية بشأن السلام مع إسرائيل، وزودت المصادر المصرية المختلفة الصحافيين بمعلومات متضاربة، فالبعض مع الزيارة، وأخرى ضدها والبعض حاول إفشالها. هذا التدقيق وتركيزه على «أرض الواقع» Real Politik بصراحة مؤلمة للبعض أدخل بطرس غالي في صدام مع إدارة بيل كلينتون، خاصة في البوسنة والصومال. وكشاهد للجلسات لاحظت تجاهل بطرس - غالي نصائح الأصدقاء بالتركيز على ما يمكن إنجازه، وإظهار نجاحات الأممالمتحدة كالسلام وإعادة بناء الدول المنهارة ككمبوديا والسلفادور، مفضلا العمل أكثر من public relations، مما أثار حفيظة سفراء القوى العظمى بتخطيهم والتعامل مباشرة مع العواصم. امتنعت إدارة كلينتون عن دفع مستحقاتها للمنظمة الدولية، وألقت عليها باللوم في فشلها في الصومال أمام الجنرال المتمرد محمد فرح كثير (تدخلت حسب القرارين 794 و837) واستخدمت حادثة الصومال كذريعة ضد السكرتير العام، واستغلت نفوذها لإسقاطه عندما رشح نفسه للمرة الثانية عام 1996 (كان بطرس - غالي وعد مادلين أولبرايت، سفيرة أميركا في المنظمة الدولية ووزيرة خارجيتها لاحقا بأنه لن يرشح نفسه لفترة ثانية كما فعل أربعة من سابقيه). أغلب الظن أن المؤرخين سيذكرونه كقامة عظيمة ورجل دولة ودبلوماسي من الطراز الأول، يعتبره كل الأفارقة ومعظم الآسيويين واللاتينيين، بطلا تاريخيا نصيرا لقضاياهم. نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط