ما بين حاتم بطل فيلم «هى فوضى» وأصحاب واقعة مستشفي المطرية التي اشتعلت أزمة مع نقابة الأطباء، وبين الشهيد محمد الذى لقى ربه فى حادث استهداف مدرعة بالعريش، فرق كبير، فالأول كان نموذجا لأمين الشرطة الفاسد الذى يستغل نفوذه، والثانى أطراف الأزمة والتي مازالت قيد التحقيق والنموذج الثالث من ضحى بحياته فى سبيل الوطن، وما بين هذا وذاك تعيش مصر حالة من التناقض ما بين كراهية نموذج حاتم المنتشر فى كل مكان، ونموذج محمد المضيء الموجود أيضا، فجمهورية أمناء الشرطة عامرة بكل النماذج المتناقضة، ففى حين قام أمناء الشرطة مرارا بإغلاق المديريات بحثا عن حقوقهم، مازال عدد منهم يمثل عبئاً على الشارع المصرى بسبب جرائمهم اليومية التى تبدأ بالرشوة فى الشوارع، واستغلال النفوذ والاعتداء على المواطنين ومؤخرا الاعتداء على الأطباء، لذلك دخلت «الوفد» جمهورية أمناء الشرطة بحثا عن مشكلاتهم وجرائمهم. لمحة تاريخية قبل الدخول في التفاصيل نعود إلي بداية استحداث هذه الوظيفة الشرطية. يبلغ عدد أمناء وأفراد الشرطة فى جهاز الشرطة 360 ألف فرد وهو ما يعادل 10 أضعاف عدد ضباط الشرطة فى مصر، وقبل الثورة كان هؤلاء الأمناء يمثلون مراكز قوة لا يستطيع أحد الاقتراب منها، حتى أن فردين منهم كانوا أحد الأسباب الرئيسية فى تفجير ثورة 25 يناير، حينما قاما بقتل الشاب خالد سعيد عام 2010 وهو ما يعتبر أحد الأسباب المباشرة لقيام ثورة 25 يناير 2011، وبعد الثورة انقلب الحال حينما بدأ أمناء الشرطة فى التظاهر بحثا عن حقوقهم الضائعة، وبدأ الحديث عن الرواتب الهزيلة التى تجعلهم يلجأون للحصول على رشوة من المواطنين، وعلمت مصر لأول مرة مشكلات هذه الفئة فى العلاج، ففى الوقت الذى يعالج فيه الأطباء فى مستشفيات الشرطة يعالج الأمناء فى مستشفيات التأمين الصحى، وحينما قرر اللواء محمد ابراهيم وزير الداخلية السابق علاج أمناء الشرطة فى مستشفيات الشرطة اثر تظاهراتهم، تم ذلك بأعداد محددة ولم يستفد الجميع من القرار ،كما تحدث الأمناء عن مشكلة السكن حيث لا يوجد لهم مشروعات سكنية مثل الضباط رغم أن معظمهم يعملون فى محافظات غير تلك التى ينتمون إليها، ولا توجد لهم مواصلات وهو ما يجعلهم يلجأون لاستقلال المواصلات العامة بدون دفع الأجرة، وأصبح لأمناء الشرطة صفحات على الفيس بوك تتحدث عن مطالبهم، وشعر بعض المصريين بشيء من التعاطف معهم، إلى أن جاءت الأحداث الأخيرة من حوادث الاعتداء على أطباء مستشفى المطرية، والاعتداء على المواطنين فى الشوارع وأقسام الشرطة لتؤكد عودة جمهورية أمناء الشرطة إلى ما كانت عليه، خاصة أن ذلك تزامن مع زيادة رواتب أمناء الشرطة خلال الفترة الماضية لتتراوح بين 300 إلى 900 جنيه للأساسى، بينما يتراوح الراتب الشامل بين 1500 إلى 7500 جنيه وهو ما يعنى تحسن أحوالهم المعيشية، ومع ذلك عادت الرشاوى والاعتداءات والفساد إلى ما كان عليه، ورغم أن أمناء الشرطة الذين يعملون فى الادارات المميزة مثل الإدارة العامة للكهرباء والتهرب الضريبى وشرطة النقل والمواصلات والأمن الوطنى وتصاريح العمل والأمن العام يحصلون على الحد الأقصي للراتب و300% من الحافز الأساسى أى أن رواتبهم تتراوح بين 5 آلاف وحتى 7500 جنيه، إلا أن الرشاوى ما زالت هى كلمة السر فى تعاملات الأمناء والمواطنين فى كل مكان، فمن يدخل قسم شرطة أو إدارة مرور أو أى جهة يسيطر عليها الأمناء لن يستطيع انهاء مصالحه إلا بعد الدفع أولا. قيد التحقيق ورغم قيام ثورتين من المفترض أنهما أعادتا صياغة العلاقة بين المواطنين وجهاز الشرطة ككل إلا أن هذا لم يحدث مع امبراطورية أمناء الشرطة، الذين زادت اعتداءاتهم فى الآونة الأخيرة لتمثل أزمة حقيقية للمجتمع المصرى، فعقب عودة الشرطة بشكل كامل بعد ثورة 30 يونيه صحت مصر على واحدة من أبشع جرائم الاغتصاب، حينما قام أمينيا شرطة بالاعتداء على فتاة بمنطقة شبرا داخل سيارة الشرطة، وهددها بتلفيق قضية لها ولصديقها إذا وجهت لهما أى اتهام، بعدها بأشهر قليلة قام أمين شرطة بامبابة بهتك عرض فتاة معاقة ذهنيا قام أحد المواطنين بتسليمها للقسم، ثم تكررت جرائم الرشوة فى المعادى ودار السلام وأكتوبر وغيرها وجميعها أبطالها أمناء شرطة، حتى جاءت قضية اعتداء أمناء الشرطة على أطباء مستشفى المطرية وما تبعها من تنظيم نقابة الأطباء لجمعيتها العمومية للاعتراض على ما تعرض له أطباؤها بسبب غياب القانون فى مواجهة أمناء الشرطة. دائرة الاتهام ومن هنا يطالب الدكتور عادل عامر أستاذ القانون العام ومدير المركز المصرى للدراسات القانونية بضرورة تطبيق القانون على الجميع، ومعاملة أمناء الشرطة مثل باقى المواطنين ومحاسبة المخطئ منهم وفقا لنصوص القانون، فأمناء الشرطة مثل باقى المواطنين، بل إن وضعهم أكثر حساسية لأنهم مسئولون عن تنفيذ القانون، وبالتالى يجب أن يكونوا أول من يلتزم به، ولذلك يطالب الدكتور عامر بضرورة إعادة تأهيل أمناء الشرطة وعمل دورات تدريبية لهم لتعريفهم بدورهم الحقيقى فى انفاذ القانون، مع ضرورة دراسة أحوالهم المادية والمعيشية والعمل على تحسينها. وعلى الجانب الآخر الطرف المعنى وهم امناء الشرطة الذين كان دورهم مهمشا فى عهد اللواء حبيب العادلى وزير الداخلية الأسبق، عادوا للمشهد من جديد بعد الثورة، خاصة بعدما تم السماح لنحو 10 آلاف أمين شرطة مفصول بالعودة للعمل وفقا لمرسوم قانون يقضى بعودة كل من استقال أو تم فصله خلال خمس سنوات سابقة للعمل بشرط عدم ارتكابه جريمة مخلة بالشرف، وأن يكون آخر تقريرين له بدرجة «جيد»، فضلاً، عن ترك بعض الضباط الساحة خالية لأمناء الشرطة يفعلون ما يشاءون حتى تفاقم الأمر وزادت خطورتهم بشكل كبير. ورغم حصولهم على ما لم يحلموا به فى حياتهم العملية، من ترق إلى درجة ضابط، وإلغاء للمحاكمات العسكرية، وزيادة فى الرواتب. وعلى الرغم من هذا التحول الإيجابى، مازالت تصرفاتهم تكرس الصورة الذهنية السيئة العالقة فى أذهان المواطن البسيط، وإنما زادت قسوتهم وبطشهم، وأحسوا بمدى قوتهم وكيانهم، ولم يقتصر ضغطهم على رجل الشارع فقط، وإنما أصبحوا صداعا فى رأس وزارة الداخلية نفسها، من أزماتهم التى تتجدد بين الحين والآخر. يقول اللواء محمد صادق – مساعد وزير الداخلية السابق وخبير مكافحة الارهاب – لا شك أن هناك حملة ممنهجة ضد جهاز الداخلية لتحريك الرأى العام ضدها، علما بأن الأزمة بدأت منذ ثورة 25 يناير وظهور بعض الفئات التى تريد أخذ حقها عنوة ومنهم فئة أمناء الشرطة وازداد الوضع سوءا بعد عودة المفصولين الى جهاز الداخلية أيام اللواء محمود وجدى وزير الداخلية الأسبق.. والمطلوب هو عمل مرصد اعلامى يقوم برصد كل التجاوزات المقدمة ضد جهاز الشرطة والرد عليها من قبل متخصصين بأسلوب علمى دقيق وفى توقيت مناسب حتى تتمتع بالمصداقية. زيادة التوعية يقول اللواء أسامة همام – وكيل جهاز المخابرات العامة السابق – لابد من القيام بنوع من التوعية لأمناء الشرطة من ناحية مع التأكيد على أن هناك إدارة للتفتيش فى الداخلية تقوم بمحاسبة رجال الشرطة الذين أخطأوا واتخاذ الاجراء القانونى ضدهم...ومن ناحية أخرى يجب أن نضع فى الاعتبار أن الجماعات الإرهابية تسعى من خلال وسائل الاعلام الى تسليط الضوء على أية تجاوزات يرتكبها رجال الشرطة- حتى وان كانت قديمة - من أجل تضخيمها وتأليب الرأى العام ضدها... لذا يجب أن نكون على دراية بتلك الألاعيب مع مراعاة ما يتعرض له رجال الشرطة من ضغوط نفسية فى الفترة الأخيرة. وللتعرف أكثر علي هذه الشخصية المثيرة للجدل يشير الدكتور هاشم بحري أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر إلي أن أمناء الشرطة يعانون ضغوطا نفسية، تجعلهم دائما يعيشون صراعا رهيبا، يؤثر سلبا على تعاملاتهم الوظيفية وسلوكياتهم الحياتية.. وقال بحري الذي عمل فى الشرطة طبيبا نفسيا لأكثر من 7 سنوات».. التركيبة النفسية لأمناء الشرطة مختلفة عن تركيبة الضباط رغم أنهم حصلوا على الثانوية العامة مثل الضباط لكنهم وعن طريق الواسطة التحقوا بمعهد أمناء الشرطة والتحق الضباط بكليات الشرطة ومن هنا بدأ الإحساس بالدونية يتولد لدى الأمناء، خاصة أنهم يفقدون كثيرا من المزايا مقارنة بالضباط». وأضاف «أغلب أمناء الشرطة يشعرون بعدم الرضا النفسي، ويلازمهم شعور دائم بأنهم يستحقون أكثر مما هم فيه، ولهذا يعانون من الحساسية المفرطة وتلك الحساسية تجعلهم مع أقل احتكاك ينفجرون فيمن حولهم» وواصل «أمناء الشرطة يعيشون دائما في حالة مقارنة أنفسهم بالضباط، ويشعرون أن «الشغل كله» قائم على أكتافهم، وأنهم يعملون أكثر من الضباط ومع ذلك ينسب العمل للضباط، ويحصل الضباط على رواتب ومزايا تفوقهم بكثير بداية من الراتب إلى العلاج وهو الأمر الذي أفرز حالة من عدم الرضا التي يشعر بها الأمناء فهم يرون أنهم أبناء الشرطة و من حقهم أن يدخلوا أفضل المستشفيات ويحصلوا على رواتب مقاربة لرواتب الضباط فضلاً عن حقهم فى الترقية بعد حصولهم على كليات مثل كلية الحقوق التى تعطيهم الحق فى الحصول على رتبة الضابط وغير ذلك من المزايا التى يرون من وجهة نظرهم أنها مطالب مشروعة، ومن هنا تولد لدي أغلب الأمناء شعور بالاضطهاد، وهذا الشعور يجعل صاحبه ميالا للعنف، والقسوة في تعاملاته مع الأفراد الأقل منهم داخل الشرطة والمواطنين الذين يتعاملون مع أقسام الشرطة». وأشار الدكتور هاشم بحري إلى أن المجتمع ساهم في زيادة إحساس أمناء الشرطة بالظلم.. ويقول «عندما تم افتتاح معهد أمناء الشرطة وطوال عقود طويلة كان الالتحاق بالمعهد حلماً للكثير من الشباب، وكان عدد من طلاب الجامعة يتركون كلياتهم ويلتحقون بمعهد أمناء الشرطة على أمل أن يلتحقوا بعد ذلك بكلية الحقوق وبعدها يصبح من حق كل منهم أن يكون ضابطا، وهذا الحلم الشبابي جسده الشاعر الكبير صلاح جاهين في الأغنية الشهيرة التي تحمل اسم «يا واد يا تقيل» وغنتها الفنانة «سعاد حسني»، فأحد مقاطع تلك الأغنية يشيد بقوة شخصية أمين الشرطة ويساوي بينه وبين الدبلوماسي، وفي ظل هذه النظرة المجتمعية تضخمت الذات عند أمناء الشرطة وهم مازالوا طلابا في المعهد ولهذا اصطدموا كثيرا بالواقع وبالتفرقة الكبيرة مع الضباط، هو ما خلق لديهم «عقدة الظلم» فحولهم إلي شخصية تشبه كثيرا شخصية «حاتم» في الفيلم الشهير «هي فوضي» وهو الفيلم الذي يحكي قصة حياة أمين شرطة وهي قصة تجسد بشكل كبير واقع أغلب أمناء الشرطة». وأضاف «مواجهة هذه الحالة تستدعي عقد دورات تدعيم نفسي لأمناء الشرطة لكي يشعروا بالثقة بالنفس».