كثير من المهمومين بملامح الشخصية المصرية يعتبرون الدراما التليفزيونية بمثابة أرشيف ناطق ومتحرك يؤرخ للشخصية المصرية.. ومن يبحث في هذا الأرشيف يجد أعمالاً ملحمية رصدت بمهارة تاريخ النضال المصري ضد المستعمر وكيف استطاع المصريون تحدي محاولات طمس الهوية.. واعتبر كثير من النقاد هذه الأعمال دليلاً علي مجتمع صحي يعزز القيم ويرفع من شأن رموز تاريخية كبيرة لعل أبرز هذه الأعمال ليالي الحلمية، الشهد والدموع، وهناك أعمال أخري رصدت تحولات المجتمع وكيف طغت المدة علي القيمة مثل «الراية البيضا، والمال والبنون».. أرشيف الدراما المصرية يحتوي علي جواهر نادرة لم نجد مثلها في الواقع الجديد.. الأعمال الدرامية الآن تقدم الشخصية المصرية مشوهة.. فالمرأة في أغلب المسلسلات منحلة أخلاقيا والرجل ضعيف أمام نزواته تارة وشهرة وجمع المال تارة أخري.. في الفترة الأخيرة لم نجد الشخصية المصرية في أي مسلسل، فقد صدم المبدعون الجمهور بنماذج شخصية متصدعة وحوار مبتذل.. اليوم نلتقي بعدد من المبدعين لنعرف منهم لماذا اكتفت الدراما بسلبية الشخصية المصرية وتعمدت صناعها تقديم هذه السلبيات بأسلوب فج وبدون تجميل. حسن يوسف: هويتنا ضاعت بسبب الاقتباس والتقليد «توفيق البدري» في ليالي الحلمية، وزينب والعرش شخصيات أكدت علي صراع الطبقة المتوسطة مع الارستقراطية في المجتمع وأوضحت وجود فوارق حقيقية في الطبقات المصرية.. قال حسن يوسف إن الهوية المصرية تساقطت منذ أكثر من خمس سنوات لان المؤلفين بدأوا في الميل إلي الاقتباس من الموضوعات الأجنبية، مما يجعل الشخصيات - حتي لو كانت ممصرة - مشوهة لانها تحمل جينات غريبة علي الواقع المصري، ويفترضون فقط تغيير الاسم من الأجنبي للعربي، والغريب ان المؤلفين إذا فكروا في كتابة أعمال مصرية لا يجدون أمامهم سوي تناول العشوائيات والبلطجية والحواري وحصروا مصر في تلك النظرة الرخيصة، وهذا يؤكد «خيبة في الكتابة» لان الكتاب أفلسوا وانصحهم أن يلجأوا للتعلم من أعمال نجيب محفوظ ويوسف القعيد وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي وسعد الدين وهبة ونعمان عاشور فكانت الدراما مكتوبة من الحارة المصرية وكانت لديهم هوية يريدون توصيلها للمجتمع العربي. نري شخصيات نعرفها ونعيش معها، لكن الكتاب يلجأون حتي للأعمال الكورية والإيطالية والموريتانية لاقتباسها بعدما كانت النموذج المصري هو الذي يتم اقتباسه في العالم كله. وعن تجربته مع ليالي الحلمية وزينب والعرش قال حسن يوسف إن كل شخصية كانت تعيش من خلال سيناريو فيه تفاصيل الواقع، وكان الكاتب اعتماده فقط علي الاستدلال علي شخصيات مصرية حقيقة، فعندما مزج عكاشة بين شخصيتي توفيق وسليم البدري قدم الطبقات المتوسطة والارستقراطية كمزيج حقيقي للشخصية المصرية وجعلنا نندمج في الشخصيات بحرفية توصلنا لأداء مهم. محمد متولي: أنانية الجيل الجديد.. مصدر الأزمة «المعلم بيسة» ليالي الحلمية «خميس زيزنيا» مرتضي البشري، أبوالعلا البشري، الصول شرابي، المال والبنون، علوان أبوحجر، المصراوية، كلها شخصيات من واقع الشارع المصري تجدها في المجتمع والأسرة والشارع، علق محمد متولي بأن غياب الشخصيات جاء بسبب الأنانية التي ينتهجها الجيل الجديد في التعامل مع الأعمال الدرامية، وترتب علي ذلك ان المنتجين يعتمدون علي الشباب كشخصيات أساسية ولا يهتمون بالشخصيات الفرعية ليكون العمل منسوباً للنجم الذي يجسده فقط وبناء عليه غابت الأدوار الأهم المساعدة للشخصية الرئيسية لان البطل لا ينجح وحده، والمؤلفون يفصلون الأحداث للنجم الشاب ولا يتجهون لكبار السن نهائياً لذلك لابد ان يركز المؤلفون علي كل الشخصيات بالتساوي كما يفعل أسامة أنور عكاشة ومحمد صفاء عامر وغيرها من الذين يقدمون العمل من أجل سيناريو محترم وليس من أجل تقديم شخصية يشاهدها الجمهور. وأضاف «متولي» وجهة نظر الكاتب أسامة أنور عكاشة كانت تعكس واقع الشخصية المصرية كما يجب ان تكون، اختار شخصيات «الخمس» و«بيسة» وغيرهما ليؤكد أن هناك طفيليين اقتحموا حي الحلمية وحاولوا ان يلوثوه ويحولوه إلي حي شعبي، وأضاعوا جماليات الحي الجميل واختار كل شخصية بجيل مختلف وأتذكر أن عكاشة كان يجلس معنا يتحدث في كل تفصيله، وجلس معي ليشاهد كيف يتحول بيسة إلي نصاب وكان يختار شخصية «السبرسجي» ويساويه بأهم شخصية في العمل ويجلس مع كل ممثل يشرح له الدور وأتذكر انه وقت شرح شخصية السبرسجي مثل الدور بنفسه في البداية وكان من ضمن المؤلفين القلائل الذي يحضر كواليس التصوير لحظة بلحظة وهذا كان طبع كل مؤلفي هذا الجيل الذين يخافون علي عملهم. عفاف شعيب: تهميش الشخصيات الفرعية أفقد الدراما جمالها «زينب» في الشهد والدموع، «شريفة» في رأفت الهجان.. نماذج للأم المضحية والشقيقة الحنون التي غابت الآن عن الدراما، وصفت عفاف شعيب غياب تلك الشخصيات بمحاولات التهميش التي يتعمدها الكتاب في أعمالهم، لان الشخصية المصرية مازالت كما هي منذ 50 عاما، مازالت الأم مطحونة مسئولة عن كل شيء ومازالت الشخصية كما هي بمشاكلها وأزماتها، وهذا يؤكد ان تناول المؤلفين للشخصية المصرية هو الذي يحتاج إلي إعادة ترتيب وتفكير من جديد، للأسف لا يوجد تركيز علي شخصية الأم ويتم التعامل معها كشخصية فرعية هامشية غير مهمة، وأيضا هناك تهميش لدور الأب وأصبحت الدراما تعتمد علي تقديم نماذج غير حقيقية تشرح رسائل سلبية مثل ما حدث مع الابن الذي أحرق والده والأزمة ان ما تقدمه المسلسلات يعاد تنفيذه في الواقع، الكتاب لا يستوعبون ان الدراما هدفها تقديم سلوكيات وتفاصيل للمجتمع يتعلم منها مثل شخصية «زينب» التي ضحت من أجل أبنائها واستعرض العمل النجاح الذي حققته في نهاية أحداث مسلسل «الشهد والدموع» أو «شريفة الهجان، الأخت الحنون التي أوضحت قيمة الأشقاء والتي غابت الدراما عن تجسيد مثل هذه المشاعر، والدليل ان الممثل المصري عندما يسافر إلي دولة عربية أو أوروبية ينادينا الأجانب بأسماء شخصياتنا، فدور الممثل أن يقدم رسالة تفيد الجمهور ووقتها نحقق النجاح بصدق وهذا لا يعني فقط تقديم الدور الطيب لكن حتي الأدوار الشريرة تقدم رسالة، وهذا أيضا يتوقف علي تغيير نفوس الفنانين أنفسهم لان «النفسنة» أصبحت سمة رئيسية للوسط الفني علي عكس ما كان يحدث من اجتماعات لتقديم الأعمال بشكل محترم فاتذكر ان العمل الفني يخرج منه الممثلين أصدقاء عمر وتشعر انهم يقدمون شخصياتهم علي الشاشة لذلك يتقنون الأداء فيها. وأشارت «شعيب»: إذا استعرضنا المسلسلات التركية سنجد ان الكتاب يعتمدون أكثر علي تناول دور العائلة الأم والأب والشقيق والشقيقة والعم والخال لكن في الدراما المصرية الآن، لاعتماد علي واقع مختلف وكأن العائلة لم يعد لها دور في المجتمع والتسلسل الدرامي له سياق مختلف، أيضا مسلسلات الخليج الآن تهتم بالعائلة وتعطي تفاصيل كاملة لجو العائلة والاهتمام بالشكل والمضمون لكل فرد في العيلة ولا يعتمد علي تهميش شخصية بعينها ولكن المسلسلات المصرية الآن لم تعد تعرض الشخصية لكنها بحث عن الجرأة وتعرضها لذلك فقدت رواجها في الخليج بالشكل المطلوب. آثار الحكيم: بعد خمس سنوات سوف تضيع ملامحنا زهرة «ليالي الحلمية»، عايدة في «زيزينيا» «هند» في «الحب وأشياء أخري» شخصيات وصفت الرومانسية والطموح لفتاة صغيرة السن وصفتها الفنانة آثار الحكيم أنها لم يعد يتم الاهتمام بها في ظل هذا العصر ولغته السريعة وقالت: كل عصر وله لغته ومفرداته وأشخاصه الذين يعبرون عن هذه اللغة، الشباب لهم عالمهم والموضوعات التي يتأثرون بها ورد فعل المتفرج يجبر المنتج علي تقديم العمل وبالتالي المقياس للنجاح أو تكرار نوعية موضوعات بعينها، وهذا خطأ لان الانغماس وراء موضوع واحد فقط من الأحداث أفقد الشخصية المصرية هويتها الأصلية. وأضافت «الحكيم» الشخصيات التي قدمتها في ليالي الحلمية وزيزينيا وغيرهما كانت تعتمد السيناريو بشكل أساسي في كتابة الشخصيات بشكل متكامل وخلفيات واضحة وأسباب سلوكياتها وهذا يعتمد علي حرفية الكاتب وتمكنه من أدواته وفهمه للموضوعات التي يكتب فيها. وهذا لم يعد يحدث في الشخصيات الموجودة في الدراما الآن، فالنماذج نفسها أصبحت مختلفة، الطبقات المتوسطة والمترفين كل منهم له لغة محددة مختلفة، وحتي في سلوكيات الحارة أصبحت لهجتها الألفاظ الخارجية والمطواة وكأنها مفردات حقيقية للواقع المصري لينشر من خلال ذلك سمات العنف وهذا نتاج لكلمة العولمة، التي أجبرت الكتاب علي تقديم ثقافات مختلفة اقتحمت العالم وأصبح الكاتب مرغماً علي تناول تلك الثقافات خاصة ان التعود علي الثقافات الغربية أثر كثيراً علي ثقافة الجمهور، كل ذلك يؤثر علي الهوية المصرية القومية المسيحية الإسلامية المتحفظة ويشكل أجيالاً جديدة لا تهتم بحقيقة الهوية المصرية وبذلك إذا لم تسع الدراما لترسيخ الهوية المصرية بشكل أكثر جدية بالتعاون مع مؤسسات الدولة والأفراد أنفسهم ويتدخل فيها الوزارات باختلافاتها فلن نجد هوية مصرية بعد 5 سنوات. فردوس عبدالحميد: تسويق الأعمال الفنية في الخليج تراجع والسبب موضوعاتنا المشوهة «أنيسة» ليالي الحلمية «فاطمة» ليلة القبض علي فاطمة، مازال النيل يجري «هدي شعراوي» «الشارع الجديد» الأم المصرية التي تبيع ملابسها لتعلم أولادها.. شخصيات افتقدنا معناها جسدتها الفنانة فردوس عبدالحميد في أعمالها وصفتها بوجود أيادي خفية وظيفتها طمس الشخصية المصرية بالكامل، وقالت: أصبحنا في عهد يهدف لطمس الهوية المصرية بمساعدة المنتجين المصريين الذين يقدمون نوعيات غريبة علي مجتمعنا حتي تصير هذه هي الشخصية المجتمعية المطلوب تواجدها، وأضافت ان هذا ما يعرف بحروب الجيل الرابع التي تقتنص الفكر وأفضل طريقة لمتابعة هذه الحرب من خلال الأعمال الفنية المحببة لدي الجمهور التي تقنعه وتقدم له نماذج يسير عليها، فهي أعمال جيدة علي المستوي الفني في الإخراج ومبهرة في الديكور وتجذب الجمهور وتقدم أفكاراً تدخل بسهولة إلي عقل المشاهد وتستقر به وبالتراكم تتغير الشخصية المصرية. وأضافت «عبدالحميد» ان الأعمال الفنية الآن تعتمد علي تقديم شخصيات بأنماط بعيدة عنا، تصور المرأة وكأنها عاهرة دائما، وتقدم تفاصيل عالم الدعارة في المجتمع من خلال أسرة كاملة تعمل في المهمة وتتلذذ بها، وأخري خادمة تحرق مخدومتها لأزمة نفسية نتيجة تطلعات شخصية، وهذه الحوادث كلها تكررت في الواقع بنفس الألفاظ ونفس المفردات ولا يقدم نموذجاً إيجابياً واحداً يقف في وجه تلك السلبيات لذلك يجب ألا نتعامل مع الدراما باستسهال لان الشخصية المصرية بدأت تسقط. وأرجعت «عبدالحميد» غياب تسويق الأعمال المصرية في الخليج لتخوفات العرب من نقل مساؤنا إليهم خوفا علي مجتمعتهم وقالت العرب يشعرون بغربة الشخصية المصرية التي يعرفونها، فحافظوا علي رصيدنا لديهم ولهجتنا التي احترموها وانتشرت في العالم وامتنعوا عن شرائها، وتساءلت: عرض الأعمال علي القنوات المصرية لا يكفي لتغطية تكاليف إنتاج المسلسل الذي يتكلف 80 مليون جنيه فمن أين يحصل المنتجون علي هذه الأموال؟ فحتي نحارب الإرهاب لابد ان نغير من ثقافة وفن الشعب المصري، ونمنع الأعمال المضادة للأمن القومي المجتمعي، بإعادة الرقابة الحقيقية سواء علي رأس المال أو عودة الدولة لإنتاج الأعمال المصرية القومية حتي تقاوم هذا التيار الرهيب، الذي يؤكد ان الشعب الذي استطاع طرد الإخوان في عام واحد بشخصيته المصرية لن يستطيع ان يقف في وجه أي عدو آخر إذا طمثت شخصيته ووصلت لهذا الشكل، فحينما تتغير الشخصية المصرية يمكن السيطرة علي مصر. وأشارت إلي أن الوسط الفني لابد ان يتغير علي كل المستويات، كانت المسلسلات تقام بشكل بروفات قبل بدأ التصوير بشهر علي الأقل حتي تتسني الفرصة لان يتعايش أبطال العمل معا، فالسرعة وصلت إلي كل شيء والأم التي تقف امام الكاميرا تري ابنها لأول مرة يوم التصوير فكيف تتوالد الألفة بينهما ويقنعوا الجمهور بالأداء وأيضا غابت نماذج الشخصيات المناضلة والأخت الكبري تضحي بحياتها من أجل اشقائها، والشخصية الحنونة المعطاءة المنكرة ليتم استعاضتها بشخصيات سلبية طوال الوقت. «لوسي»: دراما العائلة غابت.. والابتذال سيد الموقف «حمدية» ليالي الحلمية، دكتورة فاتن «أرابيسك».. نموذج الطبقة الفقيرة التي قدمت نموذجاً لعالم الرقص ولكن بشكل راق بعيد عن الابتذال، والمحبوبة التي تعاني من قلة الحيلة. قالت لوسي افتقدت كثيرا إلي جو العائلة وحب الناس الذي كان يظهر في الشارع تجاه تلك الشخصيات الحقيقية التي كنا نجسدها علي الشاشة، وأضافت: للأسف الدراما الآن افتقدت كثيرا إلي جو الأسرة، وإلي النماذج الإيجابية، الدراما المصرية حدثت فيها نقلة مختلفة علي مستوي التكنولوجيا، اختلفت كثيرا من حيث الموضوعات رغم تقديم أعمال مميزة لكنها لم يعد بها دفء العائلة، يقدم فيها عنف وملابس غير مناسبة لعرضها في مكانها أحيانا فأنا لست ضد ان ترتدي الفنانة ما تريد لكن بدلة الرقص التي ترتديها راقصة علي المسرح تختلف عن البدالة التي ترتديها في السينما أو التليفزيون وهذا علي مستوي السينما أو الدراما، فأنا تعاملت مع عمالقة من الأجيال المختلفة علي سبيل المثال الراحلين أسامة أنور عكاشة وإسماعيل عبدالحافظ فريق عمل لا يتكرر، العائلة كان لها طعم مختلف في الدراما حتي جو العمل كنا مستمتعين به في أرابيسك وبياضة في زيزنيا وحمدية في ليالي الحلمية، وبدرية في سلطان الغرام، فكلها أعمال تنادي بأن الدراما رسالة وهذا ما قامت عليه الكلاسيكيات، ولذلك فإن المؤلفين في أيديهم إعادة هذه الأعمال المحترمة من جديد.