منقد فحم مستند على قفص خشبى قديم .. وفتاة فى ريعان عمرها تجلس أمامه محاولة التقاط أنفاسها بعد النفخ فى منقد الذرة المشوى ليزداد اشتعالاً، حتى تصبح ساخنة فيقبل عليها المارة بميدان الجيزة لتحصل علي عدد من الجنيهات يساندونها في أزر الحياة. "الذرة المشوي .. معسل يا ذرة" كلمات تنادي بها "شيماء" لتجذب زبائنها، تسمع تلك الكلمات وتلفت انتباهك وسط العديد من بائعي الذرة المنتشرين بالميدان، تلك الفتاة التي صبغ رماد الفحم وجهها البريء و يدها بلونه الأسود، أعتادت أصابعها تقليب الذرة على لهيب الفحم الذى لا يستهان بحرارته والذي تحملته بجلد لكسب لقمة عيشها. فتاة حين تراها لا تستطيع أن تحدد عمرها، بجلستها المشابهة لسيدات فى منتصف العمر، ولكن بالتمعن في ملامحها تجدها لا تتعدى ال15عاماً، ولكن اختفت ملامح البسمة من وجهها البرىء ليست كباقى فتيات عمرها. تجلس "شيماء" وسط الميدان تشوي الذرة وتبيعه، ولا يمنعها برد الشتاء القارس، أو حرارة الشمس الحارقة، التى لا تبالي لهم وكأن احوال الجو أخر ما يعير اهتمامها، على عكس باقي بنو الإنسان، الذين حين تتقلب أحوال الطقس يسرعون إلي منازلهم لتأويهم. تحاورنا معها لترفض رفضاً قاطعاُ عدسات الكاميرا التى ستعلن عنها أمام الجميع، كما رفضت أن تفصح عن مطالبها من البرلمان القادم خوفاً على لقمة عيشها، فهؤلاء يخشون الحديث مع الصحافة والإعلام، حتى لا يتعرضوا للضرر من قبل الدولة. حياة تلك الباعة دائماً تحت التهديد بسبب شرطة المرافق التي تأتي من وقت لأخر وتنزع بضائعهم وتخلي الميدان منهم، لذلك يظلوا محتفظين بأوجاعهم ومطالبهم البسيطة لأنفسهم ليستطيعوا تكملة حياتهم دون مشاكل ولا يرددوا سوى كلمة"الحمدلله حياتنا كويسة،راضين بيها". وعقب عدة محاولات من إقناعها بالحديث معنا دون تصوير روت جزء بسيط من قصتها التى تحكيها بمنتهى التلقائية دون الشعور بالآسى أو الحزن. وتقول شيماء"أنا بشتغل من زمان بقالي 10 سنين، أبويا وأمي مطلقين وعايشة مع ابويا العيان عشان كده مدخلتش المدرسة، و كان لازم اشتغل واصرف على علاجه، و أجيب أكلنا وحاجاتنا، خصوصاً بعد ما أمى اتجوزت واحد تانى وسابتنا". "بائعة الذرة" لم تشعر بالندم لعدم إلحاقها بالتعليم وكأنها تقنع نفسها بالرضا بما فرضته عليها الحياة بأن تكون مجرد بائعة ذرة وسط ميدان مزدحم بغيرها من الباعة الجائلين على مختلف بضائعهم، ولا يشغل تفكيرها سوى ماذا ستحصله مما ستبيعه على مدار السنة سواء الذرة أو غيرها. و أخيرًا عجزت فنون الكلمات اللغوية أن تصف حالة تلك الفتاه البسيطة، فطلاقة كلماتها تجعلنا نفقد التعبير، متعجبين كيف أصبحت قسوة الحياة تتجسد فى شخصيتها وتجعلها في حالة اللا مبالاة، وكأنها لا تحمل جبلا من الهموم فوق ظهرها ولا تبوح به لأحد حتى مع قرارة نفسها.