من محاسن الموافقات أني عندما أصبحت بصدد الكتابة عن هذا الموضوع الليلة رأيت الصديق أحمد أبازيد طرقه بالذات. ذلكم هو موضوع السببية .. أو معضلة السببية .. وهي السؤال البسيط : هل ارتباط النار بالإحراق والسكين بالقطع ارتباط ضروري؟ بحيث أن النار سبب للحرق؟ أم أن ارتباطهما محض عادة مطردة مستمرة، وأننا بسبب اطرادها نتوهم أن الارتباط ضروري؟! هناك علَمان كبيران كل في حضارته نفيا السببية، وقالا أن الارتباط محض عادة مطردة، وليس ضرورة لا يمكن أن تتخلف .. وكل منهما نفى السببية ضمن استراتيجة مختلفة تماما عن الآخر. أولهما هو شيخنا أبو حامد الغزالي، وقد نفى السببية لأن ارتباط كل نتيجة طبيعية بسبب طبيعي يعني أن كل الحوادث والظواهر يمكن تفسيرها من داخل الطبيعة نفسها، وبالتالي فالكون شبكة من الأسباب والنتائج المحكمة المترابطة التي لا يمكن أن تتخلف، والمآل الطبيعي لهذه الفكرة هو أن الكون مستكف بنفسه عن أي شيء من خارجه. وبالتالي، فإما أنه بلا خالق، أو أن خالقه أودع فيه كل الأسباب التي تجعله يتحرك تلقائيا بميكانيكية صارمة، كالساعة التي يصنعها صانعها ثم تتحرك وحدها بلا تدخل منه. وقد أدرك الغزالي بفطرته النقية وعقله المتسع أن الله مهيمن على الكون بالخلق والتسيير معا، وأنه تعالى "يمسك السماوات والأرض أن تزولا" ، وأنه تعالى فاعل في الكون باستمرار، وإن جادلنا في فعاليته في الطبيعة فلا يمكن أن نجادل في فعاليته -تعالى- في الهداية والإلهام والتوفيق وإنزال السكينية على المؤمنين والتجلي عليهم بالقرب والرضا، وكلها أمور من الخطأ أن نفسرها بالسببية الحتمية، لأن هذا سيجعل من كل هذه المعاني الروحية محض قوانين يمكن استكناهها وتوظيفها. أما ديفيد هيوم ، شكاك اسكتلندا العتيد، فقد نفى السببية لغاية مختلفة تماما. فقد كان هيوم بصفته تجريبيا يريد أن يخلص الطبيعة - أو الواقع- من كل بقايا الأوهام الميتافيزيقية التي يسقطها الإنسان عليها، كي يتسنى الوصول إلى تجريبية خالصة صافية ليس فيها إلا الطبيعة أو الواقع الخارجي. ولمّا كان يرى أن السببية وهم يسقطه الإنسان على الطبيعة، وليس شيئا موجودا فيها، فقد نفاها وأنكرها. وتدين فلسفة العلوم لهيوم بأنه، بشكه الفلسفي الصارم، استبق ما ستخبرنا به النظرية النسبية لاحقا من أنه لا حتمية ولا ميكانيكية في الطبيعة، ولا ارتباط ضروريا، أما السببية الصلبة فتليق بفيزياء نيوتن وتصوره للكون، لا للفيزياء الحديثة والكون كما نعرفهما الآن. هيوم سبق عصره ، أما الغزالي فسبق عصورا .. وقد يكون مفهوما أن يدعي البعض أن رؤية الغزالي أضعفت الحس التجريبي للمسلمين في عصره، لكن هذه الدعوى تغفل أن الغزالي لو أراد أن يقطع شيئا فسيستخدم سكينا، ولن يجلس يدعو الله أن يقطعه له. فهو لم ينف السببية إلا من حيث كونها ضرورية لذاتها لا لأن الله من لطفه بالناس جعل في الطبيعة عادات مطردة. ولذا فهذا استنتاج غير دقيق. لكن غير المفهوم أن يصر بعض الإسلاميين اليوم على اتهام الغزالي بإضعاف الحس التجريبي بعد ما بتنا نعرفه عن النسبية والكم .. فضلا عن أصحاب الاتجاهات الأخرى، الذين سيظلون مثالا طريفا على تصغير الموضوع المدروس على مقاس أفهامهم بدل توسيع أفهامهم لآفاق أرحب.