تذكرت ليلة 1 مارس 2007، حين اعتقلت بعد شكوى كيدية من أحد القساوسة، قدمها مباشرة لرئاسة الجمهورية، بسبب نشاطي في مقاومة التنصير وقتها. بعد أقل من 24 ساعة فقط من تقديم الشكوى، تم اعتقالي أنا وصديق عمري حسام أبو البخاري والأستاذ علي الريس، وعدد من أعلام مقاومة التنصير وقتها. ظللنا شهرا كاملا في سلخانات أمن الدولة. ويوم 1 مارس، وضعت الكلابشات في يديّ، وتم اقتيادي وحيدا لسجن طرة. على بوابة السجن، خلعت الجينز والهاف كول والكوتشي، ولبست الخيش الأبيض. وكتب على ملفي جملة «إيداع بمعرفة الجهاز»، وعلمت فيما بعد أن المقصود بالجهاز هو جهاز أمن الدولة. وأن أي تعامل معي يتم بتعليمات من الجهاز وبأوامر مباشرة من الضابط أحمد شوقي، ضابط أمن الدولة بالسجن فقط. والله، كان يقترب مني المخبرون ويسالونني همسا: إنت عملت إيه؟ وعندما كنت أجيبهم أنني ناظرت أحد القساوسة في معرض الكتاب وأفحمته، كانوا ينظرون إليّ بعين الشك .. فالإجراءات الأمنية المتبعة معي كانت صارمة وقاسية لدرجة أن ضباط السجن كانوا يتعجبون منها. فعلى سبيل المثال، تم إيداعي زنزانة انفرادية طولها متران وعرضها متر ونصف، في ممر مفصول عن باقي الزنانين الأخرى بباب حديدي مصمت، وهذا الممر مغلق بثلاث أبواب من الجهة الأخرى، وتمّ إخلاء جميع الزنازين الموجودة بالممر بحيث أكون وحيدا تماما. ممنوع خروجي من الزنزانة تماما بأي حال. ظل باب الزنزانة مغلقا عليّ قرابة ثلاثة أشهر لا أرى فيها وجه إنسان أو أسمع صوتا سوى صوت الشاويش، وهو يناولني من شباك الباب صحنا من الفول وبعض أرغفة كل صباح. وحين وردت إشارة من جهاز أمن الدولة بإخضاعي للفحص الطبي، وعلى عكس كل المسجونيين، كان طبيب السجن يضطر للانتظار حتى الساعة الثالثة عصراً، حيث تنتهي ساعة الفسحة لباقي المسجونين، ويتم إغلاق الأبواب على الجميع. ثم يحضر مخبر وشاويش إلى زنزانتي، ويصطحبوني لطبيب السجن. كان الطبيب في سجن الاستقبال طبيب مدني منتدب من مصلحة السجون، ولم يكن طبيبا عسكريا، لهذا كانت فيه بقية من آدمية. كانت التعليمات صارمة للجميع ممنوع أن أترك بمفردي حتى أثناء توقيع الكشف عليّ. كان الطبيب يحاول اقتناص أي غفلة من الحارس ليسألني عن سبب هذه الاجراءات الامنية المشددة حولي. منعت من زيارة أهلي، ومنعت من رؤية الشمس، ومنعت من سماع أو مشاهدة أي مخلوق لمدة ثلاثة أشهر. كنت أقضى وقتي بين المصحف والصلاة والنوم فقط. في أحد الأيام، كان اللواء سمير سلام، مدير ملصحة السجون الجديد وقتها، يتفقد سجن الاستقبال، وفجأة نظر إلى زنزانتي وقال: «أفتح هنا». والله العظيم فزع حين رآني بمفردي، وقال: أنت لوحدك هنا؟ قلت: نعم يا افندم؟ قال لي: منذ متى؟ قلت من ساعة ما جيت يعني قرابة 3 شهور. قال: انت جيت في إيه؟ قلت: والله ما اعرف، أنا لقيت قسيس بيتكلم مع شباب مسلمين في معرض الكتاب، فتدخلت في الحوار، ودار ما يشبه المناظرة بيني وبينه، وبعدها قُبض عليّ وجابوني هنا. تقدم اللواء عمر الفرماوي، وكان يشغل وقتها منصب مدير مباحث مصلحة السجون قبل أن يتم تعيينه مديرا لأمن 6 أكتوبر ويصبح متهما رئيسا في قضية مبارك والعادلي، تقدم الفرماوي لكيس معلق بجوار باب الزنزانة فيه بعض الأدوية. ورفع شريط دواء في وجوه الضباط وقال: «ده بياخد دينترا»، وهو دواء شهير للقلب. انزعج اللواء سمير سلام، وقال: «لا لا لا ده ما ينفعش يقعد لوحده». مال أحد الضباط على أذنه، وهمس له: «يا أفندم ده تبع الجهاز». هز سمير سلام رأسه، وقال: طب ناقصك حاجة؟ قلت— بتهكم—الحمد لله يا أفندم، وأنا حأعوز أكتر من كده إيه؟ أغلق باب الزنزانة وأنا أضحك من قلبي. وفي اليوم التالي، أسرّ لي الشاويش أن مدير المصلحة قال لضابط أمن الدولة: «يا أحمد بيه، ده ممكن يموت وساعتها أنا اللي حتحاسب عنه والتقرير بيقول أنه شخصية معروفة .. لو عايز تعزله حطه لوحده بس يكون جنب ناس بحيث لو تعب وللا حصل له حاجة الناس تنبهنا». وقد كان. فتم نقلي بعد يومين من عنبر «ج» لزنزانة انفرادية أخرى بعنبر «د» كان فيه بعض المتهمين بتفجيرات سيناء والأزهر، وسمح لي بالخروج ساعة يوميا للتريض. لكنهم رفضوا السماح لأهلي بزيارتي حتى أعلنت إضرابا عن الطعام لعدة أيام. وساءت حالتي وتم استدعاء اللواء عمر الفرماوي مرة أخرى وضابط مجهول من أمن الدولة. وتعهدوا بالسماح لأهلي بزيارتي مرتين في الشهر. في قلب هذه المحنة، رزقني الله منحا عديدة. فأدركت قيمة القرآن وأثره في الإنسان، وأدركت نعمة قيام الليلة والصلة المباشرة بالله، وأدركت قيمة الدعاء ومدى فاعليته. كانت تمر عليّ لحظات في زنزانتي الانفرادية أتعجب وأسجد شكرا لله على هذه السعة والطمأنينة التي أجدها في صدري رغم وضعي البائس. تذكرت كل هذا وأنا أقرأ عن أول ليلة لمبارك في زنزانته الفارهة التي لا تبعد كثيرا عن زنزانتي الانفرادية القديمة. هل كنت أتصور وأنا في لحظاتي العصيبة هناك والشيطان يحاول أن يزرع اليأس والخور والحزن في قلبي أن مبارك بعد خمس سنوات سيكون في زنزانة مجاورة! كما أني الآن لا أدري ما يحدثه الله تعالى بعد خمس سنوات من الآن. لكنني أدري جيدا أن المستقبل للإسلام، وأن الله تعالى قال: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ». رضيت بالله رباً وبالاسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.