في ذكرى نكبة فلسطين، نكبة العرب الكبرى، وبعد واحدة من أكبر عمليات التهجير القسري التي عرفها التاريخ في حق أي شعب من الشعوب، تتبدل كل يوم الأمور وتختلف موازين القوى وتوجهاتها، لكن القضية الفلسطينية تبقى كما هي وتظل أهم محاورها الثلاثة وهي: المستوطنات، عودة اللاجئين، القدس العربية. ثلاثة محاور يستعصي على العالم حلهم، أو إحراز أي تقدم فيهم، حتى تنظيمات المقاومة نفسها لم تفعل هذا ولم تقم به، على أنني أرى أن الشعوب العربية هي القادرة على ذلك، وستأخذ زمام المبادرة لتعيد الحق لأصحابه. يأتي الحديث عن عودة اللاجئين ذو البعد الواقعي أكثر ارتباطًا بالحالة الإنسانية والحقوقية والمواثيق والأعراف الدولية، التي نصت على حقوق الإنسان، إلا أنها تتوقف ويتم تفريغها من مضمونها عند الحديث عن الإنسان الفلسطيني، فكما يقول المثل: "الفلسطينيون هم الشعب الوحيد الذين تقمعهم حكومتان في الداخل، وحكومات في الخارج". عرف العالم كله يهود الدياسبورا (يهود الشتات) ومع الوقت أصبح هناك ما يُعرف أيضا ب«فلسطيني الشتات»، أوضاعهم المعيشية في غاية الصعوبة هم مواطنوان وغير مواطنين، معظمهم لا يحمل سوى وثائق سفر في الدول التي يعيشون فيها، لا غاية منها سوى إثبات حالة فقط، تعاني في داخلها معاناة في التنقل والترحال، حالة من عدم الاستقرار والتشتت، عكستها أقلام الأدباء والكتاب والشعراء الفلسطينيين، في كل بقاع الأرض. الفلسطينيون يعيشون قضيتهم، ويضحون من أجلها بكل ما يملكون ما بين شهداء، وأسرى داخل سجون الاحتلال وخارجه بين سجنين بين سجن المنفى (تأملات المنفى على حد تعبير إدوارد سعيد) وبين سجن الظلم والإمبريالية العالمية التي تساند إسرائيل في وجودها، وتتخذ منه قاعدة لها، وتحتاج حالة الفلسطينين في الخارج إلى كثير من التأمل والتدارك والتوقف إزاءها. وهنا استوقفتني حالة البروفسور الفلسطيني سامي العريان، الذي كان يعمل أستاذًا لعلوم الحاسب بجامعة ثاوث فلوريدا، وهو معروف بمواقفه الصلبة والوطنية في الدفاع عن قضيته الفلسطينية وعن قضايا أمته العربية. وقف العريان مدافعًا عن العراق وضد الحرب الأمريكية عليه، وأقام المؤتمرات التي كشف من خلالها زيف الحجج الأمريكية وأكاذيبها لتبرير غزو العراق. اتسمت معارضة العريان في تلك الفترة بكونها معارضة، تقوم على أرضية شعبية كبيرة، تزامنت مع حراك شعبي وإسلامي كبير في جميع أنحاء العالم، وكان لمعارضته تلك دور كبير في فضح الساسة الأمريكان واللوبي الصهيوني. استشعر الجميع أن العريان بدأ يمثل خطرًا داخليًا عليهم ( من وجهة نظرهم) لتبنيه قضايا الأمة العربية، وكونه ناشطًا بارزًا في الدفاع عن قضيته الفلسطينية، وبدؤوا في حياكة خيوط المؤامرة ضده. تم اتهام الدكتور سامي العريان ب17 تهمة جنائية؛ بسبب رفضه الشهادة أمام هيئة محلفين كبرى، تحقق بشأن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الذي كان يديره نخبة من أصدقاء العريان المفكرين والأكاديميين، في ولاية فرجينيا الأمريكية، وهو مركز أبحاث كان مختصا بشؤون العالم العربي والشرق الأوسط، وقضى العريان أكثر من خمس سنوات في السجن الذي دخله في 20 فبراير 2003، بتهمة دعم ما يُسمى ب"الإرهاب" وارتباطه بحركة الجهاد الفلسطينية، التي تصنفها الولاياتالمتحدة كمنظمة "إرهابية". وبعد 10 سنوات من التحقيق الفيدرالي وستة أشهر من المحاكمة قضت هيئة المحلفين بأن الدكتور سامي العريان ليس مذنبًا في التهم الموجهة إليه، المتعلقة ب"الإرهاب"، لكنه رفض الإجابة على أسئلة المحلفين، ولهذا فقد تم الحكم عليه بتهمة احتقار المحكمة، وبعد أربعة أشهر وافق العريان على الاعتراف بأنه مذنب بإحدى التهم في مقابل الإفراج عنه وترحيله، لكن القاضي أصدر حكمه على العريان بأقسى عقوبة ممكنة، وهي 57 شهرًا، في ظل الاتفاق بالإقرار. أثناء سجن العريان فقد وظيفته، بفصله من الجامعة التي كان يعمل بها دون أن يصدر الحكم النهائي في التهم الموجهة إليه، وهنا سقطت الحريات الأكاديمية التي تنادي بها الجامعات الأمريكية وتدّعيها؛ فقد دخلت قضيته في حساب السياسة الأمريكية، ولعبت دورًا مؤثرًا وهامًا في حسم معركة السباق الرئاسي الأمريكي بين جورج بوش وآل غو بولاية فلوريدا، وشن اللوبي اليهودي من خلال مؤسساته المالية والإعلامية هجومًا حادًا ضده، لأجل تحريض وتضليل الرأي العام، وتزييفه تجاه العريان وقضيته. تم الإفراج عن العريان ووضعه تحت الإقامة الجبرية في منزله ومراقبته بالقمر الصناعي؛ لرصد تحركاته واتصالاته من داخل بيته، فهو حبيس داخل أربعة جدران، لا يستطيع أن يتحرك خارج عتبة داره، ويزيد الأمر وضوحًا بأن وكيل النيابة المسؤول عن قصية العريان يهودي صهيوني، في إشارة إلى أن الخصم والحكم واحد، وهنا تسقط اداعاءات أن القضاء الأمريكي مستقل أو نزيه، وبالتالي مراكز اتخاذ القرار داخل الولاياتالمتحدة ليست حرة مستقلة بل هي تعمل لحسابات خاصة. حينما أقارن بين البروفسور العريان وبين عدد من قيادات السلطة الفلسطينية، أستشعر عظمة العريان وقوة صموده وصلابته في الدفاع عن قضيته، وكأنه أسد مُكبّل في عرينه، والآخرون كالأيتام على موائد اللئام. تخلى العالم والأصدقاء عربًا وغير عرب عن العريان وقضيته، وهو ثابت شامخ صامد كالجبل، لم يبق معه سوى رفيقة دربه وأم أبنائه، زوجته المخلصة له ولقضيته، والتي ترى فيها قضية عادلة بعدالة القضية الأساسية فلسطين.. تبقى قضية العريان قائمة ما بقيت قضية فلسطين، حتى لو تم الإفراج عنه ( نأمل هذا قريبًا، ونناشد العالم أن يركز على قضية العريان مرة أخرى)؛ لأن قضايا الوطن لا يمكن أن تُمحى من الذاكرة أو تقبل المساومة. تحية لنضال رجل بأمة، جاهد ومازال يجاهد، وضحّى ومازال يضحي في سبيل أمته وقضيته، إنه سامي العريان. ---------------------------------------------- تنشر بالتزامن مع نشرها بصحيفة "الشروق الجديد".