ما بين الحلويات.. و«الثقة العمومية»!    «المحامين» تمتنع عن حضور الجلسات أمام محاكم الجنايات لمدة يومين    كم سجل عيار 21؟.. سعر الذهب اليوم فى عطلة الصاغة الأحد 18 مايو 2025    سعر الأرز والزيت والسلع الأساسية في الأسواق اليوم الأحد 18 مايو 2025    ارتفاع حصيلة شهداء غارات الاحتلال على خيام النازحين فى خان يونس إلى 35 شهيدا    السيسي: لا سلام دون دولة فلسطينية حتى لو نجحت إسرائيل فى «التطبيع»    عاجل|الجيش الإسرائيلي يعترض صاروخًا أُطلق من اليمن ويواصل ضرباته ضد الحوثيين    الهجرة من الموت إلى الموت    سفارة الولايات المتحدة في ليبيا: التقرير عن خطط مزعومة لنقل سكان غزة إلى ليبيا غير صحيح    «اللوائح هتطبق».. حسام البدري: «لو بيراميدز مكان الأهلي لتم خصم 6 نقاط»    موعد مباراة الأهلي وباتشوكا الودية قبل كأس العالم للأندية 2025    إعلامي سعودي: الزمالك لا يحصل على حقوقه دائما..والعدالة غائبة في الكرة المصرية    أوربان يدعو أوروبا للحاق بالنهج الأميركي في أوكرانيا: "الحل في التفاوض مع موسكو لا في العقوبات"    نقابة المهندسين تُسلّم 225 تأشيرة لأعضائها الفائزين بقرعة الحج بالإسكندرية    هزيمة 67 وعمرو موسى    كامل الوزير يكشف سعر تذكرة الأتوبيس الترددي للمواطنين (فيديو)    ملف يلا كورة.. تأجيل بطل الدوري.. ودية الأهلي الأولى قبل مونديال الأندية.. وصفقة محتملة للزمالك    «مساعدة المنافس لقيد أحد اللاعبين؟».. بيراميدز يهاجم رابطة الأندية    العواصف الترابية تسبب اندلاع حرائق بمركز بلاط وقطع الكهرباء عن قرى الداخلة    جداول امتحانات الشهادة الإعدادية 2025 الترم الثاني في جميع المحافظات    أمطار لمدة 24 ساعة.. بيان مهم بشأن حالة الطقس: «تغير مفاجئ»    الفرص متاحة لكن بشرط.. برج العقرب اليوم 18 مايو    يسرا ل عادل إمام: "كل سنة وأنت طيب يا زعيم قلبي"    ما حقيقة وباء الدواجن القاتل؟ وزير الزراعة يرد على اتحاد المنتجين (فيديو)    حكم صيام الأيام الثمانية الأولى من ذي الحجة.. دار الإفتاء توضح    الأزهر: الإحسان للحيوانات والطيور وتوفير مكان ظليل في الحر له أجر وثواب    للحفاظ على سلامة الطعام وتجنب الروائح الكريهة.. نصائح لتنظيف الثلاجة في خطوات بسيطة    للحفاظ عليها من التلف.. 5 خطوات لتنظيف غسالة الأطباق    ضبط مخالفات تموينية في حملة مشتركة بمدينة الشيخ زويد.. صور    العثور على جثة رجل مكتوف الأيدى واليدين بالواسطى ببنى سويف.. تفاصيل    جهود أمنية مكثفة لضبط المتهمين بسرقة جواهرجي في قنا    نتيجة مباراة باريس سان جيرمان وأوكسير في الدوري الفرنسي    بسداسية أمام بريست.. نيس يختتم الدوري رابعا ويضمن المشاركة في أبطال أوروبا    لوهافر ينتزع فوز البقاء أمام ستراسبورج في الوقت القاتل    قطاع الفنون التشكيلية يُكرّم القائمين على الأنشطة المتحفية في اليوم العالمي للمتاحف    أول تعليق من الدبيبة على اغتيال الككلي وتصاعد الأحداث في ليبيا (فيديو)    ننشر تفاصيل تسهيلات الضرائب العقارية قبل عرضها على البرلمان نهاية يونيو (خاص)    الزراعة تكشف حقيقة نفوق ثلث الثروة الداجنة    الأرصاد: انخفاض ملحوظ في درجات الحرارة اليوم    ترتيب الدوري الفرنسي.. موناكو يتأهل لدوري الأبطال وهبوط سانت إيتيان    الاقتصادية تنظر أولى جلسات محاكمة راندا البحيري بتهمة سب وقذف طليقها    بالصور.. جينيفر لورانس وروبرت باتينسون يخطفان الأنظار في مهرجان كان السينمائي    فيلا فيضي باشا ومبنى الشوربجي.. أسبوع القاهرة للصورة يعيد الحياة إلى أماكن وسط البلد التراثية    انقطاع الكهرباء بطور سيناء اليوم الأحد 5 ساعات للصيانة    هل الأتوبيس الترددي بديل لمترو الأنفاق على الدائري؟.. كامل الوزير يجيب    بالصور.. رامي صبري والنجوم يحتفلون بعيد زواج المهندس محمد عطا وسيدة الأعمال فاطمة المهدى    خبير لإكسترا نيوز: إسرائيل لن تسمح بحل الدولتين لتعارضه مع حلمها الإمبراطوري    تعاون بين «التأمين الشامل» و«غرفة مقدمي الرعاية الصحية»    وزير الشباب والرياضة: نتحرك بدعم وتوجيهات الرئيس السيسي    "الجبهة الوطنية" يعلن تشكيل أمانة الرياضة برئاسة طاهر أبوزيد    أمين الفتوى يوضح أهمية قراءة سورة البقرة    افتتاح ورشة عمل بكلية دار العلوم ضمن مبادرة «أسرتي قوتي»    تفاصيل لقاء بطاركة الكنائس الأرثوذكسية الشرقية بالشرق الأوسط في مركز لوجوس بوادي النطرون    رئيس جامعة الأزهر يكشف الحكمة من تغير أطوار القمر كما ورد في القرآن    رئيس جامعة طنطا خلال زيارة طالبات علوم الرياضة: تحركنا لصالح بناتنا    عالم أزهري: «ما ينفعش تزور مريض وتفضل تقوله إن كل اللي جالهم المرض ده ماتوا»    3 أمناء مساعدين بالجبهة الوطنية.. زكى والصريطي للفنون وضيف الله للتنظيم    تُربك صادرات الدواجن عالميًا.. أول تفشٍ لإنفلونزا الطيور يضرب مزرعة تجارية بالبرازيل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأسس الدينية لتحالف الحضارات
نشر في التغيير يوم 17 - 05 - 2012

في البداية، أود أن أنوه بهذا التعبير الجديد «تحالف الحضارات»، وأحيي الذين أطلقوه ودعوا إلى العمل بمقتضاه، ومنهم رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان، ورئيس الوزراء الإسباني السيد ثاباتيرو، وتحية خاصة للسيد ثاباتيرو الذي قرن القول بالعمل، بل بدأ بالعمل قبل أن يطلق شعار «تحالف الحضارات»، وذلك حين بادر بسحب قوات بلاده من العراق. لقد أخرج قواته من العدوان وغزو بلاد الآخرين. لقد أخرجها من «تحالف تدمير الحضارات»، وبذلك يحق له ويقبل منه أن يدعو إلى «تحالف الحضارات»، ولو بقي منخرطا في غزو العراق وفي الحرب العدوانية عليه، لكانت دعوته إلى تحالف الحضارات مجرد ضحك على الذقون!
لا حروب باسم الحضارات؟
نعم، إن الحضارات تتحالف، أو يمكن أن تتحالف، والحضارات تتحاور وتتلاقح، وتتكامل وتتوارث. لكن الحضارات لا تتصارع ولا تتحارب ولا تتقاتل، حتى لو تم ذلك كله باسمها. فليس هناك حروب ولا صراعات بين القيم الحضارية والمنتوجات الحضارية: علمية أو عمرانية، أو ثقافية، أو خلقية. هذه العناصر التي تتمثل فيها الحضارات والإنجازات الحضارية، هي بطبيعتها غير قابلة للصراع والاقتتال. بل هي قابلة فقط للتلاقح والتآلف والتأليف، وقابلة للتفاهم والتلاحم.
أما الحروب بطبيعتها عمل غير حضاري، الحروب دائما مدمرة للإنتاج الحضاري ومضادة للتحضر، حتى حينما تكون حربا مشروعة، دفاعية أو اضطرارية. أما حينما تكون حربا ابتدائية عدوانية فمن أصلها تكون عملا همجيا وحشيا مضادا لكل نزوع حضاري، وخاصة حروب هذا الزمان التي إذا اشتعلت، فإنما هي كنار جهنم «لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر»، وذلك بسبب أسلحتها الفتاكة المدمرة دمارا شاملا.
إن الحروب التي تتم باسم الحضارات وباسم الانتماء الحضاري، هي شبيهة بكثير من الحروب التي تتم باسم الديانات والانتماء الديني، بينما الدين وقيمه ومبادئه هي أول ضحايا تلك الحروب.
إن الدين بما هو مؤسِّس للحضارات وموجه نحو السلوك الحضاري، لا يمكن إلا أن يكون عنصرا للتكامل الحضاري والتحالف الحضاري. وإن الأديان المنزّلة بصفة خاصة لها من القيم والمبادئ المشتركة، ما يشكل أصلب أساس وأقوى دافع لهذا التكامل والتحالف بين الحضارات وأهلها. بل إن الديانات والرسالات المنزلة، إنما هي حلقات ولبنات في بناء واحد وصرح ديني حضاري واحد. وهذا ما مثله أبلغ تمثيل ووضحه أجمل توضيح حديث النبي(ص) الذي قال فيه: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين».
وأبعد من هذا في تصوير الوحدة الجوهرية بين الرسل ورسالاتهم، قوله عليه الصلاة والسلام الأنبياء إخوة لعَلاَّت ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد" فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، مهما اختلفت أجناسهم وأعصارهم وخصوصياتهم، يبقون أبناء دين واحد وأصحاب رسالة واحدة.
فالرسالات المنزلة لا ينقض بعضها بعضا، ولا يسفِّه بعضها بعضا، وإنما يعزز بعضها بعضا ويؤكد بعضها بعضا ويكمل بعضها بعضا. والتكميل هنا إنما هو بالنسبة إلى تقدم الأزمان وتطور الأحوال، وإلا فهي كاملة كافية في زمانها وظروفها.
الرسل ورسالاتهم، في تتابعهم وتعاقبهم، ليسوا كالحكام والحكومات «كلما دخلت أمة لعنت أختها»، بل هم كلما جاءت رسالة أيدت أختها وكملت سابقتها.
التحالف الحضاري على أساس كليات الدين
الرسالات والكتب المنزلة بالرغم مما بينها من اختلاف، وبالرغم مما عرفته من تغيير وقع بالحق أو بالباطل تتضمن رصيدا كبيرا وأساسيا من العقائد والمبادئ والمقاصد المشتركة. وهي تمثل قيما رفيعة رافعة لكل تطلع حضاري ولكل سلوك متحضر. وما دامت الشعوب المتدينة والمتحضرة تشترك في الإيمان بهذه القيم والمبادئ والمقاصد، فإنها بذلك، تمثل أساسا لإقامة التحالف الحضاري حولها وحول العمل على إقامتها وتفعيلها وحمايتها ورعايتها.
من ذلك إقامة العدل والإنصاف بين الأفراد والجماعات والدول والشعوب. قال الله تعالى: «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط». فقد تضمنت هذه الآية الكريمة الإخبار عن الله تعالى بأن الهدف الجامع والمقصد المشترك لإرساله كافة الرسل، ولما أنزله معهم من الحجج والكتب والموازين، إنما هو إقامة القسط بين الناس، وإقامة الحياة كلها على القسط. ومما يعزز كون القسط هدفا كليا كونيا ثابتا، مجمعا عليه بين الأمم والملل، هو أن هذه الكلمة نفسها «القسط» التي استعملها القرآن كثيرا.
ولا أظن أن العلاقات الدولية، والعلاقات الحضارية بين الأمم والشعوب، هي اليوم تحتاج شيئا أكثر من حاجتها إلى العدل. نعم إلى العدل الحقيقي الذي ترتاح إليه وترتاح به الشعوب كافة، قويُّها وضعيفها. ولا يكون العدل عدلا حتى يعترف به الضعفاء والمغلوبون. أما «العدل» الذي يصنعه المستكبرون، ويفرضه المحاربون المنتصرون، ويئن تحت وطأته المستضعفون، كالذي يتجلى في تركيبة «مجلس الأمن» وقراراته ومعاييره، فتلك حكاية مقيتة لا تحقق أمنا ولا ترفع جورا، بل هي مجرد غنيمة من غنائم الحرب، ونتيجة من نتائج التفوق العسكري.
وفي هذا السياق أيضا سياق القسط والعدل بين الناس نجد قاعدة أخرى من القواعد الكلية التي نادت بها واعتمدتها جميع الكتب والشرائع المنزلة، وهي اليوم ودائما من ضرورات إقامة أي علاقة حضارية وأي تحالف حضاري بين الأمم والشعوب، تلك هي القاعدة المذكورة في قوله تعالى: «أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفّى ألا تزر وازرة وزر أخرى».
فهي قاعدة تشريعية وسياسية مستقرة مستمرة مع جميع الرسل والرسالات، بل عند جميع العقلاء المنصفين. ولذلك جاء في منظومة «العمل الفاسي»: ولا يؤاخذ بذنب الغيرِ ** في كل شرع من قديم الدهرِ
لكن، إذا كانت هذه القاعدة قاعدة مسلمة، فإن انتهاكها في العلاقات الدولية قديما وحديثا هو أيضا قاعدة مسلمة. وهو انتهاك يعيق العلاقات الحضارية بين الأمم ويسممها. فما زالت الحوادث الفردية والتصرفات الفردية تتخذ ذريعة لمحاربة الشعوب والجماعات والديانات والحضارات، وقد يصل ذلك إلى حد الغزو والاحتلال، مع ما يتبع ذلك من تقتيل وتدمير وترسيخ للعداوة والكراهية.
لذلك من أول ما يجب إدراجه في كل تفاهم أوتحالف حضاري، هو إقرار قاعدة "لا تزر وازرة وزر أخرى" والدفاع المشترك عنها، ومناهضة من ينتهكونها.
مرتكزات البناء الحضاري
وإن مما يعزز التواصل الحضاري والتعامل الحضاري، تبادل البر والإحسان بين الشعوب والطوائف المختلفة. وخاصة تلك المختلفة دينيا ومذهبيا. وحتى حينما كان المسلمون في أوج محنتهم مع المشركين ومعاناتهم من حملاتهم العدوانية، حتى وصل الأمر إلى معارك حربية دامية، فإن القرآن الكريم قد وجه المسلمين إلى استحضار إمكانية التوادد والإحسان مع غير المنخرطين في العدوان والإجرام. قال عز وجل: «عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ». وقال عن أهل الكتاب من النصارى واليهود «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ».
وفي وقت مبكر من تاريخ الدعوة الإسلامية، وجه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه المضطهدين في أقوامهم للهجرة إلى بلد يحكمه ملك نصراني، كان من أهل العدل والإيمان والإحسان، فقال عليه الصلاة والسلام: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد»، وكذلك كان.
ومما لا يجهله ولا يجحده أحد، أن تزكية النفوس والارتقاء الخلقي بها هو أحد المرتكزات الأساسية لكل بناء حضاري ولكل تعامل أو تحالف حضاري. وهذا المرتكز هو أحد المقاصد الكبرى المشتركة بين الأديان كافة، لذلك اعتبر خاتم الأنبياء عليهم السلام نفسه مدعما ومكملا لما أسسه وبدأه الأنبياء من قبله، حيث قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»
ومن نماذج ذلك في القرآن الكريم: «وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ليسأل الصادقين عن صدقهم»، فخلق الصدق والتمسك بالصدق، يستحق كل هذه العناية، وهذا الميثاق الغليظ المأخوذ على كافة الأنبياء. ومن المبادئ والمقاصد المشتركة بين الأديان، هذه المجموعة من الصفات التي امتدح القرآن بها بعض أهل الكتاب، في قوله تعالى: «من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يومنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين».
ملة أبيكم إبراهيم
وامتداح أهل الكتاب بهذه الصفات لا يعني اختصاصهم بها وتفردهم بإقامتها، بل هو تنبيه على أن بيننا وبينهم أشياء كثيرة مشتركة، وهي أساسية عندنا وعندهم. وقريب من هذا ما جاء في قوله جل وعلا «يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج». ثم جاء التنبيه على أن هذه المضامين قديمة وثابتة ومشتركة بقوله: «ملة أبيكم إبراهيم»، أي هذه هي مضامين ملة إبراهيم.
فهذه المبادئ والمقاصد الثابتة المشتركة تشكل أرضية صلبة للتفاهم والتقارب والتعاون بين المؤمنين بها، بل هي تمثل العمود الفقري للكتب المقدسة والشرائع المنضوية تحتها. وهي بذلك تمثل عناصر حيوية للتوحد والائتلاف حولها وحول ما ينبني عليها، فضلا عن كونها حدّا أدنى من إقامة الدين وأركانه الأساسية. وفي هذا يقول المولى تبارك وتعالى «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه».
قال القاضي أبو بكر بن العربي الإشبيلي، يوضح طبيعة هذا الدين الذي جاء الأمر والوصية بإقامته على لسان جميع الرسل، من لدن نوح إلى محمد، مرورا بمن بينهما كإبراهيم وموسى وعيسى، قال رحمه الله: "المعنى: ووصيناك يا محمد ونوحا، دينا واحدا، يعني في الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع وهي: التوحيد، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والتقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال. والتزلف بما يرد القلب والحاجة إليه، والصدق والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وتحريم الكفر، والقتل، وأذية الخلق كيفما تصرفت، والاعتداء على الحيوانات كيفما كان، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات..." إلى أن قال: "فهذا كله شُرع دينا واحدا وملة متحدة، لم يختلف على لسان الأنبياء".
هذا الاتحاد والثبات في الأسس والكليات بين الشرائع المنزلة، هو ما عبر عنه الإمام الشاطبي الغرناطي بقوله "النسخ لا يكون في الكلمات ... ومن استقرأ كتب الناسخ والمنسوخ تحقق هذا المعنى، فإنما يكون النسخ في الجزئيات". وقال رحمه الله "وكثير من الآيات أُخبر فيها بأحكام كلية كانت في الشرائع المتقدمة، وفي شريعتنا، ولا فرق بينهما".
فإذا كان الناس اليوم يتحدثون عما يسمى بالقيم الكونية، فإننا من خلال الثوابت الدينية عبر العصور، نستطيع أن نتحدث عن القيم والمبادئ الأزلية الأبدية. وهي أساس للترقي والتحضر، وأساس للتفاهم والتحالف بين الحضارات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.