4 ديسمبر 2025.. الدولار يستقر في بداية تعاملات البنوك المحلية عند 47.63 جنيه للبيع    اسعار المكرونه اليوم الخميس 4ديسمبر 2025 فى محال المنيا    وزير الكهرباء يبحث مع «أميا باور» الإماراتية التوسع في مشروعات الطاقة المتجددة    وزير التنمية المحلية: تنفيذ 57 حملة تفتيش ميدانية على 9 محافظات    تخصيص قطع أراضي لإنشاء وتوفيق أوضاع 3 مدارس    قادة البنتاجون يبررون للكونجرس أسباب الضربة المزدوجة في الكاريبي    المعرض الدولى الرابع للصناعات الدفاعية ( إيديكس - 2025 ) يواصل إستمرار فعالياته وإستقبال الزائرين    تركيا تدرس الاستثمار في حقول الغاز الأمريكية بعد سلسلة صفقات استيراد الغاز المسال    أجواء أوروبية تضرب مصر.. درجات الحرارة اليوم وأبرد المناطق على مدار اليوم    موعد صلاة الظهر..... مواقيت الصلاه اليوم الخميس 4ديسمبر 2025 فى المنيا    "القومي للمرأة" ينظم لقاءً بعنوان "قوتي في مشروعي.. لمناهضة العنف"    وزير الزراعة يدلي بصوته في جولة إعادة انتخابات مجلس النواب بدائرة الرمل    بوتين: محاولات الضغط الاقتصادى على الدول ذات السيادة تسبب مشاكل لأصحابها أنفسهم    وفد من مجلس الأمن يصل سوريا في أول زيارة من نوعها    يوم كروي ساخن.. مواجهات حاسمة في كأس العرب وختام مثير للجولة 14 بالدوري الإنجليزي    الحقيقة الكاملة حول واقعة وفاة لاعب الزهور| واتحاد السباحة يعلن تحمل المسئولية    مصر تقيم احتفالية كبرى لوزراء البيئة وممثلي 21 دولة من حوض البحر المتوسط    الداخلية تضبط شخصا يوزع أموالا بمحيط لجان انتخابية فى جرجا    محكمة جنح أول الإسماعيلية تؤجل نظر محاكمة والد المتهم بجريمة المنشار    اختفاء يتحوّل إلى مأساة فى أسيوط.. تفاصيل العثور على جثتين من أسرة واحدة    السيطرة على حريق مخزن فى حدائق الأهرام    طرح برومو ملوك أفريقيا استعدادًا لعرضه على الوثائقية الأربعاء المقبل    تحقيقات عاجلة بعد اعتداء على ممرضة في مستشفى الفيوم العام    الصحة: مباحثات مصرية عراقية لتعزيز التعاون في مبادرة الألف يوم الذهبية وتطوير الرعاية الأولية    سعر الذهب يتراجع 10جنيهات اليوم الخميس 4 ديسمبر.. وعيار 21 يسجل هذا الرقم    اليوم الثاني للتصويت بالبحيرة.. إقبال لافت من الناخبين منذ فتح اللجان    بيراميدز يخسر جهود زلاكة أمام بتروجت    استمرار الغلق الكلي لمحور 3 يوليو.. تعرف على البدائل    «الأعلى للأمناء»: منهج البرمجة والذكاء الاصطناعي يجهز جيل المستقبل    مانشستر يونايتد يستقبل وست هام في مباراة خارج التوقعات بالبريميرليج    فيدرا تدعم منى زكي بعد الانتقادات بسبب فيلم الست: ممثلة تقيلة وموهبتها تكبر مع كل دور    رمضان 2026| سوسن بدر تتعاقد علي «توابع »ل ريهام حجاج    الإدارية العليا تتلقى 159 طعنا على نتائج المرحلة الثانية لانتخابات النواب    استشهاد 5 فلسطينيين وإصابة 32 آخرين في عدوان الاحتلال على خان يونس    في أول ظهور له.. رئيس سموحة الجديد يكشف خطته لإعادة هيكلة النادي وحل أزمات الديون والكرة    بوتين يعلن معارضته لبعض نقاط الخطة الأمريكية للحرب في أوكرانيا    محافظ الدقهلية ينعى الحاجة سبيلة صاحبة التبرع بثروتها لصندوق تحيا مصر    فيديو.. متحدث الوزراء: عملية تطوير القاهرة التاريخية شاملة ونراعي فيها المعايير العالمية    وزير العمل يستقبل مدير مكتب منظمة العمل الدولية بالقاهرة لبحث تفعيل التعاون في الملفات المشتركة    هل وجود الكلب داخل المنزل يمنع دخول الملائكة؟.. دار الإفتاء تجيب    حبس شبكة تستغل الأطفال في التسول بالقاهرة    كتيب عن المتحف المصرى الكبير.. طالب يلخص الحكاية فى 12 صفحة.. صور    المنيا.. حين تعود عاصمة الثقافة إلى مسرحها الأول    تعليم البحيرة تصدر تعليمات مشددة للتعامل مع الحالات المرضية المشتبه بها داخل المدارس    عبد الحميد معالي يهدد بفسخ تعاقده مع الزمالك    بعد إلغائه لغياب تقنية الVAR.. البدري ومصطفي في مواجهة حاسمة الليلة بنهائي كأس ليبيا على ستاد القاهرة    لو عندى نزلة برد أعمل إيه؟.. الصحة توضح خطوات التعامل والوقاية    اللهم إني أسألك عيش السعداء| دعاء الفجر    دولة التلاوة.. المتحدة والأوقاف    حلمي عبد الباقي يكشف إصابة ناصر صقر بمرض السرطان    أحمد حمدي يكتب: هيبة المعلم    جمال شعبان يُحذر: ارتفاع ضغط الدم السبب الرئيسي للفشل الكلوي في مصر!| فيديو    محمد رجاء: لم يعد الورد يعني بالضرورة الحب.. ولا الأبيض يدل على الحياة الجميلة    كأس إيطاليا – إنتر ونابولي وأتالانتا إلى ربع النهائي    علاج ألم المعدة بالأعشاب والخلطات الطبيعية، راحة سريعة بطرق آمنة    الحكومة: تخصيص 2.8 مليار جنيه لتأمين احتياجات الدواء    هل يجوز لذوي الإعاقة الجمع بين أكثر من معاش؟ القانون يجيب    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 3ديسمبر 2025 فى المنيا.. اعرف مواقيت صلاتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ظل أكاذيب الغرب
نشر في التغيير يوم 29 - 03 - 2012

لقد أتاحت الثورات العربية الشعبية الأخيرة الفرصة للمراقبين الغربيين أن يواجهوا اكتشافاً مهماً وهو أن أقدم العبارات المبتذلة حول السياسة في الشرق الأوسط، وهي عبارة «الشارع العربي»، ليست إلا أسطورة خبيثة، وفي ذات الوقت واقع حيوي متحرك، فمنذ عقود والصور النمطية التي صنعها المستشرقون عن الثقافة والآراء العربية تصبغ هذا الشارع (وهو تشبيه فظ ومتحجر للرأي العام العربي والمشاعر السياسية عند الناس) والإيحاءات التي تحملها تكاد تكون دائماً سلبية وتتحول إلى تحذيرات حول العواقب في حالة ثوران الشارع، والآن وقد ثار الشعبان التونسي والمصري واندلعت المظاهرات ضد الحكومات في عدد من الدول العربية الأخرى أصبحنا نعلم أن الشارع العربي له وجود بدون ادنى شك ولكنه يبعد كل البعد عن صورة الرجل المرعب التي طالما رسمها وصورها الخيال الغربي.
‎وضاعف المراقبون الغربيون من القلق حول الشارع العربي بقلقاً آخر حول «حلفائنا العرب»، وهؤلاء الحلفاء هم المستبدون الذين رأت الولايات المتحدة أن حكمهم غاية في الأهمية بالنسبة لمصالحها في المنطقة، وهذه المصالح هي تعظيم قوة الولايات المتحدة وتأثيرها، والسيطرة على أسعار الطاقة، والحفاظ وحماية أمن إسرائيل والاستقرار الإقليمي، مما لا شك فيه أن مستقبل الخريطة السياسية العربية لا يزال واضحاً حتى الآن إلّا أن الطابع العام للإحتجاجات العربية كان خير ما يكذّب الحسابات على الطريقة القديمة والأوهام التي ساعدت عليها.
الاستشراق وأسطورة العربي المتخلف
وفندت تماما تلك الطريقة التقليدية لحساب الأمور والأساطير التي ساهمت فى تطورها منذ اللحظة الأولى، وعندها نشأت تلك الصورة الملتوية للشارع العربي في المخيلة الغربية وهي مشحونة بحشود من المتعصّبين دينياً المعادين للغرب والمتصفين بالغضب وقلة العقل والعنف وكلهم مصرون على الفوضى، وهذه الأوهام لها جذور عميقة من المفاهيم الغربية الخاطئة حول العالم العربي كما أوضح إدوارد سعيد في دراسته الشهيرة «الاستشراق» الصادرة عام 1978، حيث استمد سعيد حجته من دراسة العلاقة بين المعرفة والقوة والتى قام بها ميشيل فوكو فرأى أن هناك علاقة صميمة بين السلطة المفترضة لأجل تعريف الرعية والسلطة المفروضة لممارسة الحكم على الرعية، وشرح سعيد أن إحدى المسَلّمات الأساسية غير المنطقية في فكر الإستشراق هي «أن الشرق في نهاية المطاف شيء يجب إما الخوف منه... أو التحكم فيه»، واستطاعت العقول المدبّرة الغربية من خلال شبكة من الإقطاعيات البترولية الاستعمارية الممنوحة بعناية ومن خلال الدول العميلة أن توكّل عملية التحكم هذه إلى حكومات عربية استبدادية لكنها متحالفة مع الولايات المتحدة، وبالتبعية استغل هؤلاء المستبدون المنحازون للغرب والخرافات حول الشارع العربي لأجلمصالحهم الخاصة، فقد ساعدهم وهُم الشعوب الهمجية الخطرة التى من الصعب السيطرة عليها على تحقيق هدفهم بالحصول على الشرعية السياسة، وذلك في حين أنهم كانوا يؤسسون جواً فاسداً مبنى على منطق «أنا ومن بعدي الطوفان».
الصورة المغلوطة
ويعود ذلك التصور الغربي للجماهير العربية الخطيرة إلى أبعد من أوهام السياسات الخارجية «الواقعية» والتى هي حديثة نسبياً، فهو يعود إلى العصور الوسطى، وتحديداً إلى فترة التنافس الديني والسياسي بين الحكم المسيحي (الذي سبق أوروبا الحديثة) ودار الإسلام (التي يستمد منها العالم العربي هويته) كما أظهر نورمان دانييل في كتابه المهم عام 1960 بعنوان «الإسلام والغرب: صناعة الصورة»، ثم استخدم رسالة دانييل في دراسة حديثة صدرت عام 2002 لجون تولان بعنوان «الشرقيين : الإسلام في مخيلة الأوروبيين في العصور الوسطى» وفيها تتبع المؤلف الأصول الدينية التي تعود لقرون بعيدة لذلك الشعور الذي لم يتبدل كثيراً: «الشعور بتفوق الغرب على المسلمين والعرب».
‎حصلت مثل هذه المواقف التقليدية على تأييد متجدد في أدبيات الاستشراق يتناول ما قيل أنه «العقل العربي» المنغلق والمعادي بشدة للتغيير، وهذه الأعمال عادة تبدو في صورة التحقيق الثقافي الغير منحاز ولكن المؤلفين فى واقع الأمر يعبّرون عن القلق الناشئ في العصور الوسطى تجاه القوة العربية أو المسلمة التي تمثل خطراً مميتاً على الغرب، وكان اليمين الإسرائيلي على وجه الخصوص ماهراً جداً في تغذية هذه المخاوف، ومن أشهر الوقائع بهذا الصدد الرسومات الساخرة المشينة التي نشرها رفاييل باتاي في دراسته الصادرة عام 1973 بعنوان «العقل العربي»، وتم إعادة نشر هذا الكتاب السخيف والمسيء بإستمرار والأسوأ من ذلك أنه اُستُخدم في تدريبات ثقافية للجيش الأمريكي وللأسف بالأخص فى التدريبات المتعلقة بالحرب في العراق، كما أصدر ديفيد برايس جونز عريضته المؤثرة في عام 1989 التي حملت عنوان «الدائرة المغلقة: تفسير العرب» حيث أعاد إنتاج الكثير من العداء المتعالي الذي أنتجه باتاي وقام بتشخيص كل الثقافة العربية بدون تمييز كأنها مريضة مدعياً أنها تحكم على أتباعها غير المحظوظين بالقهر الذاتي والاستغلال، ثم جاءت على نحو مشابه قراءة لي سميث الشنيعة للسياسة العربية عام 2010 في كتابه «الحصان القوي: القوة والسياسة وصدام الحضارات العربية» حيث أكّد بدون استحياء أن القوة تصنع الحق في الثقافة العربية، وحيث أن «العنف جزء ركيز من السياسة والمجتمع والثقافة» عند العرب فلن تستمر القسوة فحسب وإنما «اتباع نهج بن لادن يصبح هو السائد سياسياً واجتماعياً».
وهناك كتاب إرشاد منجي الطويل الذي ينم عن جهل شديد بعنوان «مشاكل الإسلام اليوم: دعوة مسلمة إلى الإصلاح في دينها» (عام 2004) حيث تدّعي أن العرب لم يكن لهم دور في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، وهذا يشبه كثيراً أن ندّعي أن أهل إيطاليا لم يكن لهم دور في الثقافة الرومانية، ويلتقط منها الكاتب في صحيفة نيويورك تايمز نيكولاس كريستوف خيط التركيز على الصحراء وزاعماً أن هناك فارق يبن مسلمي الصحراء في الشرق الأوسط حيث تكمن المشكلة في رأيه وبين المسلمين الساحليين في جنوب شرق آسيا حيث لا توجد مشكلة، وينشأ مثل هذا النوع من التفكير من اتجاه ضال يريد أن ينقذ الإسلام من العرب في حين أن الإسلام في الواقع نشأ من الثقافة العربية فهو يتكون من نبي عربي وكتاب مقدس باللغة العربية، ولكن يقول هؤلاء أن الإسلام نفسه ليس هو المشكلة وإنما المشكلة هي الأجداد العرب وثقافتهم الرملية الفقيرة والكريهة.
‎الثورة وكسر الصورة
من شأن الثورات في مصر وتونس أن تُنهي هذا الهراء إلى الأبد، فأي تقييم جاد وصادق لما ينتشر حول العالم العربي سوف يفند كل شيء ورد في تلك الأوهام الخبيثة، فلا شك أن حجم ونطاق وشجاعة الإحتجاجات التي تطالب بالديمقراطية والحكم الرشيد والمساءلة تعني أنه لا أحد يستطيع الإستمرار في رفع الشعارات الإستشراقية القائلة بأن العرب بفطرتهم لا يطيقون التغيير، أو على الأقل لا أحد سيفعل ذلك بنفس الجرأة السابقة، وكذلك فكرة أن الثقافة السياسية العربية تعتمد على العنف بالفطرة تم نفيها بأفضل السبل عن طريق المتظاهرين في تونس ومصر الذين اتسموا بضبط نفس غير عادي وسلمية مبهرة بالرغم من الإستفزاز الشديد والانتهاكات من قِبَل الشرطة والعصابات المأجورة من الحكومة.
لا تستطيع الفكرة الإستشراقية القائلة بأن العرب عندهم نقص ثقافي أن تستمر في ظل النظام الإجتماعي الذى ولد تلقائياً تحت أصعب الظروف في ميدان التحرير بالقاهرة وغيره من الأماكن في مصر وتونس، فقد تلاحم المتظاهرون لحماية بعضهم البعض وخاصة المسلمون والمسيحيون أثناء صلاة كل منهم، وتحالفوا أيضاً لحماية مؤسسات مثل المتحف القومي ولتنظيم لجان شعبية تقوم بالحماية ضد السلب والنهب ولتوفير الرعاية الطبية وغير ذلك من الأعمال، حتى أن المتظاهرين عادوا إلى الميدان بعد الإحتفالات الشديدة التي أعقبت تنحي الرئيس حسني مبارك لأجل تنظيفه وسلموه إلى سلطات الجيش الحاكمة فى حالة ممتازة .
فلنفكر كيف كان يمكن للأحداث في مصر أن تتطور لو كانت الصورة المرسومة في الذهن الغربي عن العرب لها أي تبرير حقيقي وعلى أرض الواقع : كانت الاحتجاجات في القاهرة ستتصف بالعنف والفوضى وكانت ستخضع لقيادة التعصب الديني، ولكن الإسلام والهوية الدينية كادت أن تكون غائبة تماماً عن الثورات في مصر وتونس، وفى الواقع فهذه المحركات المفترض أنها الأهم في الثقافة والسياسة العربية لم يكن لها وجود يذكر في الاحتجاجات الشعبية الأخرى في المنطقة باستثناء الأردن، لم يكن الإسلام هو المحرك لذي دفع ملايين العرب إلى الشوارع مطالبين بالتغيير، بل على العكس، كانت الاحتجاجات نتيجة الوعي الوطني وتعبيراً عنه في ذات الوقت، الوعي الذي وحّد بين المسيحيين والمسلمين والمخلصين في الدين والشكاكين والطبقات الاجتماعية المقيمة في المدن من الطبقة الوسطى العليا إلى الطبقة العاملة الفقيرة.
قد يأمل الإسلاميون في الاستفادة من الانفتاح السياسي الجديد والانتخابات لكن خطابهم ورمزيتهم كانا غائبين عن الثورات العربية، فمنذ زمن بعيد والمستشرقون يغفلون أهمية الهوية الوطنية والشعور الوطنى والوعي الاجتماعي بصفة عامة في العالم العربي، لكن الاحتجاجات العلمانية والموحِّدة الأخيرة المطالبة بالإصلاحات السياسية أظهرت الأثر الحقيقي للحركات الوطنية في المنطقة بدون شك، وأظهرت قدرتها على تعبئة ملايين العرب العاديين من مختلف الطبقات الإجتماعية إلى المخاطرة بكل شيء من أجل التغيير.
انقلاب الحلفاء
في الوقت نفسه لم تكن المظاهرات معادية للغرب على الرغم من أن أكثر الدول التي تظاهرت شعوبها كانت عميلة للولايات المتحدة، فمن المفارقات الثانوية التى لن تستطيع أى نظرية استشراقية تفسيرها هو أن كل الشعارات المعادية للولايات المتحدة وللغرب وللسامية صدرت عن الحكومات الحليفة للغرب وهي محاصَرة أثناء المظاهرات، فجاء نظام حسني مبارك يلقي اللوم على «عناصر أجنبية» أثناء المظاهرات في مصر ملمحاً أن عناصر إيرانية وإسرائيلية وأمريكية كانت تعمل في السر، وكذلك الرئيس اليمني علي عبد الله الصالح اتهم إسرائيل والولايات المتحدة بالتخطيط للإحتجاجات في بلاده، ولم تكن الإحتجاجات مدفوعة بتكنولوجيا التواصل الإجتماعي الغربية ولا بقيم الديمقراطية ولكنها استغلت هذه الوسائل وأصدر المتظاهرون عدة بيانات تناشد الغرب التحرك والدعم وتعبر عن شيء من خيبة الأمل، وعليه فالحركات الثورية العربية قامت لمصلحة أصحابها وليس لمعاداة أي شخص باستثناء المستبدين في بلادهم.
ومع ذلك فالثوار العرب يشتركون في شكوى واحدة محورية من الواجب أن تكون محل اهتمام عاجل للسياسيين الغربيين: وهي الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين الذي بدأ عام 1967، ويبدو على بعض المراقبين الغربيين أنهم مصرّون على وضع حركات تقرير المصير بداخل الدول العربية المستبدة جنباً إلى جنب مع الصراع ضد الإحتلال الاسرائيلي ويعارضون بإفتقار شديد للمنطق أن إستعداد العرب للمطالبة بحريتهم يعني أنهم لا يهتمون بالقضية الفلسطينية، واليمينيون الإسرائيليون وحلفاؤهم المحافظون الجدد من الأمريكيين يسيرون بلا فائدة في هذا الإتجاه، لكنهم إمّا يتعمّدون الخداع أو أنهم غير منتبهين إلى ما يقوله الثوار والرأي العام العربي عن إسرائيل والفلسطينيين، ليس هناك أي مجال للشك أن الإحتلال الإسرائيلي لا يزال هو عدسة الألم التي ينظر من خلالها أغلب العرب إلى العلاقات الدولية وأنهم يدعمون بشدة مطلب الحرية لفلسطين، وكذلك الإقتناع الشديد من اليمين المحافظ بعدم أهمية القضية الفلسطينية لا يتناسب منطقياً مع القلق المرافق له حول مستقبل معاهدة السلام الإسرائيلية مع مصر، وبينما لا يمكن تصوّر إلغاء المعاهدة من قِبَل أي حكومة مصرية في المستقبل يعلم التيار اليميني الإسرائيلي جيداً أن إستعداد الشعوب العربية للكفاح ببسالة من أجل حريتهم لا يعني أنهم يتنازلون عن دعمهم للإستقلال الفلسطيني ولحملة إنهاء الإحتلال.
الأوهام والقناعات القديمة لا تموت بسهولة إن قدّر لها أن تختفي، ولكن ثمة آراء تصحيحية مهمة قدمت للقراء الأمريكيين حتى قبل نشوب موجة الإحتجاجات العربية، وبالفعل جاءت إحدى هذه المراجعات من أحد المحافظين الجدد البارزين وهو جوشوا مورافتشيك في كتابه «المؤسسون المقبلون: أصوات الديمقراطية في الشرق الأوسط» عام 2009 الذي عرض فيه عدة شخصيات عربية إصلاحية تمثل الجيل الصاعد، وليس بالضرورة أن كل الشخصيات التي عرضها مورافتشيك هي الأفضل على الإطلاق غير أن كتاب «المؤسسون المقبلون» أثار النقطة المهمة وهي أن إصلاحاً جاداً ليبرالياً كان قد بدأ في التحقق بالفعل في الفكر السياسي العربي وفي الحياة العربية قبل الثورات الأخيرة وبما تتعدى الأوهام التى كانت قائمة. ولعل أهم الأعمال التي أوضحت كيف كان الإصلاحيون العرب يكتسبون زخماً (وحتى ساعدت في إعداد الأجواء للثورات الحالية) هو كتاب مروان معشر «الوسط العربي: وعد الاعتدال» الصادر عام 2008، وفيه رسالة معشر بمهارة بالغة المعضلة الأساسية التي تواجه الإصلاحيين العرب والتي من شأنها أن تعرقل عمليات التغيير في المستقبل، والمؤلف قد سبق له شغل منصبي وزير خارجية الأردن ونائب رئيس الوزراء، قدم معشر رؤية دقيقة تقول أن المجتمعات العربية تحتاج إلى مبدأين أساسيين هما السلام، من حيث تسوية النزاعات الداخلية والصراعات الإقليمية مثل الصراع العربي الإسرائيلي، والإصلاح الذي يرتكز على شمولية النظام لكل فئات المجتمع والمساءلة وحقوق المواطنين والمرأة والأقليات، والمشكلة التي أشار إليها معشر هي أن الحكومات والنخبة الملتزمة بالسلام تخاف من الإصلاح في حين أن مجموعات المعارضة المؤيدة للإصلاح تكون في أحيانٍ كثيرة معارضة للسلام، ولا نعلم بعد إذا كانت الاحتجاجات الأخيرة ستستطيع أن تجمع بين المبدأين لكن معشر ساعد الحسابات المنطقية مساعدة كبيرة بعرضه لمفردات الوضع الأساسية.
‎تنبيء الثورات بنهضة عربية اجتماعية وسياسية والروح الشعبية المؤيدة لمثل هذا الإحياء واضحة وجلية، لكن هناك مخاطر لا تزال مقبلة على طريق الإصلاح العربي، ومنها مخاوف من الديكتاتوريات العسكرية، والدولة المنقسمة أو الفاشلة، وظهور أغلبيات مستبدة في ديمقراطيات برلمانية غير منضبطة، وليس هناك ما نستفيده من الإسراع في إستبدال الأوهام والقناعات البائسة والمفزعة عن الشارع العربي المشاغب بمديح يصفه بالمثالية والإنتصار العزيز، لكن المراقبين الجادين في الغرب يستطيعون قطعاً أن يسمحوا لصورة الشارع العربي الذي يتصف بالعلمانية والفكر الإصلاحي و –فوق كل شيء- السلام أن تتأسس في أذهانهم، وعندما تختفي المعتقدات الخاطئة والقديمة عن الشارع العربي القديم بكل إيحاءاتها النمطية سنستطيع التطلع إلى وقت لا يُكافأ فيه المفكرون المشهورون في الغرب على تلميحاتهم أن العرب وثقافتهم مرضى وشيطانيين وعلى تشويههم لسمعة العرب، وكلنا نعلم أن الإصلاح الجاد يحتاج إلى وقت وهذا ما يشهد عليه الجيل الجديد من الإصلاحيين العرب وحتى المواطنين العاديين أنفسهم.
نشر هذا المقال بجريدة"ميدان مصر"، والكاتب هو أحد كبار الباحثين في «فريق العمل الامريكي لأجل فلسطين» وله مدونة عنوانها
http://www.ibishblog.com
"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.