منذ حادثة التسرب الإشعاعي الكبير للمفاعل النووي في تشرنوبل بأوكرانيا، في السنوات الأخيرة للاتحاد السوفياتي السابق، وما أحدثته من تلوث إشعاعي فاق نطاق كافة حوادث التسرب السابقة؛ أصبح هذا التلوث بمخلفات اليورانيوم المشع مشكلة بيئية تقض مضاجع العلماء والسياسيين والرأي العام. ودفع ذلك بجماعات الخضر وقطاع من الرأي العام إلى اتخاذ مواقف معارضة لإنتاج الطاقة النووية ومفاعلاتها وموادها المشعة؛ فأصبحت قضية سياسية بالغة الأهمية في بلاد أوروبا واليابان وغيرها. واتخذت مسألة سلامة إنتاج الطاقة النووية أهمية إضافية في ضوء تصاعد أسعار الطاقة التقليدية كالنفط والغاز، وتصاعد أضرار حرق الوقود الأحفوري في البيئة، كزيادة تراكم غازات الاحتباس الحراري داخل الغلاف الجوي للكوكب، وما تؤدي إليه من احترار عالمي، وتغيرات ملموسة ومقلقة في أنماط المناخ، وعواقبها من كوارث طبيعية يسببها النشاط البشري. فأصبحت الطاقة النووية الآمنة والنظيفة بديلاً هاماً مطروحاً لتأمين الحاجة إلى الطاقة الرخيصة ومواجهة التلوث البيئي وآثاره. ترياق اليورانيوم المشع لكن مشكلة التلوث النووي ونتائجها السلبية لا تزال تلوح في الأفق، خاصة آثار التلوث الناجم عن تجارب التفجير النووي التي جرت في مناطق بالولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والجزائر والمحيط الهندي والهادي، وما سبقها من قصف أميركي لمدينتي هيروشيما ونغازاكي باليابان بقنبلتين ذريتين، أوقعتا ضحايا بمئات الآلاف بين قتلى ومشوهين، وآثار صحية امتدت عبر الأجيال التالية، وتلويث البيئة من هواء وماء وتربة. وهذا ما يضفي أهمية خاصة على الجهود العلمية الرامية لمعالجة التلوث. في سياق مشروع بحثي قد يساعد في السيطرة على التلوث بعنصر اليورانيوم المشع، اكتشف العلماء أن بعض البكتيريا الموجودة في التربة وعلى سطح الأرض، تستطيع أن تفرز فوسفات يحول يورانيوم التلوث إلى حالة كيميائية ساكنة، غير قابلة للإذابة. وبناء على دراسات مخبرية، أورد باحثون من معهد تكنولوجيا جورجيا نتائج مشجّعة لاستخدام بكتيريا مأخوذة من ثلاث أنواع تم عزلها من التربة تحت السطحية في مختبرات وزارة الطاقة الأميركية. أجرى الباحثون عملية فرز أولية لعدد من عينات البكتيريا المستخلصة، فوجدوا عدة سلالات صالحة أفرزت فوسفات غير عضوي بعد تحليل مصدر الفوسفات العضوي مائياً. التعدين الحيوي قدمت النتائج الأولية لهذا البحث في اللقاء السنوى للجمعية الكيميائية الأميركية المنعقد بمدينة أطلنطا، بولاية جورجيا. تطلق هذه الكائنات الحية الفوسفات في الوسط المحيط بها، ولكن ترسب فوسفات اليورانيوم يحدث كيميائيا. ولذلك، تعرف هذه الطريقة الجديدة بالتعدين الحيوي لليورانيوم. تبدأ العملية عندما تقوم بكتيريا، من سلالات رانيلا وباسيلوس وربما أرثروباكتر، بتفكيك مركب فوسفات عضوي مثل فوسفات غليسيرول-3 أي (G3P)، أو الحمض النباتي (IP6)، والذي يحتمل تواجده في التربة تحت السطحية. وخلال نموها، تقوم الكائنات الحية بتحرير الفوسفات الذي تشتقه من مركبات الفوسفات العضوية. يتم إطلاق الفوسفات الحر في الوسط المحيط، وهو محلول في المختبر. ثم يقوم الباحثون بعملية تحليل وتقييم لتحديد كمية اليورانيوم التي تم تعدينها (حيويا) بالفوسفات الذي تطلقه البكتيريا. يعتبر دور البكتيريا أساسيا في هذه العملية لأن اليورانيوم لا يستطيع فك مركب الفوسفات العضوي كيميائيا. لذلك، وجود اليورانيوم مع الفوسفات العضوي وحده لا ينتج عنه ترسب ملموس لليورانيوم. اهتم بعض أعضاء فريق البحث بالجزء الميكروبيولوجي والفسيولوجي من المشروع، بينما درس آخرون كيمياء اليورانيوم، وحللوا توزيع مختلف صور اليورانيوم عبر تطور البحث مخبرياً. تعدد صور اليورانيوم في البيئة يحير العلماء، وكلها تتأثر بالخصائص الطبيعية للتربة والمياه الجوفية. ويسعى الباحثون لتحديد الظروف "الأمثل" المحيطة بتقييم التعدين الحيوي لليورانيوم كمياً، من أجل توزيع الكائنات الحية المتصلة باليورانيوم في المختبر. استراتيجية علاج حيوي هناك طريقتان لوقف انتشار اليورانيوم في التربة. إحداهما تختزل يورانيوم-6 إلى يورانيوم-4 وهو ساكن بطبيعته. لكن اليورانيوم قادر على إعادة التأكسد ولو بالقليل من أكسجين ماء المطر الذي يتسرب إلى المياه الجوفية. بينما تقوم طريقة معهد تكنولوجيا جورجيا بتعدين حيوي ليوارنيوم-6، بحيث يجعله صورة غير قابل للإذابة بعد ترسبه بواسطة الفوسفات. وفي سعيهم لاستراتيجية علاج حيوي فاعل في التطبيق، ينبغي للباحثين تصميم آلية للتعامل مع الكائنات الحية المتنافسة في التربة والتي يمكنها الاستحواذ على الفوسفات الحر. ولدى التأكد من دور البكتيريا في ترسيب فوسفات اليورانيوم، تبقى الحاجة إلى تحديد مستوى استقراره كيميائياً. كذلك، وجد الباحثون أنه عندما تحرر البكتيريا الفوسفات من مركب الفوسفات العضوي (G3P)، تستطيع البكتيريا أن تتحمل تسمم اليورانيوم والاستمرار في النمو والتكاثر بمجرد ترسب اليورانيوم بواسطة الفوسفات المحرر. ويبقى التحدي الأهم للباحثين هو تحسين الظروف المحيطة بالبكتيريا، كي تزدهر في النهاية وتعمل كيميائيا في إطار طبيعي. تمثل مشكلة التلوث باليورانيوم هما بيئيا كبيرا لمنشآت وزارة الطاقة الأميركية لأنه قادر على الانسياب إلى المياه الجوفية في المناطق المحيطة. وجل هذا التلوث يأتي من مخلفات المفاعلات النووية التي كانت تحفظ في أوعية من الرصاص لمنع نفاذ الإشعاعات، ثم أصبحت تدفن بباطن الأرض في منشآت خرسانة مسلحة ومصممة خصيصاً لكي تعزل هذه المخلفات المشعّة عن البيئة لمئات السنين.